موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: التَّبَسُّمُ والبَشاشةُ


مِن السُّنَّةِ التَّبَسُّمُ والبَشاشةُ عِندَ اللِّقاءِ.
الدَّليلُ على ذلك من السنةِ:
1- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أن تَلقى أخاك بوَجهٍ طَلقٍ)) [215] أخرجه مسلم (2626). .
وفي رِوايةٍ: ((لا يَحقِرَنَّ أحَدُكُم شيئًا مِنَ المَعروفِ، وإن لم يَجِدْ فليَلْقَ أخاه بوَجهٍ طَلقٍ)) [216] أخرجها الترمذي (1833). صححها الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1833)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بوَجهٍ طَلقٍ)) أي: بوَجهٍ ضاحِكٍ مُستَبشِرٍ؛ وذلك لِما فيه مِن إيناسِ الأخِ المُؤمِنِ، ودَفعِ الإيحاشِ عنه، وجَبرِ خاطِرِه، وبذلك يَحصُلُ التَّأليفُ المَطلوبُ بينَ المُؤمِنينَ [217] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/ 1341)، ((دليل الفالحين)) لابن علان (2/ 356). .
2- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ مَعروفٍ صَدَقةٌ، وإنَّ مِنَ المَعروفِ أن تَلقى أخاك بوَجهٍ طَلقٍ، وأن تُفرِغَ مِن دَلْوِك في إناءِ أخيك)) [218] أخرجه الترمذي (1970)، وأحمد (14877). صححه شعيب الأرناؤوط بطرقه وشواهده في تخريج ((مسند أحمد)) (14877)، وحَسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4557). .
3- عن أبي جُرَيٍّ جابِرِ بنِ سُلَيمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((لا تَحقِرَنَّ شيئًا مِنَ المَعروفِ، وأن تُكلِّمَ أخاك وأنتَ مُنبَسِطٌ إليه وَجهُك إنَّ ذلك مِنَ المَعروفِ... )) الحَديثَ [219] أخرجه أبو داود (4084) واللفظ له، والترمذي (2722)، وأخرجه أحمد (20636) مُختَصَرًا، ولم يُسَمِّ الصَّحابيَّ، وقال: عَن رَجُلٍ مَن بَلْهُجَيمِ. صحَّحه لغيرِه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (770)، وقال الوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (196): يَرْتقي إلى الصِّحَّةِ، وقال الترمذيُّ: حَسنٌ صحيحٌ، وجوَّد إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (3/151)، وحسَّنه الذَّهبيُّ في ((المهذب)) (8/4253) وقال: لبعضِه طرقٌ عن جابرٍ. وذهَب إلى تصحيحِه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (129)، وابنُ القيِّمِ في ((زاد المعاد)) (2/383)، وابنُ حجرٍ كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/322). .
قال المُناويُّ: («مُنبَسِطٌ» أي: مُنطَلقٌ بالسُّرورِ والانشِراحِ. ونَظْمُ هذا الحَديثِ كنَظْمِ الجُمانِ، ورَوضِ الجِنانِ، وفيه -كما قال الغَزاليُّ- رَدٌّ على كُلِّ عالمٍ أو عابدٍ عَبَّسَ وَجهَه، وقَطَّبَ جَبينَه، كأنَّه مُستَقذِرٌ للنَّاسِ أو غَضبانُ عليهم أو مُنَزَّهٌ عنهم، ولا يَعلمُ المِسكينُ أنَّ الورَعَ ليس في الجَبهةِ حتَّى تُقَطَّبَ، ولا في الخَدِّ حتَّى يُصَعَّرَ، ولا في الظَّهرِ حتَّى يَنحَنيَ، ولا في الرَّقَبةِ حتَّى تَطَأطَأَ، ولا في الذَّيلِ حتَّى يُضَمَّ، إنَّما الورَعُ في القَلبِ، أمَّا الذي تَلقاه ببِشرٍ ويَلقاك بعُبوسٍ يَمُنُّ عليك بعِلمِه، فلا أكثَرَ اللَّهُ في المُسلمينَ مِثلَه، ولو كان اللهُ يَرضى بذلك ما قال لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ) [220] ((فيض القدير)) (1/ 121، 122). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 351). .
4- عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ، وفاطِمةَ بنتِ المُنذِرِ بنِ الزُّبيرِ، أنَّهما قالا: ((خرجَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ حينَ هاجرَت وهي حُبلى بعبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، فقدِمَت قُباءً، فنُفِسَت [221] نُفِسَت المرأةُ، بضمِّ النونِ وفَتحِها: إذا وَلَدَت. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 69). بعبدِ اللهِ بقُباءٍ، ثُمَّ خرجَت حينَ نُفِسَت إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُحنِّكَه [222] تحنيكُ الصَّبيِّ عندَ الولادةِ: هو أن يمضغَ تمرةً، يَدلُكُ بها حَنَكَه، ويوضَعُ منها في فَمِه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (7/ 81). ، فأخَذه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منها، فوضَعه في حِجرِه، ثُمَّ دعا بتَمْرةٍ -قال: قالت عائِشةُ: فمكَثْنا ساعةً نلتَمِسُها قَبلَ أن نجِدَها- فمضَغَها، ثُمَّ بصَقَها في فيه؛ فإنَّ أوَّلَ شيءٍ دخَل بَطنَه لَريقُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قالت أسماءُ: ثُمَّ مسَحه وصلَّى عليه [223] صلَّى عليه، أي: دعا له. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 126). ، وسمَّاه عبدَ اللهِ، ثُمَّ جاء وهو ابنُ سَبعِ سنينَ أو ثمانٍ ليُبايِعَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَره بذلك الزُّبَيرُ، فتبسَّم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ رآه مُقبِلًا إليه، ثُمَّ بايَعَه)) [224] أخرجه البخاري (5469) بنحوه، ومسلم (2146) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ: ((فوضَعَه في حِجرِه، ثُمَّ دَعا بتَمرةٍ فمَضَغَها، ثُمَّ تَفَلَ في فيه، فكان أوَّلَ شيءٍ دَخَل جَوفَه ريقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ حَنَّكه بالتَّمرةِ، ثُمَّ دَعا له وبَرَّك عليه [225] التَّبريكُ على الوَلَدِ: أن يدعوَ له بالبركةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (1/ 366). ، وكان أوَّلَ مَولودٍ وُلِدَ في الإسلامِ)) [226] أخرجها مسلم (2146). .
5- عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ما حَجَبَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنذُ أسلَمتُ، ولا رَآني إلَّا تَبَسَّمَ في وجهي)) [227] أخرجه البخاري (3035)، ومسلم (2475). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (فيه أنَّ لقاءَ النَّاسِ بالتَّبَسُّمِ وطَلاقةِ الوَجهِ مِن أخلاقِ النُّبوَّةِ، وهو مُنافٍ للتَّكبُّرِ وجالبٌ للمَودَّةِ) [228] ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 193). .
مِن أقوالِ السَّلفِ في التبسُّمِ والبِشرِ
1- عن حَبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، قال: (مِن حُسنِ خُلُقِ الرَّجُلِ أن يُحدِّثَ صاحِبَه وهو يَبتَسِمُ) [229] رواه ابنُ حبان في ((روضة العقلاء)) (ص: 77). .
وفي رِوايةٍ: (مِن حُسنِ خُلُقِ الرَّجُلِ أن يُحَدِّثَ صاحِبَه وهو مُقبِلٌ عليه بوَجهِه) [230] رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (11/ 54) رقم (8166). .
وفي أخرى: (إنَّ مِنَ السُّنَّةِ إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ القَومَ أن يُقبِلَ عليهم جَميعًا، ولا يَخُصَّ أحَدًا دونَ أحَدٍ) [231] رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 61). .
2- عَنِ الأصمَعيِّ، قال: سَمِعتُ ابنَ المُبارَكِ يَقولُ: (إنَّه ليُعجِبُني مِنَ القُرَّاءِ كُلُّ طَلقٍ مِضحاكٍ، فأمَّا مَن تَلقاه بالبِشرِ ويَلقاك بالعُبوسِ، كأنَّه يَمُنُّ عليك بعَمَلِه، فلا أكثَرَ اللَّهُ في القُرَّاءِ مِثلَه) [232] رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (10/ 408، 409) رَقم (7710). .
3- قال أبو الطَّيِّبِ الوَشَّاءُ: (اعلَمْ أنَّ أحسَنَ ما تألَّف به النَّاسُ قُلوبَ أخلَّائِهم، ونفَوا به الضِّغنَ عن قُلوبِ أعدائِهم: البِشرُ بهم عندَ حُضورِهم، والتَّفقُّدُ لأمورِهم، وحُسنُ البَشاشةِ؛ فذلك يُثبِتُ المحبَّةَ والإخاءَ)) [233] ((الموشى)) (ص: 28). .

انظر أيضا: