غريب الكلمات:
جَنَفًا: ميلًا ظاهرًا، وعدولًا؛ يقال: جنَف، إذا عدَل وجار [1613] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/486)، ((المفردات)) للراغب (ص: 207)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .
جَنَفًا: ميلًا ظاهرًا، وعدولًا؛ يقال: جنَف، إذا عدَل وجار [1613] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/486)، ((المفردات)) للراغب (ص: 207)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ... الْوَصِيَّةُ:
الْوَصِيَّةُ: مرفوعةٌ بالابتداء، والخبرُ محذوف، أي: فعليكم الوصيةُ. ونائب الفاعل لـكُتِبَ حينئذٍ محذوفٌ، تقديره (هو)، أي: الإيصاء، دلَّ عليه قوله: الْوَصِيَّةُ. أو نائب الفاعل عَلَيْكُم.
أو تكون الْوَصِيَّةُ نائبَ الفاعِل للفِعل كُتِبَ، وجاز تذكيرُ الفِعل مع أنَّ لفظ الوصية مؤنَّث؛ لأنَّه أراد بالوصية الإيصاء، أو لكونِ القائمِ مقامَ الفاعل الْوَصِيَّةُ مؤنَّثًا مجازيًّا، وفُصل بينه وبين مرفوعه بفاصل؛ لأنَّ الكلام لَمَّا طال كان الفاصل بين المؤنَّث والفِعل كالعِوَض من تاء التأنيث، والعرب تقول: حضَر القاضي امرأةٌ، فيُذكِّرون؛ لأنَّ القاضي بين الفِعل وبين المرأة [1614] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/119)، ((تفسير الرازي)) (5/232)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/258)، ((تفسير القاسمي)) (2/12)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/146). .
فرَض اللهُ على المؤمنينَ في هذه الآياتِ حين يشرف أحدُهم على الموت، وتأتيه أسبابُه إنْ كان لديه مال: أنْ يوصيَ ببعضِه إلى والديه وأقاربِه، مَن كان منهم غيرَ وارثٍ، مِن غير سرَفٍ ولا تقتير، مراعيًا فيه الأقربَ والأحوجَ، من غير ضررٍ بالوَرَثَة، هذا الأمرُ بالوصيَّة أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على مَن اتَّصَف بالتَّقوى.
فمَن غيَّر الوصيةَ بعد سماعِه لها من الموصي بالزِّيادةِ أو النقصان، أو غيرِ ذلك، فقد تحمَّل هو الإثمَ، وبرِئَت ذِمَّة الموصي، والله تعالى سميعٌ عليمٌ وسيُجازي كلًّا بما يستحقُّ.
ومَن خشِي أنْ يَميلَ الموصي في وصيَّتِه عن الحقِّ والعدلِ، سواء بالخطأ غيرِ المقصود، أو كان متعمِّدًا، فلا إثمَ عليه أنْ يقومَ بنصيحتِه وتوضيحِ التَّصرُّف الصَّحيح للموصي، أو يقومَ بتعديلها بما يوافقُ الشَّرعَ بعد موتِ الموصي، وبهذا يزولُ فسادُ الوصية، ويحلُّ ما قد يحصُلُ مِن شِقاقٍ بين الموصي والوَرَثَة، أو بين الوَرَثَة مع الموصَى لهم.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان في الخِطاب السَّابق ذِكْرُ القَتْلِ، والقِصاص الذي هو حالُ حضور الموتِ، انتظَم به ذِكرُ الوصيَّة؛ لأنَّه حالُ مَن حضَره الموتُ، فقال تعالى [1615] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/33). :
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180).
أي: فُرِضَ عليكم- أيُّها المؤمنون- إذا أتَتْكم أسبابُ الموت ومقدِّماتُه، وكان لديكم مالٌ: أنْ تعهَدوا ببعضِ هذا المال إلى الوالديْنِ اللَّذيْن لا يرثان لمانع، وإلى الأقارب الذين لا يرثون، وذلك مِن غير إسرافٍ ولا تقتير، ولا اقتصارٍ على الأبعدِ دون الأقرب، بل يُرتَّبون على القُربِ والحاجة، ودون إجحافٍ بالوَرَثةِ، فلا تُتجاوَزُ الوصيةُ لأولئك بأكثرَ من ثُلُث المال، وهذا أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على المتَّصفين بالتَّقوى [1616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/123، 124، 138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 85)، (2/305-308). وحَكَى الماورديُّ والقرطبيُّ: الإجماعَ على أنَّ الخير هنا بمعنى المال. يُنظر: ((النكت والعيون)) (1/231)، ((تفسير القرطبي)) (2/259). وذهب إلى أنَّ الآيةَ غير منسوخة: ابن جرير في ((تفسيره)) (3/124)، والنَّحَّاس في ((الناسخ والمنسوخ)) (ص: 88)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 85). وذهب إلى ذلك أيضًا: الحسن البصري، وطاوس، وقَتادة، والعلاء بن زيد، ومُسلِم بن يَسار. يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) لهِبة الله بن سلامة (ص: 41). وممَّن قال بأنَّ الآية منسوخة بآية المواريث: الواحدي في ((التفسير الوسيط)) (1/268-269)، وابن كثير في ((تفسيره)) (1/492)، وابن عاشور في ((تفسيره)) (2/149). ورُوي ذلك عن ابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبير، ومحمد بن سيرين، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسُّدِّي، ومقاتل بن حيَّان، وإبراهيم النَّخَعي، والضَّحَّاك، والزهري. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/299). .
عن أبي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في خطبتهِ عامَ حجةِ الوداعِ: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى، قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيةَ لوارثٍ )) [1617] أخرجه أبو داود (2870)، والترمذي (2120) واللفظ له، وابن ماجه (2713)، وأحمد (22348) حسَّنه الإمام أحمد كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (286)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح. وحسَّنه ابن عبد البرِّ في ((التمهيد)) (24/439)، وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (4/189): فيه إسماعيلُ بن عيَّاش؛ مختلَف فيه، ويجب أن يُقال لحديثه: حسن. وصحَّحه الذهبي في ((تنقيح التحقيق)) (2/157)، وحسَّنه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/263)، وجوَّد إسنادَه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/138)، وحسَّنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/315)، وذكر الصنعانيُّ في ((سبل السلام)) (3/166) أنَّ له طرقًا، وقال: ولا يخلو إسنادُ كلِّ واحد منها عن مقال، لكن مجموعها ينهض على العملِ به. وقال الشوكاني في ((السيل الجرار)) (4/497): لا يوجد عِلَّة يُعلُّ بها. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2870): حسن صحيح. وحسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تحقيق ((مسند أحمد)) (5/267). .
وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((تشكَّيتُ بمكةَ شكوى شديدةً، فجاءني النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يعودني، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إني أترك مالًا، وإني لم أترك إلا ابنةً واحدةً، فأوصي بثُلثَيْ مالي وأتركُ الثُّلثَ؟ فقال: لا. قلتُ: فأُوصي بالنِّصفِ وأترك النصفَ؟ قال: لا. قلتُ: فأوصي بالثلثِ وأترك لها الثُّلثين؟ قال: الثُّلثُ، والثُّلثُ كثيرٌ )) [1618] رواه البخاري (5659) واللفظ له، ومسلم (1628). .
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ سبحانه وتعالى أمرَ الوصيةِ ووجوبها، وعظَّم أمرها، أتبَعه بما يَجري مجرى الوعيد في تغييرها، فقال تعالى [1619] يُنظر: ((تفسير الرازي)) للرازي (5/235). :
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181).
أي: فمَن غيَّر الوصية بعدَما سمعها من الموصي بأنْ زاد فيها أو أنقَص أو غير ذلك، فقد تعلَّق الإثمُ به، أمَّا الموصي من غير جَنَفٍ ولا إثم فقد برِئَتْ ذمَّته، والله تعالى يسمع ويعلَمُ حالَ الاثنينِ، الموصي والمبدِّلِ وصيَّتَه، ويجازي كلًّا بما يستحقُّ [1620] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/139، 141)، ((تفسير ابن كثير)) (1/495)، ((تفسير السعدي)) (ص: 85)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/152). .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182).
أي: فَمَنْ خاف أنْ يَحيد الموصي في وصيَّته عن الحقِّ، سواءٌ عن غير قصدٍ منه، أو متعمدًا؛ وذلك كأن يوصيَ لغير الورثة بأكثرَ من ثُلث ماله، فهذا لا إثمَ عليه إنْ نصَح الموصي في حياتِه بتبديل الوصيةِ، فبدَّلها، أو قام المصلحُ بتبديلها بعد موته، فعدَّلها على الوجهِ الشَّرعي، وبهذا يزول فسادُ الوصية، ويزول معه أيُّ شِقاقٍ وقَع بين الموصِي والوَرَثة، أو بين الوَرَثة والموصَى لهم [1621] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/147)، ((تفسير ابن عطية)) (1/249)، ((تفسير ابن كثير)) (1/495-496)، ((تفسير السعدي)) (ص: 85-86)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/153-154)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/312-315). .
1- أهميَّة صِلة الرَّحِم؛ حيث أوجب الله الوصيةَ للوالدينِ والأقربين بعد الموت؛ لأنَّ صِلة الرَّحِم من أفضل الأعمال المقرِّبةِ إلى الله تعالى [1622] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/308). .
2- أنَّ المتَّقين هم الَّذين يراعون فرائضَ الله؛ ولذلك وجَّه الخطابَ إليهم؛ لقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [1623] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/308). .
3- فضيلة القيام بالإصلاح؛ لقوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [1624] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/314). .
في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، خَصَّ الوالديْنِ والأقربين بالوصية؛ قيل: لأنَّهم مظنَّة النِّسيان من الموصي؛ لأنَّهم كانوا يُورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة، وقدَّم الوالدينِ للدلالة على أنَّهما أَوْلى وأحقُّ في البَدْءِ بالوصيَّةِ لهما [1625] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/148). .
1- قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ فيه تقديمٌ وتأخير، حيث أخَّر (الوصية) الذي هو نائِب فاعل (كُتِب)؛ للتشوُّف إليه [1626] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/232)، ((تفسير القاسمي)) (2/12)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/146). . وهذا بناءً على أنَّ (الوصية) نائب فاعل لـ(كتب)، وأمَّا على كون (الوصية) مرفوعة بالابتداء؛ فليس فيها تقديم ولا تأخير.
2- قوله: لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ قدَّم الوالدين؛ للدَّلالة على أنَّهما أرجحُ في الابتداء بالوصية لهما [1627] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/148). .
3- قوله: حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ فيه تأكيد للوجوب بقوله: حَقًّا، وكذا قوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ؛ فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على مَن يسأله عن النَّقير والقِطمير [1628] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (2/13). .
4- قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فيه حصر، والضَّمير في قوله: إِثْمُهُ عائد إلى التبديل، أي: إنَّ إِثم ذلك التبديل لا يعود إلَّا إلى المبدِّل [1629] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/224)، ((تفسير الرازي)) (5/2365-236). .
- وفيه: إقامة الظاهر مقامَ المضمر؛ لزيادة الاهتمام بشأنه، ولو جرَى على نسَق الكلام السابق لقال: (فإنَّما إثمُه عليه وعلى مَن يبدِّله)؛ وذلك للتَّشهير والمناداة بفضائح المبدِّلين، وليشعر بعِلِّيَّة الإثم الحاصل، وهو التبديل [1630] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/166)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/259). .
5- قوله: إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في هاتين الصِّفتين: سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديدٌ ووعيدٌ للمبدِّلين؛ إذ لا يَخفى عليه تعالى شيءٌ، فهو يُجازيهم على تبديلهم شرَّ الجزاء [1631] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/166). ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبر بـإِنَّ واسميَّة الجملة، وما في صِيغة (فَعيل) من المبالغة.