موسوعة الآداب الشرعية

اثنانِ وعشرونَ: البكاءُ عندَ تِلاوتِه


يُستَحَبُّ البُكاءُ عِندَ تِلاوةِ القُرآنِ [1821] قال النَّوويُّ: (يُستَحَبُّ البُكاءُ والتَّباكي لمَن لا يَقدِرُ على البُكاءِ، فإنَّ البُكاءَ عِندَ القِراءةِ صِفةُ العارِفينَ، وشِعارُ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ). ((الأذكار)) (ص: 107). وقال أيضًا: (يُستَحَبُّ البُكاءُ عِندَ القِراءةِ، وهيَ صِفةُ العارِفينَ، وشِعارُ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ... والأحاديثُ والآثارُ فيه كَثيرةٌ. وطَريقُه في تَحصيلِ البُكاءِ أن يَتَأمَّلَ ما يَقرَؤُه مِنَ التَّهديدِ والوعيدِ الشَّديدِ والمَواثيقِ والعُهودِ، ثُمَّ يُفكِّرَ في تَقصيرِه فيها، فإن لم يَحضُرْه عِندَ ذلك حُزنٌ وبُكاءٌ فليَبكِ على فَقدِ ذلك؛ فإنَّه مِنَ المَصائِبِ). ((المجموع شرح المهذب)) (2/ 164، 165). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- من الكِتابِ:
1- قال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 105 - 109] .
2- قال تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 59 - 62] .
قال السُّيوطيُّ: (قَولُه تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إلى آخِرِ السُّورةِ، فيها استِحبابُ البُكاءِ عِندَ القِراءةِ) [1822] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (17/227). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((قال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأْ عَلَيَّ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، آقرأُ عليك، وعليك أنزِلَ؟! قال: نَعَم، فقَرَأتُ سورةَ النِّساءِ حَتَّى أتَيتُ إلى هذه الآيةِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، قال: حَسْبُك الآنَ! فالتَفتُّ إليه، فإذا عَيناه تَذرِفانِ)) [1823] أخرجه البخاري (5050) واللفظ له، ومسلم (800). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُصَلِّي ولجَوفِه أزيزٌ كَأزيزِ المِرجَلِ)) يَعني: يَبكي [1824] أخرجه النسائي (1214) واللفظ له، وأحمد (16312). صَحَّحه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/114)، وابن حبان في ((صحيحه)) (753)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (987)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/497). .
قال البَغَويُّ: (أزيزُ المِرجَلِ: صَوتُه، يُريدُ غَلَيانَ جَوفِه بالبُكاءِ.
ويُروى: «كَأزيزِ الرَّحى» وهو صَوتُها وجَرجَرَتُها، والأزيزُ والهَزيزُ: الصَّوتُ، وأصلُ الهَزِّ والأزِّ: التَّحريكُ، ومِنه قَولُه سُبحانَه وتعالى: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] ، أي: تُزعِجُهم، ويُقالُ: أُزَّ قِدْرَك، أي: ألهِبْ النَّارَ تَحتَها) [1825] ((شرح السنة)) (3/ 245). .
4- عن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ، أنَّه قال لعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنه: ((أخبرينا بأعجَبِ شَيءٍ رَأيتِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فسَكَتَت ثُمَّ قالت: لمَّا كان لَيلةً مِنَ اللَّيالي قال: يا عائِشةُ، ذَريني أتَعَبَّدُ اللَّيلةَ لرَبِّي، قُلتُ: واللهِ إنِّي لأُحِبُّ قُربَك وأُحِبُّ ما سَرَّك، قالت: فقامَ فتَطَهَّر ثُمَّ قامَ يُصَلِّي، فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ حِجرَه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ لِحيَتَه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاءَ بِلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ، فلَمَّا رَآه يَبكي قال: يا رَسولَ اللهِ، لمَ تَبكي وقد غَفرَ اللهُ لَك ما تَقدَّم وما تَأخَّرَ؟ قال: أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟ لَقد نَزَلَت عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ وَيلٌ لِمَن قَرَأها ولَم يَتَفكَّرْ فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190] الآيةَ كُلَّها)) [1826] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4618)، وابن حبان (620) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/317). حَسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1468)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1627)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (4618). وذَهَبَ إلى تَصحيحِه ابنُ حِبان. .
ج- مِنَ الآثارِ
عن عَلقَمةَ بنِ وَقَّاصٍ، قال: (كان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه يَقرَأُ في العَتَمةِ بسورةِ يوسُفَ وأنا في مُؤَخَّرِ الصُّفوفِ، حتَّى إذا جاءَ ذِكرُ يوسُفَ سَمِعتُ نَشيجَه [1827] النَّشيجُ: تَرديدُ البُكاءِ. يُنظر: ((خلاصة الأحكام)) للنووي (1/ 498). في مُؤَخَّرِ الصَّفِّ) [1828] أخرجه عبد الرزاق (2703)، وابن أبي شيبة (36679)، والبيهقي (3403) واللفظ له. صحح إسناده النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/497). .

انظر أيضا: