مَنزِلةُ الأدَبِ عِندَ السَّلَفِ
للأدبِ عِندَ السَّلَفِ مَنزِلةٌ عَليَّةٌ، ومَرتَبةٌ سَنيَّةٌ، وقد كانوا يَحُضُّونَ عليه شَديدًا، ويَحثُّونَ النَّاشِئةَ على تَعَلُّمِ الأدَبِ والهَديِ والسَّمتِ مَعَ العِلمِ، ويَرونَ أنَّ أحَقَّ النَّاسِ بالعِلمِ أحَسَنُهم تَأديبًا، وأنَّ الأدَبَ سَبَبُ الخَيرِ في الدُّنيا والآخِرةِ
[63]وكانوا يَتَّخِذونَ مُرَبِّينَ لأولادِهم، ويوصونَهم ويتعاهَدونهم، وأخبارُهم في هذا كَثيرةٌ مَشهورةٌ. (وكان تَأديبُ الأولادِ وظيفةً تَخَصُّصيَّةً يُباشِرُها المُتَأهِّلونَ لها، حتَّى كان يُلقَّبُ الإمامُ ابنُ أبي الدُّنيا بـ "مُؤَدِّب أولادِ الخُلفاءِ"، وكانوا يَحرِصونَ أشَدَّ الحِرصِ على مَتانةِ الرَّوابطِ بَينَهم وبَينَ مَن يُؤَدِّبونَ أولادَهم، وكانوا يَحزَنونَ إذا غابوا عن أولادِهم؛ خَشيةَ أن لا يُؤَدَّبوا على ما يُريدونَ ويَشتَهونَ. فقد ذَكَرَ الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ أنَّ المَنصورَ بَعَثَ إلى مَن في الحَبسِ مِن بَني أُميَّةَ، يَقولُ لهم: (ما أشَدَّ ما مَرَّ بكُم في هذا الحَبسِ؟ فقالوا: ما فَقَدنا مِن تَربيةِ أولادِنا). ((الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام)) للمقدم (ص: 136) .
وقد ورَدَت عنهم في ذلك أخبارٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
- (كان أصحابُ عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَرحَلونَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، فيَنظُرونَ إلى سَمْتِه وهَدْيِه ودَلِّه، فيَتَشَبَّهونَ به)
[64] يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (4/ 274). .
- وعن ابنِ أبي أُوَيسٍ، قال: سَمِعتُ خالي مالِكَ بنَ أنَسٍ يَقولُ: (كانت أُمِّي تُلبِسُني الثِّيابَ وتُعَمِّمُني وأنا صَبيٌّ وتُوَجِّهُني إلى رَبيعةَ بنِ أبي عَبدِ الرَّحمَنِ، وتَقولُ: يا بُنَيَّ، ائتِ مَجلِسَ رَبيعةَ فتَعَلَّمْ مِن سَمتِه وأدَبِه قَبلَ أن تَتَعَلَّمَ من حَديثِه وفِقهِه)
[65] ((التمهيد)) لابن عبد البر (3/ 4). .
- وقال ابنُ وَهبٍ: (الذي تَعَلَّمْنا مِن أدَبِ مالِكٍ أكثَرُ مِمَّا تَعلَّمْنا مِن عِلمِه)
[66] ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض (1/ 127). .
- وعن ابنِ المُبارَكِ، قال: قال لي مَخلَدُ بنُ الحُسَينِ: (نَحنُ إلى كَثيرٍ مِنَ الأدَبِ أحوجُ مِنَّا إلى كَثيرٍ مِنَ الحَديثِ)
[67] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 80). .
- وقال عَبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ: (طَلَبتُ الأدَبَ ثَلاثينَ سَنةً، وطَلَبتُ العِلمَ عِشرينَ سَنةً؛ كانوا يَطلُبونَ الأدَبَ ثُمَّ العِلمَ)
[68] ((غاية النهاية)) لابن الجزري (1/ 446). .
وقال أيضًا:
جَرَّبتُ نَفسي فما وجَدتُ لها
مِن بَعدِ تَقوى الإلهِ كالأدَبِ
في كُلِّ حالاتِها وإن كَرِهَت
أفضَل مِن صَمتِها عنِ الكَذِبِ
أو غِيبة النَّاسِ إنَّ غِيبَتَهم
حَرَّمَها ذو الجَلالِ في الكُتْبِ
قُلتُ لها طائِعًا وأُكرِهُها
الحِلمُ والعِلمُ زَينُ ذي الحَسَبِ
[69] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 416). .
- وقال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ: (إنْ كُنَّا لنَأتي الرَّجُلَ ما نُريدُ عِلمَه وحَديثَه، إنَّما نَأتي لِنَتَعَلَّمَ مِن هَديِه وسَمتِه ودَلِّه)
[70] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (11/ 51). .
- وكان يَجتَمِعُ في مَجلِسِ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ زُهاءُ خَمسةِ آلافٍ أو يَزيدونَ، أقَلُّ مِن خَمسِمِائةٍ يَكتُبونَ، والباقونَ يَتَعَلَّمونَ مِنه حُسنَ الأدَبِ، وحُسنَ السَّمتِ
[71] ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 288). .
- (وقد رُويَ عن أميرِ المُؤمِنينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: تَأدَّبوا ثُمَّ تَعَلَّموا.
وقال أبو عَبدِ اللهِ البَلخيُّ: أدَبُ العِلمِ أكثَرُ مِنَ العِلمِ.
وقال عَبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ: إذا وُصِف لي رَجُلٌ له عِلمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ ولا أدَبَ له، لا أتَأسَّفُ على فَوتِ لِقائِه، وإذا سَمِعتُ برَجُلٍ له أدَبُ النَّفسِ أتَمَنَّى لِقاءَه، وأتَأسَّفُ على فَواتِه)
[72] ((الغنية لطالبي طريق الحق)) للجيلاني (1/ 116). .
- وعن إبراهيمَ بنِ حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ، قال: قال لي أبي: (يا بُنَيَّ، ايتِ الفُقَهاءَ والعُلَماءَ، وتَعلَّمْ مِنهم، وخُذْ مِن أدَبِهم وأخلاقِهم وهَدْيِهم؛ فإنَّ ذاكَ أحَبُّ إليَّ لك مِن كَثيرٍ مِنَ الحَديثِ)
[73] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 80). .
- عن مُحَمَّدِ بنِ نُعَيمٍ الضَّبِّيِّ، قال: سَمِعتُ أبا زَكَريَّا العنبَريَّ يَقولُ: (عِلمٌ بلا أدَبٍ كنارِ بلا حَطَبٍ، وأدَبٌ بلا عِلمٍ كرُوحٍ بلا جِسمٍ)
[74] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 80). .
- وقال أبو عَبدِ اللهِ البُوشَنجيُّ: (مَن أرادَ العِلمَ والفِقهَ بغَيرِ أدَبٍ فقدِ اقتَحَمَ أن يَكذِبَ على اللهِ ورَسولِه)
[75] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (51/ 208). .
- وقال بَعضُ السَّلَفِ: ناهيك مِن شَرَفِ الأدَبِ أنَّ أهلَه مَتبوعونَ، والنَّاسُ تَحتَ راياتِهم، فيَعطِفُ رَبُّك تعالى عليهم قُلوبًا لا تَعطِفُها الأرحامُ، وتَجتَمِعُ بهم كَلمةٌ لا تَأتَلِفُ بالغَلَبةِ، وتُبذَلُ دونَهم مُهَجُ النُّفوسِ
[76] ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (1/ 234). .