موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: تَعريفُ البَيانِ والمُبَيَّنِ والمُبَيِّنِ


أوَّلًا: تَعريفُ البَيانِ
البَيانُ لُغةً: مَصدَرٌ بمَعنى الإظهارِ والتَّوضيحِ، وبانَ الشَّيءُ بَيانًا: اتَّضَحَ [496] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/2083)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/67). .
واصطِلاحًا: قدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في تَعريفِ البَيانِ، والسَّبَبُ في اختِلافِهم فيه أنَّه يُطلَقُ على كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأُمورِ الثَّلاثةِ الآتيةِ:
الأوَّلُ: فِعلُ المُبَيِّنِ، وهو الإعلامُ والتَّبيينُ.
والثَّاني: ما يَحصُلُ به الإعلامُ، وهو الدَّليلُ.
والثَّالِثُ: مُتَعَلِّقُ الإعلامِ ومَحَلُّه، وهو العِلمُ الحاصِلُ عنِ الدَّليلِ.
فمَن نَظَرَ إلى فِعل المُبَيِّنِ عَرَّفه بأنَّه: إخراجُ الشَّيءِ مِن حَيِّزِ الإشكالِ إلى حَيِّز الوُضوحِ والتَّجَلِّي [497] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/370)، ((المنخول)) للغزالي (ص: 63)، ((الإحكام)) للآمدي (3/25)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/105)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/88). .
ومَن نَظَرَ إلى الدَّليلِ عَرَّفه بأنَّه: الدَّليلُ الموصِلُ بصحيحِ النَّظَرِ فيه إلى العِلمِ أوِ الظَّنِّ بالمَطلوبِ [498] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/370)، ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/39)، ((المنخول)) للغزالي (ص: 63)، ((المحصول)) للرازي (3/150)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/88). .
ومَن نَظَرَ إلى مُتَعَلِّقِ الإعلامِ ومَحَلِّه عَرَّفه بأنَّه: العِلمُ أوِ الظَّنُّ الحاصِلُ مِنَ الدَّليلِ [499] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1798)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/89). .
وقال العَبدَريُّ بَعدَ حِكايةِ المَذاهبِ السَّابِقةِ: (الصَّوابُ: أنَّ البَيانَ هو مَجموعُ هذه الأُمورِ الثَّلاثةِ، فعلى هذا يَكونُ حَدُّه: أنَّه انتِقالُ ما في نَفسِ المُعلِّمِ إلى نَفسِ المُتَعَلِّمِ بواسِطةِ الدَّليلِ) [500] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/90). .
ثانيًا: تَعريفُ المُبَيَّنِ
اللَّفظُ المُبَيَّنُ يُطلَقُ على مَعنَيَينِ:
1- الخِطابُ المُبتَدَأُ المُستَغني بنَفسِه عن بَيانٍ.
2- الخِطابُ الذي يَحتاجُ إلى البَيانِ، وقد ورَدَ عليه بَيانُه، وذلك كاللَّفظِ المُجمَلِ إذا بُيِّنَ المُرادُ مِنه، والعامِّ بَعدَ التَّخصيصِ، والمُطلَقِ بَعدَ التَّقييدِ، والفِعلِ إذا اقتَرَنَ به ما يَدُلُّ على الوَجهِ الذي قُصِدَ منه ذلك.
أي أنَّ المُبَيَّنَ يُفهمُ منه عِندَ الإطلاقِ مَعنًى مُعَيَّنٌ، مَن نَصٍّ أو ظُهورٍ، بالوضعِ أو بَعدَ البَيانِ، فيَدُلُّ بالوضعِ على مَعنًى؛ إمَّا بالأصالةِ، وإمَّا بَعدَ البَيانِ [501] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/232)، ((الإحكام)) للآمدي (3/26)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 274)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1795)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/671). .
وذلك أنَّ البَيانَ قد يَكونُ بأصلِ الوضعِ، وقد يَكونُ بالقَرينةِ.
مِثالُ البَيانِ بأصلِ الوَضعِ: قَولُ اللهِ تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] ، وقَولُه تعالى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة: 196] ، وقَولُه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة: 196] ، وغَيرُ ذلك؛ لأنَّ أسماءَ الأعدادِ نُصوصٌ لا تَحتَمِلُ أن يُرادَ بها غَيرُ مَدلولاتِها، وكذلك قَولُه تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ، وقَولُه تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] ، وقَولُه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151] .
ومِثالُ البَيانِ بالقَرينةِ: آياتُ الصَّلاةِ، وآياتُ الزَّكاةِ، وآياتُ الحَجِّ؛ لأنَّها مُجمَلةٌ بَيَّنَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه وبفِعلِه.
فقال في الصَّلاةِ: ((صَلُّوا كما رَأيتُموني أُصَلِّي)) [502] أخرجه البخاري (631) من حديثِ مالِكِ بنِ الحُوَيرِثِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُه: أتَينا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ شَبَبةٌ مُتَقارِبونَ، فأقَمنا عِندَه عِشرينَ يَومًا وليلةً، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَحيمًا رَفيقًا، فلمَّا ظَنَّ أنَّا قدِ اشتَهَينا أهلَنا -أو قدِ اشتَقنا- سَألَنا عَمَّن تَرَكْنا بَعدَنا، فأخبَرْناه، قال: ارجِعوا إلى أهليكُم، فأقيموا فيهم وعَلِّموهم ومُروهم وذَكَرَ أشياءَ أحفَظُها أو لا أحفَظُها- وصَلُّوا كَما رَأيتُموني أُصَلِّي، فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فليُؤَذِّنْ لكُم أحَدُكُم، وليَؤُمَّكُم أكبَرُكُم. .
وقال في الزَّكاةِ: ((فيما سَقَت السَّماءُ العُشرُ، وفيما سُقيَ بنَضحٍ أو داليةٍ نِصفُ العُشرِ)) [503] أخرجه البخاري (1483) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلَفظِ: عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((فيما سَقَتِ السَّماءُ والعُيونُ أو كان عَثَريًّا العُشرُ، وما سُقيَ بالنَّضحِ نِصفُ العُشرِ)). .
وقال في الحَجِّ: ((خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم)) [504] أخرجه مسلم (1297) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرمي على راحِلَتِه يَومَ النَّحرِ، ويَقولُ: لتَأخُذوا مَناسِكَكُم؛ فإنِّي لا أدري لَعَلِّي لا أحُجُّ بَعدَ حَجَّتي هذه. [505] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/295). .
ثالِثًا: تَعريفُ المُبَيِّنِ
اسمُ فاعِلٍ مِن بَيَّنَ يُبَيِّنُ فهو مُبَيِّنٌ، أي: مُوضِّحٍ لغَيرِه، وهو: الدَّليلُ المُبَيِّنُ [506] يُنظر: ((الجامع)) لعبد الكريم النملة (ص: 200). .
وهو قد يَكونُ قولًا، وقد يَكونُ فعلًا مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد يَكونُ كِتابةً، وقد يَكونُ تَركًا للفِعلِ، وقد يَكونُ سُكوتًا، وقد يَكونُ إشارةً [507] يُنظر: ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (4/88)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1248). .

انظر أيضا: