موسوعة الآداب الشرعية

ثالثَ عشرَ: تَدارُكُ الوِردِ وقَضاؤُه إذا فاتَ


يُستَحَبُّ للذَّاكِرِ إذا فاتَه وِردُه أن يَتَدارَكَه ويَقضيَه إذا أمكَنَه؛ ليَعتادَ المُلازَمةَ عليه [2048] يُنظر: ((تحفة الذاكرين)) للشوكاني (ص: 55). قال النَّوويُّ: (يَنبَغي لِمَن كان له وظيفةٌ مِنَ الذِّكرِ في وقتٍ مِن لَيلٍ أو نَهارٍ، أو عَقِبَ صَلاةٍ أو حالةٍ مِنَ الأحوالِ، ففاتَته، أن يَتَدارَكَها ويَأتيَ بها إذا تَمَكَّنَ مِنها ولا يُهمِلَها؛ فإنَّه إذا اعتادَ المُلازَمةَ عليها لَم يُعَرِّضْها للتَّفويتِ، وإذا تَساهَلَ في قَضائِها سَهُلَ عليه تَضييعُها في وقتِها). (الأذكار)) (ص: 13). قال ابنُ علانَ في شَرحِ قَولِ النَّوويِّ: (أو حالةٍ مِنَ الأحوالِ): (المُرادُ بالأحوالِ الأحوالُ المُتَعَلِّقةُ بالأوقاتِ، لا المُتَعَلِّقةُ بالأسبابِ، كالذِّكرِ عِندَ رُؤيةِ الهلالِ وسَماعِ الرَّعدِ ونَحوِ ذلك، فلا يُندَبُ تَدارُكُه عِندَ فواتِ سَبَبِه). ((الفتوحات الربانية)) (1/ 149). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- من الكِتابِ
- قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] . وفي قراءة: يَذْكُرَ [2049] قرأ بها حمزةُ، وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/334). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن)) للفراء (2/271)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 513)، ((الكشف)) لمكِّي (2/147). على مَعنى: الذِّكرِ للهِ، وقيلَ: هيَ بمَعنى: يَذَّكَّرَ أي: يَتَذَكَّرَ ويَتَّعِظَ، ويَعتَبرَ ويَتَفكَّرَ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ.
ومَعنى الآيةِ: واللهُ هو الذي جَعَلَ اللَّيلَ والنَّهارَ بحَيثُ يَخلُفُ أحَدُهما الآخَرَ، فهما يَتَعاقَبانِ أبَدًا ولا يَجتَمِعانِ، لِمَن أرادَ أن يَتَّعِظَ ويَعتَبرَ ويَتَفكَّرَ في اختِلافِهما، أو أرادَ شُكرَ اللهِ على نِعَمِه، فيَعبُدُه فيهما، ويَستَدرِكُ ما فاتَه في أحَدِهما فيَعمَلُه في وَقتِ الآخَرِ [2050] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (20/ 290-292). .
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قَولُه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً يَقولُ: (مَن فاتَه شَيءٌ مِنَ اللَّيلِ أن يَعمَلَه أدرَكَه بالنَّهارِ، أو مِنَ النَّهارِ أدرَكَه باللَّيلِ) [2051] أخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ قَبلَ حديثِ (4760) باختلافٍ يسيرٍ، وأخرجه موصولًا الطبري في ((التفسير)) (19/290)، وابنُ أبي حاتم في ((التفسير)) (16082) واللفظ لهما. .
وعنِ الحَسَنِ، في قَولِه: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً قال: (جَعَلَ أحَدَهما خَلَفًا للآخَرِ، إن فاتَ رَجُلًا مِنَ النَّهارِ شَيءٌ أدرَكَه مِنَ اللَّيلِ، وإن فاتَه مِنَ اللَّيلِ أدرَكَه مِنَ النَّهارِ) [2052] أخرجه مِن طُرُقٍ: عبد الرزاق في ((التفسير)) (2096)، والطبري في ((التفسير)) (19/290) واللفظ له، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (16084). .
قال ابنُ باديسَ: (لمَّا كان جَعلُ اللَّيلِ والنَّهارِ خِلفةً لأجلِ التَّذَكُّرِ والعَمَلِ، كان كُلُّ واحِدٍ مِنهما صالحًا للعَمَلِ الذي يُعمَلُ في صاحِبِه؛ فمَن فاتَه عَمَلٌ باللَّيلِ أتى به في النَّهارِ، ومَن فاتَه عَمَلٌ بالنَّهارِ أتى به في اللَّيلِ، وهذا إذا كان مِنَ العاداتِ فهو على سَبيلِ التَّدارُكِ، وإذا كان مِنَ العِباداتِ فهو على سَبيلِ القَضاءِ) [2053] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 191). .
وقال السَّعديُّ: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، أي: لمَن أرادَ أن يَتَذَكَّرَ بهما ويَعتَبرَ ويَستَدِلَّ بهما على كَثيرٍ مِنَ المَطالِبِ الإلَهيَّةِ، ويَشكُرَ اللهَ على ذلك، ولمَن أرادَ أن يَذكُرَ اللَّهَ ويَشكُرَه ولَه وِردٌ مِنَ اللَّيلِ أوِ النَّهارِ، فمَن فاتَه وِردُه مِن أحَدِهما أدرَكَه في الآخَرِ، وأيضًا فإنَّ القُلوبَ تَتَقَلَّبُ وتَنتَقِلُ في ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ، فيَحدُثُ لَها النَّشاطُ والكَسَلُ، والذِّكرُ والغَفلةُ، والقَبضُ والبَسطُ، والإقبالُ والإعراضُ؛ فجَعَلَ اللهُ اللَّيلَ والنَّهارَ يَتَواليانِ على العِبادِ ويَتَكَرَّرانِ ليَحدُثَ لَهمُ الذِّكرُ والنَّشاطُ والشُّكرُ للهِ في وقتٍ آخَرَ، ولأنَّ أورادَ العِباداتِ تَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ اللَّيلِ والنَّهارِ، فكلَّما تَكَرَّرَتِ الأوقاتُ أحدِث للعَبدِ همَّةٌ غَيرُ همَّتِه التي كَسِلَت في الوَقتِ المُتَقدِّمِ، فزادَ في تَذَكُّرِها وشُكرِها، فوظائِفُ الطَّاعاتِ بمَنزِلةِ سَقيِ الإيمانِ الذي يَمُدُّه، فلَولا ذلك لذَوى غَرسُ الإيمانِ ويَبِسَ. فللهِ أتَمُّ حَمدٍ وأكمَلُه على ذلك) [2054] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 586). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، يَقولُ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نامَ عن حِزبِه أو عن شَيءٍ مِنه، فقَرَأه فيما بَينَ صَلاةِ الفَجرِ وصَلاةِ الظُّهرِ؛ كُتِبَ له كَأنَّما قَرَأه مِنَ اللَّيلِ)) [2055] أخرجه مسلم (747). .
2- عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا عَمِلَ عَمَلًا أثبَتَه، وكان إذا نامَ مِنَ اللَّيلِ أو مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثِنتَي عَشرةَ رَكعةً)) [2056] أخرجه مسلم (746). .
ج- مِنَ الآثارِ
1- عن شَقيقٍ، قال: (جاءَ رَجُلٌ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فقال: فاتَتني الصَّلاةُ اللَّيلةَ، فقال: أدرِكْ ما فاتَك مِن لَيلَتِك في نَهارِك؛ فإنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيلَ والنَّهارَ خِلفةً لِمَن أرادَ أن يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكورًا) [2057] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (19/290). .
2- عنِ الحَسَنِ أنَّ عُمَرَ أطالَ صَلاةَ الضُّحى، فقيلَ له: صَنَعتَ اليَومَ شَيئًا لَم تَكُنْ تَصنَعُه! فقال: إنَّه بَقيَ عليَّ مِن وِردي شَيءٌ، فأحبَبتُ أن أُتِمَّه أو أقضيَه، وتَلا هذه الآيةَ: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] [2058] أخرجه مِن طُرُقٍ: الطيالسي كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/270)، وعبد الرزاق (4749)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (16081) واللفظ له. .
3- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدٍ القاريِّ، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قال: (مَن فاتَه حِزبُه مِنَ اللَّيلِ فقَرَأه حينَ تَزولُ الشَّمسُ إلى صَلاةِ الظُّهرِ، فإنَّه لَم يَفُتْه أو كَأنَّه أدرَكَه) [2059] أخرجه النسائي (1792)، ومالك (2/280) واللفظ لهما، والبيهقي (4620). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1791). .
4- عن إبراهيمَ، قال: (كان أحَدُهم إذا بَقيَ عليه مِن جُزئِه شَيءٌ فنَشِطَ قَرَأه بالنَّهارِ، أو قَرَأه مِن لَيلةٍ أُخرى. قال: ورُبَّما زادَ أحَدُهم) [2060] أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في ((فضائل القرآن)) (ص187). .
قال الشَّوكانيُّ: (كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَقضونَ ما فاتَهم مِن أذكارِهمُ التي كانوا يَفعَلونَها في أوقاتٍ مَخصوصةٍ) [2061] ((تحفة الذاكرين)) (ص: 55). .

انظر أيضا: