عِشرونَ: تعاهُدُ القرآنِ بالتِّلاوةِ والحَذَرُ مِن هَجرِه
يَنبَغي تَعاهُدُ القُرآنِ، ويُحذَرُ أشَدَّ الحَذَرِ مِن هَجرِه وتَعريضِه للنِّسيانِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30] .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي يَعني الكُفَّارَ الذينَ حُكيَ عنهم ما حُكيَ مِنَ الشَّنائِع
اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا الذي مِن جُملتِه الآياتُ النَّاطِقةُ بما يَحيقُ بهم في الآخِرةِ مِن فُنونِ العِقابِ
مَهْجُورًا أي: مَتروكًا بالكُلِّيَّةِ، ولم يُؤمِنوا به ولم يَعرِفوا إليه رَأسًا، ولم يَتَأثَّروا بوعيدِه.
وفيه تَلويحٌ بأنَّ مِن حَقِّ المُؤمِنِ أن يَكونَ كَثيرَ التَّعاهدِ للقُرآنِ؛ كَي لا يَندَرِجَ تَحتَ ظاهِرِ النَّظمِ الكَريمِ
[1785] يُنظر: ((إرشاد العقل السليم)) لأبي السعود (6/ 215). .
قال ابنُ الفرسِ: (يَحتَمِلُ
مَهْجُورًا أن يَكونَ مِنَ الهَجرِ، يُريدُ مُبعَدًا مُقصًى، وهو قَولُ ابنِ زَيدٍ. ويحتملُ أن يُريدَ مَقولًا فيه هُجْرٌ؛ إشارةً إلى قَولِهم: شِعرٌ وكِهانةٌ وسِحرٌ، وهو قَولُ مُجاهِدٍ والنَّخَعيِّ.
وفي قَولِ ابنِ زَيدٍ تَنبيهٌ على تَعاهُدِ المُصحَفِ، وأن لا يُطرَحَ في البُيوتِ ولا يُقرَأَ فيه)
[1786] ((أحكام القرآن)) (3/ 396). وقال السُّيوطيُّ: (قَولُه تعالى: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا قال ابنُ الفرسِ: فيه كَراهةُ هَجرِ المُصحَفِ، وعَدَمِ تَعَهُّدِه بالقِراءةِ فيه). ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 197). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بئسَما لأحَدِهم يَقولُ: نَسِيتُ آيةَ كَيتَ وكَيتَ، بَل هو نُسِّيَ، استَذكِروا القُرآنَ؛ فلهو أشَدُّ تَفَصِّيًا [1787] أشَدُّ تَفصِّيًا، يَعني: ذَهابًا وانفِلاتًا. ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 1947). مِن صُدورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَمِ بعُقُلِها [1788] النَّعَمُ: الإبلُ، ولا واحِدَ له مِن لفظِه. والعُقُلُ: جَمعُ عِقالٍ، وهو ما تُعقَلُ به النَّاقةُ. ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (2/ 420). ) [1789] أخرجه البخاري (5032)، ومسلم (790) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ:
((تَعاهَدوا هذه المَصاحِفَ -ورُبَّما قال: القُرآنَ- فلهو أشَدُّ تَفصِّيًا مِن صُدورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَمِ مِن عُقُلِه)) [1790] أخرجها مسلم (790). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما مَثَلُ صاحِبِ القُرآنِ كمَثَلِ الإبِلِ المُعَقَّلةِ [1791] أي: المشدودةِ بالعُقُلِ، جمعُ عِقالٍ، وهو الحبلُ الذي تُشَدُّ به ركبتُه. يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (4/ 150)، ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (5/ 36). ، إن عاهَد عليها أمسَكَها، وإن أطلَقَها ذَهَبَت)) [1792] أخرجه البخاري (5031)، ومسلم (789). .
وفي رِوايةٍ:
((وإذا قامَ صاحِبُ القُرآنِ فقَرَأه باللَّيلِ والنَّهارِ ذَكَرَه، وإذا لم يَقُمْ به نَسِيَه)) [1793] أخرجها مسلم (789). .
3- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((تَعاهَدوا هذا القُرآنَ، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)) [1794] أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791) واللفظ له. .
و(التَّعَهُّدُ والتَّعاهُدُ: هو التَّحَفُّظُ بالشَّيءِ وتَجديدُ العَهدِ به، ومَعناه هاهنا التَّوصيةُ بتَجديدِ العَمَلِ بقِراءَتِه؛ لئَلَّا يَذهَبَ عنه، وفي مَعناه: «استَذكِروا القُرآنَ»: أي: تَفَقَّدوا القُرآنَ بالذِّكرِ، وهو عِبارةٌ عنِ استِحضارِه في القَلبِ وحِفظِه عنِ النِّسيانِ بالتِّلاوةِ، وهو في رِوايةِ ابنِ مَسعودٍ، وفيه: «لهو أشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها»، والتَّفَصِّي مِنَ الشَّيءِ: التَّخَلُّصُ مِنه، تَقولُ: تَفَصَّيتُ مِنَ الدُّيونِ: إذا خَرَجتَ مِنها. وعُقُلٌ: جَمعُ عِقالٍ، مِثلُ كُتُبٍ وكِتابٍ، يُقالُ: عَقَلتُ البَعيرَ أعقِلُه عَقلًا، وهو أن يَثنيَ وظيفَه
[1795] الوَظيفُ: مُستَدَقُّ الذِّراعِ والسَّاقِ مِنَ الخَيلِ والإبِلِ ونَحوِهما. ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1439). مَعَ ذِراعِه، فيَشُدَّهما جَميعًا في وسَطِ الذِّراعِ، وذلك الحَبلُ هو العِقالُ. وتَقديرُ الكَلامِ: لهو أشَدُّ مِنَ الإبِلِ تَفَصِّيًا مِن عُقُلِها.
والمَعنى: أنَّ صاحِبَ القُرآنِ إذا لم يتعاهَدْه بتِلاوتِه والتَّحَفُّظِ والتَّذَكُّرِ حالًا فحالًا، إلَّا كان أشَدَّ ذَهابًا مِنَ الإبِلِ إذا تَخَلَّصَت مِنَ العِقالِ، فإنَّها تَنفَلِتُ حتَّى لا تَكادَ تُلحَقُ)
[1796] ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتُّورِبِشْتِي (2/ 507). وقال ابنُ حَجَرٍ: (التَّحريرُ أنَّ التَّشبيهَ وقَعَ بَينَ ثَلاثةٍ بثَلاثةٍ؛ فحامِلُ القُرآنِ شُبِّهَ بصاحِبِ النَّاقةِ، والقُرآنُ بالنَّاقةِ، والحِفظُ بالرَّبطِ... وفي هذه الأحاديثِ الحَضُّ على مُحافظةِ القُرآنِ بدَوامِ دِراسَتِه وتَكرارِ تِلاوتِه وضَربِ الأمثالِ لإيضاحِ المَقاصِدِ). ((فتح الباري)) (9/ 82، 83). .
4-عن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((تَعَلَّموا كِتابَ اللهِ، وتَعاهَدوه وتَغَنَّوا به؛ فوالذي نَفسي بيَدِه لهو أشَدُّ تَفلُّتًا مِنَ المَخاضِ في العُقُلِ)) [1797] أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمد (17317) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8049)، والطبراني (17/290) (800). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامِعِ)) (2964)، وحَسَّنه الوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (936)، وصَحَّحَ إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (17317). والحَديثُ أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791) بلفظٍ مُقارِبٍ دونَ التَّغَنِّي من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: ((تَعاهَدوا هذا القُرآنَ؛ فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لهو أشَدُّ تَفلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)). .
قوله: ("تَعلَّموا كِتابَ اللهِ" القُرآنَ، أي: احفَظوه وتَفَهَّموه "وتَعاهَدوه" زادَ في رِوايةٍ: "واقتَنوه"
[1798] أخرجها أحمد (17361)، والدارمي (3349)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8034). صَحَّحها ابن حبان في ((صحيحه)) (119)، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1495)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17361)، وحَسَّنها الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (936). ، أي: الزَموه، "وتَغَنَّوا به"، أي: اقرَؤوه بتَحزينٍ وتَرقيقٍ، وليس المُرادُ قِراءَتَه بالألحانِ والنَّغماتِ، "فوالذي نَفسي بيَدِه لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا"، أي: ذَهابًا "مِنَ المَخاضِ"، أي: النُّوقِ الحَوامِلِ، "في العُقُلِ" جمعُ عِقالٍ، وعَقَلتُ البَعيرَ: حَبَستُه، وخُصَّ ضَربُ المَثَلِ بها؛ لأنَّها إذا انفلَتَت لا تَكادُ تُلحَقُ)
[1799] ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 255). .
مَسألةٌ: نِسيانُ القُرآنِقال ابنُ عُثَيمين: (نِسيانُ القُرآنِ له سَبَبانِ:
الأوَّلُ: ما تَقتَضيه الطَّبيعةُ.
الثَّاني: الإعراضُ عنِ القُرآنِ وعَدَمُ المُبالاةِ به.
فالأوَّلُ: لا يَأثَمُ به الإنسانُ ولا يُعاقَبُ عليه؛ فقد وقَعَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ صَلَّى بالنَّاسِ ونَسيَ آيةً، فلمَّا انصَرَف ذَكَّرَه بها أُبَيُّ بنُ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هَلَّا كُنتَ أذكَرتَنيها)) [1800] أخرجه أبو داود (907)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (16692) عن مِسوَرِ بنِ يَزيدَ الأسديِّ، قال: ((صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَرَكَ آيةً، فقال له رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، تَرَكتَ آيةَ كَذا وكَذا، قال: فهَلَّا ذَكَّرتَنيها)). حَسَّنه لغَيرِه ابنُ باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (214)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (907)، وجَوَّد إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/241)، وقال الشَّوكانيُّ في ((السيل الجرار)) (1/241): إسنادُه لا بَأسَ به. وذهب إلى تصحيحه ابن حبان في ((صحيحه)) (2240)، وإلى تحسينه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (907). .
وسَمِعَ رَسولُ اللهِ قارِئًا يَقرَأُ، فقال: "يَرحَمُ اللهُ فُلانًا؛ فقد ذَكَّرَني آيةً كَنتُ أُنسِيتُها"
[1801] يُنظر: ما أخرجه البخاري (5038) ومسلم (789) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. . وهذا يَدُلُّ على أنَّ النِّسيانَ الذي يَكونُ بمُقتَضى الطَّبيعةِ ليسَ فيه لومٌ على الإنسانِ.
أمَّا ما سَبَبُه الإعراضُ وعَدَمُ المُبالاةِ فهذا قد يَأثَمُ به.
وبَعضُ النَّاسِ يَكيدُ له الشَّيطانُ ويوسوِسُ له ألَّا يَحفَظَ القُرآنَ لئَلَّا يَنساه ويَقَعَ في الإثمِ...، فليَحفظِ الإنسانُ القُرآنَ؛ لأنَّه خَيرٌ، وليُؤَمِّلْ عَدَمَ النِّسيانِ، واللَّهُ سُبحانَه عِندَ ظَنِّ عَبدِه به)
[1802] ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (26/ 269). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 86). .
فائِدةٌ في المُحافَظةِ على القِراءةِ باللَّيلِ:قال النَّوويُّ: (يَنبَغي أن يَكونَ اعتِناؤُه بقِراءةِ اللَّيلِ أكثَرَ؛ قال اللهُ تعالى:
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 113-114] .
وثَبَتَ في الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «نِعمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللَّهِ لو كان يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ»
[1803] أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما. .
وفي الحَديثِ الآخَرِ مِنَ الصَّحيحِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يا عَبدَ اللهِ لا تَكُنْ مِثلَ فُلانٍ، كان يَقومُ اللَّيلَ ثُمَّ تَرَكَه»
[1804] أخرجه البخاري (1152) واللَّفظُ له، ومسلم (1159). .
والأحاديثُ والآثارُ في هذا كَثيرةٌ.
وقد جاءَ عن أبي الأحوَصِ الجُشَميِّ قال: "إن كان الرَّجُلُ ليَطرُقُ الفُسطاطَ طُروقًا -أي: يَأتيه ليلًا- فيَسمَعُ لأهلِه دَوِيًّا كدَويِّ النَّحلِ! قال: فما بالُ هؤلاء يَأمَنونَ ما كان أولئِكَ يَخافونَ؟!".
[1805] أخرجه وكيع في ((الزهد)) (152)، والإمام أحمد في ((الزهد)) (2027)، وابن أبي شيبة (36078) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ وكيعٍ: عن أبي الأحوصِ، قال: إن كان الرَّجُلُ ليَطرُقُ الفُسطاطَ طُروقًا، فيَسمَعُ لأهلِه دَويًّا كدَويِّ النَّحلِ، فما بال هؤلاء يَأمَنونَ ما كان أولئِكَ يَخافونَ؟! ...وإنَّما رَجَحَت صَلاةُ اللَّيلِ وقِراءَتُه؛ لكَونِها أجمَعَ للقَلبِ، وأبعَدَ عنِ الشَّاغِلاتِ والمُلهياتِ والتَّصَرُّفِ في الحاجاتِ، وأصونَ عنِ الرِّياءِ وغَيرِه مِنَ المُحبِطاتِ، مَعَ ما جاءَ الشَّرعُ به مِن إيجادِ الخَيراتِ في اللَّيلِ؛ فإنَّ الإسراءَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان ليلًا، وحَديثُ: «يَنزِلُ رَبُّكُم كُلَّ ليلةٍ إلى سَماءِ الدُّنيا حينَ يَمضي شَطرُ اللَّيلِ، فيَقولُ: هَل مِن داعٍ فأستَجيبَ له...» الحَديثَ
[1806] أخرجه البخاري (1145) بنحوه، ومسلم (758) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: عن أبي هرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا مَضى شَطرُ اللَّيلِ أو ثُلُثاه، يَنزِلُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَقولُ: هَل مِن سائِلٍ يُعطى؟ هَل مِن داعٍ يُستَجابُ له؟ هَل مِن مُستَغفِرٍ يُغفرُ له؟ حتَّى يَنفجِرَ الصُّبحُ)). .
وفي الصَّحيحِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «في اللَّيلِ ساعةٌ يَستَجيبُ اللهُ فيها الدُّعاءَ كُلَّ ليلةٍ»
[1807] أخرجه مسلم (757) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُه: عن جابرٍ، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ في اللَّيلِ لساعةً لا يوافِقُها رَجُلٌ مُسلمٌ يَسألُ اللَّهَ خَيرًا مِن أمرِ الدُّنيا والآخِرةِ إلَّا أعطاه إيَّاه، وذلك كُلَّ ليلةٍ)). .
واعلَمْ أنَّ فضيلةَ القيامِ باللَّيلِ والقِراءةِ فيه تَحصُلُ بالقَليلِ والكَثيرِ، وكُلَّما كَثُرَ كان أفضَلَ، إلَّا أن يَستَوعِبَ اللَّيلَ كُلَّه؛ فإنَّه يُكرَهُ الدَّوامُ عليه، وإلَّا أن يَضُرَّ بنَفسِه.
ومِمَّا يَدُلُّ على حُصولِه بالقَليلِ حَديثُ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن قامَ بعَشرِ آياتٍ لم يُكتَبْ مِنَ الغافِلينَ، ومَن قامَ بمِائةِ آيةٍ كُتِب مِنَ القانِتينَ، ومَن قامَ بألفِ آيةٍ كُتِب مِنَ المُقَنطِرينَ» رَواه أبو داودَ وغَيرُه
[1808] أخرجه أبو داود (1398)، وابن حبان (2572) واللفظ لهما، وابن خزيمة (1144) باختلافٍ يسيرٍ. حَسَّنه لشَواهدِه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/253)، وجَوَّد إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (642)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1398). وذهب إلى تصحيحه ابن حبان. [1809] ((التِّبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 63-66). .
وأفضَلُ الأحوالِ قِراءةُ وِردِ القُرآنِ في الصَّلاةِ
[1810] روى أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 67) عن سُفيانَ الثَّوريِّ، قال: (أفضَلُ الذِّكرِ تِلاوةُ القُرآنِ في الصَّلاةِ، ثُمَّ تِلاوةُ القُرآنِ في غَيرِ الصَّلاةِ، ثُمَّ الصَّومُ، ثُمَّ الذِّكرُ). ويُنظر: ((التذكار في أفضل الأذكار)) للقرطبي (ص: 93). ، ولا سيَّما في قيامِ اللَّيلِ؛ لما تَقدَّم.
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أيُحِبُّ أحَدُكُم إذا رَجَعَ إلى أهلِه أن يَجِدَ فيه ثَلاثَ خَلِفاتٍ [1811] الخَلِفاتُ: النُّوقُ الحَوامِلُ إلى أن يُمضى لها نِصفُ أمَدِها، ثُمَّ هي عُشَراءُ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (3/ 172). وقال ابنُ هُبَيرةَ: (أمَّا قَولُه: «أن يَجِدَ فيه» فالضَّميرُ فيه عائِدٌ إلى البَيتِ. والمَعنى في ذلك: أنَّ مَظِنَّةَ القِراءةِ والتَّطويلِ فيها إنَّما يَكونُ في البُيوتِ، ومِمَّا يُصَلِّي فيه الإنسانُ لنَفسِه دونَ الجَماعاتِ؛ فإنَّ تلك لا يُستَحَبُّ فيها التَّطويلُ كهذه). ((الإفصاح)) (8/ 65). عِظامٍ سِمانٍ؟ قُلنا: نَعَم، قال: فثَلاثُ آياتٍ يَقرَأُ بهنَّ أحَدُكُم في صَلاتِه خَيرٌ له مِن ثَلاثِ خَلِفاتٍ عِظامٍ سِمانٍ)) [1812] أخرجه مسلم (802). .