فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ
مِن أفضَلِ ما يُسألُ الله تعالىقال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: (مِن أفضَلِ ما يُسألُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتعالى: الإعانةُ على مَرضاتِه، وهو الذي عَلَّمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحِبِّه مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقال "يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأُحِبُّك؛ فلا تَنسَ أن تَقولَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عِبادَتِك"
[2236] أخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وأحمد (22119) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ أبي داوُدَ: عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذَ بيَدِه وقال: يا مُعاذُ، واللهِ إنِّي لأحِبُّك، واللهِ إنِّي لأحِبُّك، فقال: أوصيك يا مُعاذُ لا تّدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تَقولُ: اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عِبادَتِك)). صحَّحه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (1/731)، وابنُ حبان في ((صحيحه)) (2021)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1025)، وابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/97)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/297). .
فأنفعُ الدُّعاءِ طَلَبُ العَونِ على مَرضاتِه، وأفضَلُ المَواهِبِ إسعافُه بهذا المَطلوبِ، وجَميعُ الأدعيةِ المَأثورةِ مَدارُها على هذا، وعَلى دَفعِ ما يُضادُّه، وعَلى تَكميلِه وتَيسيرِ أسبابِه؛ فتَأمَّلْها.
وقال شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ قدَّسَ اللهُ رُوحَه: تَأمَّلتُ أنفَعَ الدُّعاءِ فإذا هو سُؤالُ العَونِ على مَرضاتِه، ثُمَّ رَأيتُه في الفاتِحةِ؛ في
إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] )
[2237] ((مدارج السالكين)) (1/ 100). .
دُعاءُ الفاتِحةِقال ابنُ تيميَّةَ: (أنفَعُ الدُّعاءِ وأعظَمُه وأحكَمُه: دُعاءُ الفاتِحةِ:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6-7] ؛ فإنَّه إذا هَداه هذا الصِّراطَ أعانَه على طاعَتِه، وتَرْكِ مَعصيَتِه، فلَم يُصِبْه شَرٌّ لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، لَكِنَّ الذُّنوبَ هيَ مِن لَوازِمِ نَفسِ الإنسانِ، وهو مُحتاجٌ إلى الهدى في كُلِّ لَحظةٍ، وهو إلى الهدى أحوجُ مِنه إلى الأكلِ والشُّربِ)
[2238] ((مجموع الفتاوى)) (14/ 320). .
وقال أيضًا: (في قَولِه تعالى:
وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] مِنَ الفوائِدِ: أنَّ العَبدَ لا يَطمئِنُّ إلى نَفسِه، ولا يَشتَغِلُ بمَلامِ النَّاسِ وذَمِّهم، بَل يَسألُ اللهَ أن يُعينَه على طاعَتِه؛ ولهذا كان أنفَعَ الدُّعاءِ وأعظَمَه دُعاءُ الفاتِحةِ، وهو مُحتاجٌ إلى الهدى كُلَّ لَحظةٍ، ويَدخُلُ فيه مِن أنواعِ الحاجاتِ ما لا يُمكِنُ حَصرُه)
[2239] ((مجموع الفتاوى)) (14/ 227). .
الدعاءُ بالمأثورِقال الخَطَّابيُّ: (أَولى ما يُدعى به ويُستَعمَلُ مِنه ما صَحَّت به الرِّوايةُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وثَبَتَ عنه بالأسانيدِ الصَّحيحةِ؛ فإنَّ الغَلَطَ يَعرِضُ كَثيرًا في الأدعيةِ التي يَختارُها النَّاسُ؛ لاختِلافِ مَعارِفِهم، وتَبايُنِ مَذاهِبِهم في الاعتِقادِ والانتِحالِ.
وبابُ الدُّعاءِ مَطيَّةٌ مَظِنَّةٌ للخَطَرِ، وما تَحتَ قدَمِ الدَّاعي دَحْضٌ
[2240] الدَّحْضُ: أيَّ الزَّلقُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 104). ؛ فليَحذَرْ فيه الزَّلَلَ، وليَسلُكْ مِنه الجَدَدَ
[2241] الجَدَدُ: أي: المستوي من الأرضِ، وفي المَثَلِ: (مَن سَلَك الجَدَدَ أَمِنَ العِثارَ). يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 1002). الذي يُؤمَنُ معه العِثارُ
[2242] عَثَر عَثرًا وعِثارًا وتعَثَّر: زَلَّ وكبا، والعَثرةُ: الزَّلَةُ، ويقالُ: عَثَر به فَرَسُه فسَقَط. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 539). ، وما التَّوفيقُ إلَّا باللهِ عَزَّ وجَلَّ)
[2243] ((شأن الدعاء)) (ص: 2، 3). .
وقال الغَزاليُّ: (الأولى: ألَّا يُجاوِزَ الدَّعَواتِ المَأثورةَ؛ فإنَّه قد يَعتَدي في دُعائِه، فيَسألُ ما لا تَقتَضيه مَصلحَتُه، فما كُلُّ أحَدٍ يُحسِنُ الدُّعاءَ)
[2244] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 306). .
وقال ابنُ العَرَبيِّ: (إنَّ اللهَ أذِنَ في دُعائِه، وعَلَّم الدُّعاءَ في كِتابِه لخَليقَتِه، وعَلَّم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدُّعاءَ لأُمَّتِه، فاجتَمَعَت فيه ثَلاثةُ أشياءَ: العِلمُ بالتَّوحيدِ، والعِلمُ باللُّغةِ، والنَّصيحةُ لأُمَّتِه؛ فلا يَنبَغي لأحَدٍ أن يَعدِلَ عن دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقدِ احتالَ الشَّيطانُ للنَّاسِ في هذا المَقامِ، فقَيَّضَ لَهم قَومَ سَوءٍ يَختَرِعونَ لَهم أدعيةً يَشتَغِلونَ بها عنِ الاقتِداءِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشَدُّ ما في الحالِ أنَّهم يَنسُبونَها إلى الأنبياءِ صَلَواتُ اللهِ عليهم، فيَقولونَ: دُعاءُ آدَمَ، دُعاءُ نوحٍ، دُعاءُ يونُسَ، دُعاءُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ! فاتَّقوا اللَّهَ في أنفُسِكُم ولا تَشتَغِلوا مِنَ الحَديثِ بشَيءٍ إلَّا بالصَّحيحِ مِنه)
[2245] ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) (ص: 421، 422). ويُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابن العربي (3/ 486، 487). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (يَنبَغي للخَلقِ أن يَدعوا بالأدعيةِ الشَّرعيَّةِ التي جاءَ بها الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّ ذلك لا رَيبَ في فَضلِه وحُسنِه وأنَّه الصِّراطُ المُستَقيمُ صِراطُ الذينَ أنعَمَ اللهُ عليهم مِنَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، وحَسُن أولئك رَفيقًا... وقد ذَكَرَ عُلَماءُ الإسلامِ وأئِمَّةُ الدِّينِ الأدعيةَ الشَّرعيَّةَ، وأعرَضوا عنِ الأدعيةِ البِدعيةِ؛ فيَنبَغي اتِّباعُ ذلك)
[2246] ((مجموع الفتاوى)) (1/ 346، 350). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (لا رَيبَ أنَّ الأذكارَ والدَّعَواتِ مِن أفضَلِ العِباداتِ، والعِباداتُ مَبناها على التَّوقيفِ والاتِّباعِ، لا على الهَوى والابتِداعِ؛ فالأدعيةُ والأذكارُ النَّبَويَّةُ هيَ أفضَلُ ما يَتَحَرَّاه المُتَحَرِّي مِنَ الذِّكرِ والدُّعاءِ، وسالِكُها على سَبيلِ أمانٍ وسَلامةٍ، والفوائِدُ والنَّتائِجُ التي تَحصُلُ لا يُعَبِّرُ عنه لسانٌ ولا يُحيطُ به إنسانٌ، وما سِواها مِنَ الأذكارِ قد يَكونُ مُحَرَّمًا، وقد يَكونُ مَكروهًا، وقد يَكونُ فيه شِركٌ مِمَّا لا يَهتَدي إليه أكثَرُ النَّاسِ، وهيَ جُملةٌ يَطولُ تَفصيلُها. وليس لأحَدٍ أن يَسُنَّ للنَّاسِ نَوعًا مِنَ الأذكارِ والأدعيةِ غَيرَ المَسنونِ ويَجعَلَها عِبادةً راتِبةً يواظِبُ النَّاسُ عليها كما يواظِبونَ على الصَّلَواتِ الخَمسِ، بل هذا ابتِداعُ دينٍ لَم يَأذَنِ اللهُ به، بخِلافِ ما يَدعو به المَرءُ أحيانًا مِن غَيرِ أن يَجعَلَه للنَّاسِ سُنَّةً، فهذا إذا لَم يعلَمْ أنَّه يَتَضَمَّنُ مَعنًى مُحَرَّمًا لَم يَجُزِ الجَزمُ بتَحريمِه، لَكِن قد يَكونُ فيه ذلك، والإنسانُ لا يَشعُرُ به. وهذا كما أنَّ الإنسانَ عِندَ الضَّرورةِ يَدعو بأدعيةٍ تُفتَحُ عليه ذلك الوقتَ، فهذا وأمثالُه قَريبٌ. وأمَّا اتِّخاذُ وِردٍ غَيرِ شَرعيٍّ، واستِنانُ ذِكرٍ غَيرِ شَرعيٍّ، فهذا مِمَّا يُنهى عنه، ومَعَ هذا ففي الأدعيةِ الشَّرعيَّةِ والأذكارِ الشَّرعيَّةِ غايةُ المَطالِبِ الصَّحيحةِ، ونِهايةُ المَقاصِدِ العَليَّةِ، ولا يَعدِلُ عنها إلى غَيرِها مِنَ الأذكارِ المُحدَثةِ المُبتَدَعةِ إلَّا جاهلٌ أو مُفرِطٌ أو مُتَعَدٍّ)
[2247] ((مجموع الفتاوى)) (22/ 510، 511). .
الدُّعاءُ الذي لا يَكادُ يُرَدُّ أبَدًاقال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: (إذا جَمَعَ مَعَ الدُّعاءِ حُضورَ القَلبِ وجَمعيَّتَه بكُلِّيَّتِه على المَطلوبِ، وصادَف وقتًا مِن أوقاتِ الإجابةِ السِّتَّةِ -وهيَ: الثُّلثُ الأخيرُ مِنَ اللَّيلِ، وعِندَ الأذانِ، وبَينَ الأذانِ والإقامةِ، وأدبارَ الصَّلَواتِ المكتوباتِ، وعِندَ صُعودِ الإمامِ يَومَ الجُمعةِ على المِنبَرِ حَتَّى تُقضى الصَّلاةُ مِن ذلك اليَومِ، وآخِرَ ساعةٍ بَعدَ العَصرِ- وصادَف خُشوعًا في القَلبِ، وانكِسارًا بَينَ يَدَيِ الرَّبِّ، وذُلًّا له وتَضَرُّعًا ورِقَّةً، واستَقبَلَ الدَّاعي القِبلةَ، وكان على طَهارةٍ، ورَفعَ يَدَيه إلى اللهِ، وبَدَأ بحَمدِ اللهِ والثَّناءِ عليه، ثُمَّ ثَنَّى بالصَّلاةِ على مُحَمَّدٍ عَبدِه ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قدَّمَ بَينَ يَدَي حاجَتِه التَّوبةَ والاستِغفارَ، ثُمَّ دَخَلَ على اللهِ، وألَحَّ عليه في المَسألةِ، وتَمَلَّقَه ودَعاه رَغبةً ورَهبةً، وتَوسَّل إليه بأسمائِه وصِفاتِه وتَوحيدِه، وقدَّمَ بَينَ يَدَي دُعائِه صَدَقةً؛ فإنَّ هذا الدُّعاءَ لا يَكادُ يُرَدُّ أبَدًا، ولا سيَّما إن صادَف الأدعيةَ التي أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّها مَظِنَّةُ الإجابةِ، أو أنَّها مُتَضَمِّنةٌ للاسمِ الأعظَمِ)
[2248] ((الجواب الكافي)) (ص: 12). .
مِنَ أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِقال ابنُ رَجَبٍ: (... مِنَ الأسبابِ التي تَقتَضي إجابةَ الدُّعاءِ أربَعةً:
أحَدُها: إطالةُ السَّفَرِ... ومَتى طالَ السَّفرُ كان أقرَبَ إلى إجابةِ الدُّعاءِ؛ لأنَّه مَظِنَّةُ حُصولِ انكِسارِ النَّفسِ بطولِ الغُربةِ عنِ الأوطانِ، وتَحَمُّلِ المَشاقِّ، والانكِسارُ مِن أعظَمِ أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ.
والثَّاني: حُصولُ التَّبَذُّلِ في اللِّباسِ والهَيئةِ بالشَّعَثِ والاغبرارِ، وهو أيضًا مِنَ المُقتَضِياتِ لإجابةِ الدُّعاءِ، كما في الحَديثِ المَشهورِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رُبَّ أشعَثَ أغبَرَ ذي طِمرَينِ، مَدفوعٍ بالأبوابِ، لَو أقسَمَ على اللهِ لأبَرَّه)) [2249] أخرجه مسلم (2622) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، بلَفظِ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُبَّ أشعَثَ مَدفوعٍ بالأبوابِ، لَو أقسَمَ على اللهِ لأبَرَّه)). ... وكان مُطَرِّفُ بنُ عَبدِ اللهِ قد حُبِسَ له ابنُ أخٍ، فلَبسَ خُلقانَ ثيابِه، وأخَذَ عُكَّازًا بيَدِه، فقيلَ له: ما هذا؟! قال: أستَكينُ لرَبِّي، لَعَلَّه أن يُشَفِّعَني في ابنِ أخي
[2250] أخرجه ابن ابي الدنيا في ((مجابو الدعوة)) (91)، وأبو بكر الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (1681)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/325) باختلاف يسير .
الثَّالثُ: مَدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ، وهو مِن آدابِ الدُّعاءِ التي يُرجى بسَبَبِها إجابَتُه... وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرفعُ يَدَيه في الاستِسقاءِ حَتَّى يُرى بَياضُ إبْطَيه
[2251] أخرجه البخاري (1031)، ومسلم (895) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه، ولَفظُ البُخاريِّ: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَرفعُ يَدَيه في شَيءٍ مِن دُعائِه إلَّا في الاستِسقاءِ، وإنَّه يَرفعُ حَتَّى يُرى بَياضُ إبْطَيه)). ، ورَفعَ يَدَيه يَومَ بَدرٍ يَستَنصِرُ على المُشرِكينَ حَتَّى سَقَطَ رِداؤُه عن مَنكِبَيه
[2252] لَفظُه: عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قال: (لمَّا كان يَومُ بَدرٍ نَظَر رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المُشرِكينَ وهم ألفٌ، وأصحابُه ثَلاثُمِائةٍ وتِسعةَ عَشَرَ رَجُلًا. فاستَقبَلَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القِبلةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيه فجَعَلَ يَهتِفُ برَبِّه: اللَّهُمَّ أنجِزْ لي ما وعَدتَني، اللَّهُمَّ آتِ ما وعَدتَني، اللَّهُمَّ إن تُهلِكْ هذه العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبَدْ في الأرضِ. فما زالَ يَهتِفُ برَبِّه، مادًّا يَدَيه، مُستَقبِلَ القِبلةِ، حَتَّى سَقَطَ رِداؤُه عن مَنكِبَيه). أخرجه مسلم (1763). ، وقد رُويَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفةِ رَفعِ يَدَيه في الدُّعاءِ أنواعٌ مُتَعَدِّدةٌ...
والرَّابعُ: الإلحاحُ على اللهِ بتَكريرِ ذِكرِ رُبوبيَّتِه، وهو مِن أعظَمِ ما يُطلَبُ به إجابةُ الدُّعاءِ... ومَن تَأمَّل الأدعيةَ المَذكورةَ في القُرآنِ وجَدَها غالبًا تُفتَتَحُ باسمِ الرَّبِّ، كقَولِه تعالى:
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201] ،
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286] ، وقَولِه:
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران: 8] ... ومِثلُ هذا في القُرآنِ كَثيرٌ.
وأمَّا ما يَمنَعُ إجابةَ الدُّعاءِ فقد أشارَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أنَّه التَّوسُّعُ في الحَرامِ أكلًا وشُربًا ولُبسًا وتَغذيةً... فأكلُ الحَلالِ وشُربُه ولُبسُه والتَّغَذِّي به سَبَبٌ مُوجِبٌ لإجابةِ الدُّعاءِ.
وعن وَهبِ بنِ مُنَبِّهٍ قال: مَن سَرَّه أن يَستَجيبَ اللهُ دَعَوتَه، فليُطِبْ طُعمَتَه.
وعن يوسُفَ بنِ أسباطٍ قال: بَلَغَنا أنَّ دُعاءَ العَبدِ يُحبَسُ عنِ السَّمَواتِ بسُوءِ المَطعَمِ...
وقد يَكونُ ارتِكابُ المُحَرَّماتِ الفِعليَّةِ مانِعًا مِنَ الإجابةِ أيضًا، وكَذلك تَركُ الواجِباتِ... وفِعلُ الطَّاعاتِ يَكونُ موجِبًا لاستِجابةِ الدُّعاءِ؛ ولهذا لمَّا تَوسَّلَ الذينَ دَخَلوا الغارَ وانطَبَقَتِ الصَّخرةُ عليهم بأعمالِهمُ الصَّالحةِ التي أخلَصوا فيها للهِ تعالى ودَعَوا اللَّهَ بها، أُجيبَت دَعوتُهم
[2253] أخرجه البخاري (2272) بلَفظِ: عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((انطلق ثلاثةُ رهطٍ ممَّن كان قبلَكم حتَّى أوَوا المبيتَ إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدَرَت صَخرةٌ من الجَبَلِ فسَدَّت عليهم الغارَ، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصَّخرة إلَّا أن تَدْعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم. فقال رجُلٌ منهم: اللَّهمَّ كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكُنتُ لا أَغبِقُ قَبْلَهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طَلَبِ شيءٍ يومًا، فلم أُرِحْ عليهما حتَّى ناما، فحَلبْتُ لهما غَبوقَهما فوجَدْتُهما نائمَينِ، وكَرِهتُ أن أَغبِقَ قَبْلَهما أهلًا أو مالًا، فلَبِثتُ والقَدَحُ على يَديَّ أنتَظِرُ استيقاظَهما حتى بَرَق الفَجرُ، فاستيقَظا فشَرِبا غَبوقَهما، اللَّهُمَّ إنْ كنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجْهِك، ففرِّج عنَّا ما نحن فيه من هذه الصَّخرةِ، فانفرجَت شيئًا لا يستطيعونَ الخروجَ. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وقال الآخَرُ: اللَّهُمَّ كانت لي بنتُ عَمٍّ كانت أحَبَّ النَّاسِ إليَّ، فأرَدتُها عن نَفسِها، فامتَنَعَت مِنِّي حَتَّى ألَمَّت بها سَنةٌ مِنَ السِّنينَ، فجاءَتني فأعطَيتها عِشرينَ ومِائةَ دينارٍ على أن تُخَلِّيَ بَيني وبَينَ نَفسِها، ففعَلَت حَتَّى إذا قدَرتُ عليها قالت: لا أُحِلُّ لَك أن تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بحَقِّه، فتَحَرَّجتُ مِنَ الوُقوعِ عليها، فانصَرَفتُ عنها وهيَ أحَبُّ النَّاسِ إليَّ وتَرَكتُ الذَّهَبَ الذي أعطَيتُها، اللَّهُمَّ إن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِك فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه. فانفرَجَتِ الصَّخرةُ، غَيرَ أنَّهم لا يَستَطيعونَ الخُروجَ مِنها. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وقال الثَّالِثُ: اللَّهمَّ إنِّي استأجرتُ أُجَراءَ، فأعطيتُهم أجرَهم غيرَ رَجُلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهَب، فثمَّرتُ أجرَه حتى كَثُرت منه الأموالُ، فجاءني بعدَ حينٍ، فقال: يا عبدَ اللهِ، أدِّ إليَّ أجري، فقُلتُ له: كلُّ ما ترى من أجرِك من الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقيقِ! فقال: يا عبدَ اللهِ، لا تستهزِئْ بي! فقُلتُ: إنِّي لا أستهزئُ بك، فأخذَه كُلَّه، فاستاقه، فلم يترُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِك فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه. فانفرَجَتِ الصَّخرةُ، فخَرَجوا يَمشونَ)). .
وقال وَهبُ بنُ مُنَبِّهٍ: مَثَلُ الذي يَدعو بغَيرِ عَمَلٍ كمَثَلِ الذي يَرمي بغَيرِ وَتَرٍ. وعنه قال: العَمَلُ الصَّالحُ يَبلِّغُ الدُّعاءَ، ثُمَّ تَلا قَولَه تعالى:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] .
وعن عُمَرَ قال: بالورَعِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ يَقبَلُ اللهُ الدُّعاءَ والتَّسبيحَ.
وعن أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه قال: يَكفي مَعَ البِرِّ مِنَ الدُّعاءِ مِثلُ ما يَكفي الطَّعامَ مِنَ المِلحِ.
وقال بَعضُ السَّلَفِ: لا تَستَبطِئِ الإجابةَ، وقد سَدَدتَ طُرُقَها بالمَعاصي، وأخَذَ بَعضُ الشُّعَراءِ هذا المَعنى فقال:
نَحنُ نَدعو الإلَهَ في كُلِّ كَربٍ... ثُمَّ نَنساه عِندَ كَشفِ الكُروبِ
كَيف نَرجو إجابةً لدُعاءٍ... قد سَدَدْنا طَريقَها بالذُّنوبِ)
[2254] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 269-277). .
المفاضلةُ بينَ قِراءةِ القُرآنِ، والذِّكرِ، والدُّعاءِقال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: (قِراءةُ القُرآنِ أفضَلُ مِنَ الذِّكرِ، والذِّكرُ أفضَلُ مِنَ الدُّعاءِ. هذا مِن حَيثُ النَّظَرُ لكُلٍّ مِنهما مُجَرَّدًا، وقد يَعرِضُ للمَفضولِ ما يَجعَلُه أولى مِنَ الفاضِلِ، بَل يُعَيِّنُه، فلا يَجوزُ أن يُعدَلَ عنه إلى الفاضِلِ، وهذا كالتَّسبيحِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ؛ فإنَّه أفضَلُ مِن قِراءةِ القُرآنِ فيهما، بَل القِراءةُ فيهما مَنهيٌّ عنها نَهيَ تَحريمٍ أو كَراهةٍ، وكَذلك التَّسميعُ والتَّحميدُ في مَحَلِّهما أفضَلُ مِنَ القِراءةِ، وكَذلك التَّشَهُّدُ، وكَذلك:
((رَبِّ اغفِرْ لي وارحَمني واهدِني وعافِني وارزُقني)) بَينَ السَّجدَتَينِ أفضَلُ مِنَ القِراءةِ، وكَذلك الذِّكرُ عَقيبَ السَّلامِ مِنَ الصَّلاةِ -ذِكرُ التَّهليلِ والتَّسبيحِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ- أفضَلُ مِنَ الاشتِغالِ عنه بالقِراءةِ، وكذلك إجابةُ المُؤَذِّنِ والقَولُ كما يَقولُ أفضَلُ مِنَ القِراءةِ.
وإن كان فَضلُ القُرآنِ على كُلِّ كَلامٍ كفَضلِ اللهِ تعالى على خَلقِه، لَكِنْ لكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، مَتى فاتَ مَقالُه فيه وعُدِلَ عنه إلى غَيرِه اختَلَّتِ الحِكمةُ وفُقِدَتِ المُصلحةُ المَطلوبةُ مِنه.
وهَكَذا الأذكارُ المُقَيَّدةُ بمَحالَّ مَخصوصةٍ أفضَلُ مِنَ القِراءةِ المُطلَقةِ، والقِراءةُ المُطلَقةُ أفضَلُ مِنَ الأذكارِ المُطلَقةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يَعرِضَ للعَبدِ ما يَجعَلُ الذِّكرَ أوِ الدُّعاءَ أنفَعَ له مِن قِراءةِ القُرآنِ.
مِثالُه: أن يَتَفكَّرَ في ذُنوبِه فيُحدِثَ ذلك له تَوبةً مِنِ استِغفارٍ، أو يَعرِضَ له ما يَخافُ أذاه مِن شَياطينِ الإنسِ والجِنِّ، فيَعدِلَ إلى الأذكارِ والدَّعَواتِ التي تُحَصِّنُه وتَحفَظُه.
وكَذلك أيضًا قد يَعرِضُ للعَبدِ حاجةٌ ضَروريَّةٌ إذا اشتَغَلَ عن سُؤالِها بقراءةٍ أو ذِكرٍ لَم يَحضُرْ قَلبُه فيهما، وإذا أقبَلَ على سُؤالِها والدُّعاءِ إليها اجتَمَعَ قَلبُه كُلُّه على اللهِ تعالى، وأحدَث له تَضَرُّعًا وخُشوعًا وابتِهالًا، فهذا يَكونُ اشتِغالُه بالدُّعاءِ -والحالةُ هذه- أنفَعَ، وإن كان كُلٌّ مِنَ القِراءةِ والذِّكرِ أفضَلَ وأعظَمَ أجرًا.
وهذا بابٌ نافِعٌ يَحتاجُ إلى فِقهِ نَفسٍ، وفُرقانٍ بَينَ فضيلةِ الشَّيءِ في نَفسِه وبَينَ فضيلَتِه العارِضةِ، فيُعطى كُلُّ ذي حَقٍّ حَقَّه، ويوضَعُ كُلُّ شَيءٍ مَوضِعَه؛ فللعَينِ مَوضِعٌ، وللرِّجلِ مَوضِعٌ، وللماءِ مَوضِعٌ، وللَّحمِ مَوضِعٌ، وحِفظُ المَراتِبِ هو مِن تَمامِ الحِكمةِ التي هيَ نِظامُ الأمرِ والنَّهيِ، واللَّهُ تعالى الموفِّقُ.
وهَكَذا الصَّابونُ والأُشنانُ أنفَعُ للثَّوبِ في وَقتٍ، والتَّجميرُ وماءُ الوردِ وكَيُّه أنفَعُ له في وقتٍ.
وقُلتُ لشَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رَحِمَه اللهُ تعالى يَومًا: سُئِلَ بَعضُ أهلِ العِلمِ
[2255] هو ابن الجوزي: يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (21/ 371)، ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/ 497). : أيُّهما أنفَعُ للعَبدِ التَّسبيحُ أوِ الاستِغفارُ؟ فقال: إذا كان الثَّوبُ نَقيًّا فالبَخورُ وماءُ الوردِ أنفَعُ له، وإذا كان دَنِسًا فالصَّابونُ والماءُ الحارُّ أنفَعُ له! فقال لي رَحِمَه اللهُ تعالى: فكيف والثِّيابُ لا تَزالُ دَنِسةً؟!
ومِن هذا البابِ أنَّ سورةَ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ، ومَعَ هذا فلا تَقومُ مَقامَ آياتِ المَواريثِ والطَّلاقِ والخُلعِ والعِدَدِ ونَحوِها، بَل هذه الآياتُ في وَقتِها وعِندَ الحاجةِ إليها أنفَعُ مِن تِلاوةِ سورةِ الإخلاصِ.
ولمَّا كانتِ الصَّلاةُ مُشتَمِلةً على القِراءةِ والذِّكرِ والدُّعاءِ، وهيَ جامِعةٌ لأجزاءِ العُبوديَّةِ على أتَمِّ الوُجوهِ؛ كانت أفضَلَ مِن كُلٍّ مِنَ القِراءةِ والذِّكرِ والدُّعاءِ بمُفرَدِه؛ لجَمعِها ذلك كُلَّه مَعَ عُبوديَّةِ سائِرِ الأعضاءِ.
فهذا أصلٌ نافِعٌ جِدًّا يَفتَحُ للعَبدِ بابَ مَعرِفةِ مَراتِبِ الأعمالِ وتَنزيلِها مَنازِلَها؛ لئَلَّا يَشتَغِلَ بمفضولِها عن فاضِلِها، فيَربَحَ إبليسُ الفَضلَ الذي بَينَهما، أو يَنظُرَ إلى فاضِلِها فيَشتَغِلَ به عن مفضولِها إن كان ذلك وَقتَه، فتَفوتَه مَصلَحَتُه بالكُلِّيَّةِ؛ لظَنِّه أنَّ اشتِغالَه بالفاضِلِ أكثَرُ ثَوابًا وأعظَمُ أجرًا.
وهذا يَحتاجُ إلى مَعرِفةٍ بمَراتِبِ الأعمالِ وتَفاوُتِها ومَقاصِدِها، وفِقهٍ في إعطاءِ كُلِّ عَمَلٍ مِنها حَقَّه، وتَنزيلِه في مَرتَبَتِه، وتَفويتِه لِما هو أهَمُّ مِنه، أو تَفويتِ ما هو أولى مِنه وأفضَلُ لإمكانِ تَدارُكِه والعَودِ إليه، وهذا المَفضولُ إن فاتَ لا يُمكِنُ تَداركُه؛ فالاشتِغالُ به أَولى، وهذا كتَركِ القِراءةِ لرَدِّ السَّلامِ وتَشميتِ العاطِسِ، وإن كان القُرآنُ أفضَلَ؛ لأنَّه يُمكِنُه الاشتِغالُ بهذا المَفضولِ والعَودُ إلى الفاضِلِ، بخِلافِ ما إذا اشتَغَلَ بالقِراءةِ فاتَته مَصلَحةُ رَدِّ السَّلامِ وتَشميتِ العاطِسِ، وهَكَذا سائِرُ الأعمالِ إذا تَزاحَمَت. واللهُ تعالى الموفِّقُ)
[2256] ((الوابل الصيب من الكلم الطيب)) (ص: 91، 92). .
دَعوةُ المَظلومِ: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَ مُعاذًا إلى اليَمَنِ، فقال: اتَّقِ دَعوةَ المَظلومِ؛ فإنَّها ليسَ بَينَها وبَينَ اللهِ حِجابٌ)) [2257] أخرجه البخاري (2448) واللفظ له، ومسلم (19). . أي: ليسَ لها صارِفٌ يَصرِفُها ولا مانِعٌ، والمُرادُ أنَّها مَقبولةٌ وإن كان عاصيًا
[2258] ((نيل الأوطار)) للشوكاني (4/ 140). . فالمَظلومُ دَعوتُه مُستَجابةٌ إذا دَعا على ظالِمِه بمِثلِ ما ظَلمَه أو أقَلَّ، أمَّا إذا تَجاوزَ فإنَّه يَكونُ مُعتَديًا فلا يُستَجابُ له
[2259] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 616). .
أنواعُ الدُّعاءِيَنقَسِمُ الدُّعاءُ إلى:
1- دُعاءِ ثَناءٍ وعِبادةٍ.
2- دُعاءِ طَلَبٍ ومَسألةٍ.
وهما مُتَلازِمانِ (فإنَّ دُعاءَ المَسألةِ هو طَلَبُ ما يَنفعُ الدَّاعيَ، وطَلَبُ كَشفِ ما يَضُرُّه أو دَفعِه، وكُلُّ مَن يَملِكُ الضُّرَّ والنَّفعَ فإنَّه هو المَعبودُ حَقًّا، والمَعبودُ لا بُدَّ أن يَكونَ مالكًا للنَّفعِ والضَّرَرِ... فهو يُدعى للنَّفعِ والضُّرِّ دُعاءَ المَسألةِ، ويُدعى خَوفًا ورَجاءً دُعاءَ العِبادةِ؛ فعُلِمَ أنَّ النَّوعَينِ مُتَلازِمانِ، فكُلُّ دُعاءِ عِبادةٍ مُستَلزِمٌ لدُعاءِ المَسألةِ، وكُلُّ دُعاءِ مَسألةٍ مُتَضَمِّنٌ لدُعاءِ العِبادةِ، وعلى هذا فقَولُه تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] يَتَناولُ نَوعَيِ الدُّعاءِ، وبكُلٍّ مِنهما فُسِّرَتِ الآيةُ، قيل: أُعطيه إذا سَألني، وقيل: أُثيبه إذا عَبَدَني، والقَولانِ مُتَلازِمانِ)
[2260] ((بدائع الفوائد)) (3/ 2، 3). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الدُّعاءُ والدَّعوةُ في القُرآنِ يَتَناولُ مَعنَيَينِ: دُعاءُ العِبادةِ، ودُعاءُ المَسألةِ، قال اللهُ تعالى:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء: 213] ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ [القصص: 88] وَقَالَ:
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] ، وَقَالَ:
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء: 117] ، وَقَالَ تَعَالَى:
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد: 14] ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68] ، وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ:
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان: 77] . قيل: لولا دُعاؤُكُم إيَّاه، وقيل: لولا دُعاؤُه إيَّاكُم...
ولفظُ الصَّلاةِ في اللُّغةِ أصلُه الدُّعاءُ، وسُمِّيَتِ الصَّلاةُ دُعاءً لتَضَمُّنِها مَعنى الدُّعاءِ، وهو العِبادةُ والمَسألةُ.
وقد فُسِّرَ قَولُه تعالى:
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ بالوجهَينِ، قيل: اعبُدوني وامتَثِلوا أمري أستَجِبْ لكُم، وقيل: سَلوني أُعطِكُم...
وقال تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] ، وكُلُّ سائِلٍ راغِبٍ راهبٍ فهو عابدٌ للمسؤولِ، وكُلُّ عابدٍ له فهو أيضًا راغِبٌ وراهبٌ يَرجو رَحمَتَه ويَخافُ عَذابَه، فكُلُّ عابدٍ سائِلٌ، وكُلُّ سائِلٍ عابدٌ. فأحَدُ الاسمَينِ يَتَناولُ الآخَرَ عِندَ تَجَرُّدِه عنه، ولكِن إذا جُمِعَ بَينَهما فإنَّه يُرادُ بالسَّائِلِ الذي يَطلُبُ جَلبَ المَنفعةِ ودَفعَ المَضَرَّةِ بصيَغِ السُّؤالِ والطَّلَبِ. ويُرادُ بالعابدِ مَن يَطلُبُ ذلك بامتِثالِ الأمرِ وإن لم يَكُنْ في ذلك صيَغُ سُؤالٍ...
والمَقصودُ هنا أنَّ لفظَ الدَّعوةِ والدُّعاءِ يَتَناولُ هذا وهذا، قال اللهُ:
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] [2261] ومِن هذا البابِ دُعاءُ الكَربِ -وهو ثَناءٌ-: ((لا إلهَ إلَّا اللَّهُ العَظيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ، لا إلهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَواتِ ورَبُّ الأرضِ ورَبُّ العَرشِ الكَريمِ)). وسَبَقَ الكَلامُ عليه. وينظر أيضًا: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (7/ 56، 57). ، وفي الحَديثِ: «أفضَلُ الذِّكرِ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وأفضَلُ الدُّعاءِ الحَمدُ للَّهِ»
[2262] أخرجه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3800) مِن حَديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (846)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/63)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3383)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1858)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (846). ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ الذي رَواه التِّرمذيُّ وغَيرُه: «دَعوةُ أخي ذي النُّونِ
لَا إِلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ما دَعا بها مَكروبٌ إلَّا فرَّجَ اللهُ كُربَتَه»
[2263] أخرجه الترمذي (3505)، وأحمد (1462) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: عن سَعدٍ، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دَعا وهو في بَطنِ الحوتِ: لا إلَهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمينَ؛ فإنَّه لَم يَدعُ بها رَجُلٌ مُسلِمٌ في شَيءٍ قَطُّ إلَّا استَجابَ اللهُ له)). صحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/325)، وحَسَّنه ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (4/11)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1886)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/36). وذهب إلى تصحيحِه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3505). ، سَمَّاها دَعوةً؛ لأنَّها تَتَضَمَّنُ نَوعَيِ الدُّعاءِ؛ فقَولُه: "لا إلهَ إلَّا أنتَ" اعتِرافٌ بتَوحيدِ الإلهيَّةِ، وتَوحيدُ الإلهيَّةِ يَتَضَمَّنُ أحَدَ نَوعَيِ الدُّعاءِ؛ فإنَّ الإلهَ هو المُستَحِقُّ لأن يُدعى دُعاءَ عِبادةٍ ودُعاءَ مَسألةٍ، وهو اللهُ لا إلهَ إلَّا هو. وقَولُه: "إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالمينَ" اعتِرافٌ بالذَّنبِ، وهو يَتَضَمَّنُ طَلبَ المَغفِرةِ، فإنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلبِ، وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخَبَرِ، إمَّا بوصفِ حالِه، وإمَّا بوصفِ حالِ المَسؤولِ، وإمَّا بوصفِ الحالينِ، كقَولِ نوحٍ عليه السَّلامُ:
رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47] ، فهذا ليسَ صيغةَ طَلبٍ، وإنَّما هو إخبارٌ عنِ اللهِ أنَّه إن لم يَغفِرْ له ويَرحَمْه خَسِرَ، ولكِنَّ هذا الخَبَرَ يَتَضَمَّنُ سُؤالَ المَغفِرةِ، وكذلك قَولُ آدَمَ عليه السَّلامُ:
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] هو مِن هذا البابِ، ومِن ذلك قَولُ موسى عليه السَّلامُ:
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] فإنَّ هذا وصفٌ لحالِه بأنَّه فقيرٌ إلى ما أنزَل اللهُ إليه مِنَ الخَيرِ، وهو مُتَضَمِّنٌ لسُؤالِ اللهِ إنزالَ الخَيرِ إليه.
ومِن هذا البابِ قَولُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ:
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فوصَف نَفسَه، ووصَف رَبَّه بوصفٍ يَتَضَمَّنُ سُؤالَ رَحمَتِه بكَشفِ ضُرِّه، وهيَ صيغةُ خَبَرٍ تَضَمَّنَتِ السُّؤالَ. وهذا مِن بابِ حُسنِ الأدَبِ في السُّؤالِ والدُّعاءِ)
[2264] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/ 237-245). ..
لا تحقِرَنَّ شَيئًا مِنَ الدُّعاءِكان يُقالُ: إنَّ اللَّهَ خَبَّأ أربَعًا في أربَعٍ: رِضاه في طاعَتِه، فلا تحقِرَنَّ شَيئًا مِن أبوابِ البرِّ تَفعَلُه، وخَبَّأ سَخَطَه في مَعاصيه، فلا تحقِرَنَّ شَيئًا مِنَ المَعاصي تَجتَنِبُه، وخَبَّأ وِلايَتَه في عِبادِه، فلا تحقِرَنَّ أحَدًا مِن عِبادِه، فإنَّ اللَّهَ لم يَحقِرْه إذ أودَعَه الإيمانَ، وخَبَّأ إجابَتَه في دُعائِه، فلا تحقِرَنَّ شَيئًا مِنَ الدُّعاءِ تَدعو به
[2265] ((الدعاء المأثور)) للطرطوشي (ص: 74). .