موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في الحثِّ على طَلبِ العِلمِ والتَّرغيبِ فيه


حَثَّ الإسلامُ على التَّعَلُّمِ، وأثنى على أهلِ العِلمِ، ولم يُسَوِّ بَينَ الذينَ يَعلمونَ والذينَ لا يَعلمونَ، وأمر اللهُ عَزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَه المزيدَ منه فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طَه: 114] ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أصبَحَ قال: ((اللهُمَّ إنِّي أسألُك عِلمًا نافِعًا، ورِزقًا طَيِّبًا، وعَمَلًا مُتَقَبَّلًا)) [2266] أخرجه ابن ماجه (925)، وأحمد (26731) من حديثِ أمِّ سَلمةَ أُمِّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها. حَسَّنه ابنُ حَجَرٍ في ((نَتائِج الأفكارِ)) (2/411)، وشعيب الأرناؤوط بشاهده في تخريج ((زاد المعاد)) (2/342). وقد ذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (925). .
وقَصَّ اللَّهُ علينا نَبَأ موسى عليه السَّلامُ إذ رَحَل لطَلب العِلمِ، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60] .
قال القُرطُبيُّ: (في هذا مِنَ الفِقهِ: رِحلةُ العالمِ في طَلَبِ الازديادِ مِنَ العِلمِ، والاستِعانةُ على ذلك بالخادِمِ والصَّاحِبِ، واغتِنامُ لقاءِ الفُضَلاءِ والعُلماءِ وإن بَعُدَت أقطارُهم، وذلك كان دَأبَ السَّلفِ الصَّالحِ، وبسَبَبٍ ذلك وصَل المُرتَحِلونَ إلى الحَظِّ الرَّاجِحِ، وحَصَلوا على السَّعيِ النَّاجِحِ، فرَسَخَت لهم في العُلومِ أقدامٌ، وصَحَّ لهم مِنَ الذِّكرِ والأجرِ والفَضلِ أفضَلُ الأقسامِ. قال البُخاريُّ [2267] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/ 26). : "ورَحل جابِرُ بنُ عبدِ اللَّهِ مَسيرةَ شَهرٍ إلى عَبدِ اللَّهِ بنِ أُنَيسٍ في حَديثٍ") [2268] ((الجامع لأحكام القرآن)) (11/ 11). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((...مَن سَلَك طَريقًا يلتَمِسُ فيه عِلمًا سَهَّلَ اللَّهُ له به طَريقًا إلى الجَنَّةِ، وما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللَّهِ يتلونَ كِتابَ اللَّهِ ويتَدارَسونَه بَينَهم إلَّا نَزَلَت عليهمُ السَّكينةُ، وغَشِيَتهمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهمُ المَلائِكةُ، وذَكرَهمُ اللَّهُ فيمن عِندَه، ومَن بَطَّأ به عَمَلُه لَم يُسرِعْ به نَسَبُه)) [2269] أخرجه مسلم (2699). .
وعن صَفوانَ بنِ عَسَّالٍ المُراديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُتَّكِئٌ في المَسجِدِ على بُردٍ له، فقُلتُ له: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي جِئتُ أطلُبُ العِلمَ، فقال: مَرحَبًا بطالِبِ العِلمِ، طالِبُ العِلمِ لتَحُفُّه المَلائِكةُ وتُظِلُّه بأجنِحَتِها، ثُمَّ يَركَبُ بَعضُهم بَعضًا حتَّى يبلُغوا السَّماءَ الدُّنيا مِن حُبِّهم لِما يَطلُبُ)) [2270] أخرجه الطبراني (8/164) (7347) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (6/330)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3818). حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (71)، وجَوَّد إسنادَه المُنذِري في ((الترغيب والترهيب)) (1/75). .
وفي روايةٍ عن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، قال: (جِئْتُ صَفْوانَ بنَ عَسَّالٍ المُرادِيَّ، فقال: ما جاءَ بك؟ قُلتُ: جِئتُ أنبِطُ [2271] أنبِطُ العِلمَ: من نَبَط البِئرَ كضَرَب ونَصَر: إذا استخرَجَ ماءَه، والمُرادُ: أطلُبُ العِلمَ وأستخرِجُه من قلوبِ العُلَماءِ وأُحَصِّلُه في قلبي. يُنظر: ((حاشية السندي على سنن ابن ماجه)) (1/ 100). العِلمَ، قال: فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ما مِن خارِجٍ يَخرُجُ مِن بَيتِه في طَلَبِ العِلمِ إلَّا وَضَعَت له المَلائِكةُ أجنِحتَها رِضًا بما يَصنَعُ)) [2272] أخرجه الترمذي (3535)، والنسائي (158) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ، وابنُ ماجه (226) واللفظ له. صحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (85). وقد ذهب إلى تصحيحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/300)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1325)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (226). .
وعن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ في الصُّفَّةِ [2273] الصُّفَّةُ: مَوضِعٌ مُظَلَّلٌ مِنَ المَسجِدِ كان الفُقَراءُ يَأوونَ إليه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجَوزيِّ (4/ 142). ، فقال: أيُّكُم يُحِبُّ أن يَغدوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطحانَ [2274] بُطحانُ: مَوضِعٌ مَعروفٌ، وسُمِّي بذلك لسَعَتِه، وكذلك الأبطحُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجَوزيِّ (4/ 142). أو إلى العَقيقِ [2275] العَقيقُ: مَوضِعٌ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجَوزيِّ (4/ 142). ، فيَأتيَ مِنه بناقَتَينِ كَوماوَينِ [2276] الكَوماءُ مِنَ الإبل: العَظيمةُ السَّنامِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجَوزيِّ (4/ 142). في غَيرِ إثمٍ، ولا قَطعِ رَحِمٍ؟ فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ نُحِبُّ ذلك! قال: أفلا يَغدو أحَدُكُم إلى المَسجِدِ فيَعلَمَ أو يَقرَأَ آيَتَينِ مِن كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، خَيرٌ له مِن ناقَتَينِ، وثَلاثٌ خَيرٌ له مِن ثَلاثٍ، وأربَعٌ خَيرٌ له مِن أربَعٍ، ومِن أعدادِهنَّ مِنَ الإبِلِ)) [2277] أخرجه مسلم (803). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (مَقصودُ الحَديثِ التَّرغيبُ في تَعَلُّمِ القُرآنِ وتَعليمِه، وخاطَبَهم على ما تَعارَفوه، فإنَّهم أهلُ إبِلٍ، وإلَّا فأقَلُّ جُزءٍ مِن ثَوابِ القُرآنِ وتَعليمِه خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ولمَوضِعُ سَوطِ أحَدِكُم مِنَ الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها» [2278] أخرجه مسلم (2892) من حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديّ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((ومَوضِعُ سَوطِ أحَدِكُم مِنَ الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وما عليها)). [2279] ((المفهم)) (2/ 429، 430). .
وفيما يلي أهمُّ آدابِ طالبِ العلمِ والمُعلِّمِ وآدابِ مجالِسِ العِلمِ

انظر أيضا: