فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ
مُعانَقةُ الوالِدِ وَلَدَه الصَّغيرَلا بَأسَ بمُعانَقةِ الوالِدِ وَلَدَه الصَّغيرَ دونَ اشتِراطِ قُدومٍ مِن سَفَرٍ أو تَباعُدِ لقاءٍ، كما في غَيرِه
[283] قال البَغويُّ: (تُكرَهُ المُعانَقةُ وتَقبيلُ الوَجهِ إلَّا لوَلَدِه شَفقةً، وتُستَحَبُّ المُصافَحةُ). ((التهذيب)) (5/ 235). ويُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (7/ 28). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((خَرَجتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طائِفةٍ مِنَ النَّهارِ، لا يُكلِّمُني ولا أكلِّمُه، حتَّى جاءَ سوقَ بَني قَينُقاعَ، ثُمَّ انصَرَف، حتَّى أتى خِباءَ فاطِمةَ [284] أي: بيتَها، وأصلُ الخِباءِ: ما يُخَبَّأُ فيه، وقد صارَ بحُكمِ العُرفِ العَرَبيِّ عِبارةً عَن بُيوتِ الأعرابِ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 299). ، فقال: أثَمَّ لُكَعُ [285] أي: أثَمَّ صَغيرٌ؟ يُريدُ الصَّغيرَ في السِّنِّ، فإذا قيل للكبيرِ أُريدَ الصَّغيرُ في العِلمِ والمَعرِفةِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 598)، ((أعلام الحَديثِ)) للخَطابي (2/ 1037، 1038). قال عياضٌ: (يحتملُ أن يَكونَ على بابِه في الاستِصغارِ، على طَريقِ التَّعليلِ له والرَّحمةِ). ((مشارق الأنوار)) (1/ 358). ويُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 250). ؟ أثَمَّ لُكَعُ؟ يَعني حَسَنًا، فظَنَنَّا أنَّه إنَّما تَحبِسُه أمُّه لأن تُغَسِّلَه وتُلبِسَه سِخابًا [286] السِّخابُ: خيطٌ فيه خَرَزٌ، يُنظَمُ في أعناقِ الصِّبيانِ والجَواري، وقيل: هو مِنَ العودِ، وقيل: سُمِّيَ سِخابًا لصَوتِ خَرَزِه عِندَ حَرَكتِها واصطِكاكِها، مِنَ الصَّخَبِ، وهو اختِلاطُ الأصواتِ، يُقالُ بالسِّينِ والصَّادِ. قيل: ولهذا يَلبَسُه الصِّبيانُ الصِّغارُ، يشغَلُهم صَوتُها وتُلهيهمُ اللَّعِبُ بها عَن غيرِه، وقيل: السِّخابُ: ما اتُّخِذَ مِنَ القَلائِدِ مِنَ القَرَنفُلِ والمِسكِ دونَ الجَواهرِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 433). ، فلم يَلبَثْ أن جاءَ يَسعى، حتَّى اعتَنَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما صاحِبَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ إنِّي أحِبُّه، فأحِبَّه وأحبِبْ مَن يُحِبُّه)) [287] أخرجه مسلم (2421). .
وفي رِوايةٍ:
((... فجَلسَ بفِناءِ بيتِ فاطِمةَ [288] الفِناءُ: ما حَولَ الدَّارِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 440). ، فقال: أثَمَّ لُكَعُ، أثَمَّ لُكَعُ؟ فحَبَسَتْه شيئًا، فظَنَنتُ أنَّها تُلبِسُه سِخابًا، أو تُغَسِّلُه، فجاءَ يَشتَدُّ حتَّى عانَقَه وقَبَّله، وقال: اللهُمَّ أحبِبْه وأحِبَّ مَن يُحِبُّه)) [289] أخرجها البخاري (2122). .
وفي رِوايةٍ أُخرى عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سوقٍ مِن أسواقِ المَدينةِ، فانصَرَف فانصَرَفتُ، فقال: «أينَ لُكَعُ -ثَلاثًا- ادعُ الحَسَنَ بنَ عَليٍّ. فقامَ الحَسَنُ بنُ عليٍّ يَمشي وفي عُنُقِه السِّخابُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه هَكذا، فقال الحَسَنُ بيَدِه هَكذا، فالتَزَمَه، فقال: اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّه فأحِبَّه، وأحِبَّ مَن يُحِبُّه. قال أبو هُرَيرةَ: فما كان أحَدٌ أحَبَّ إليَّ مِنَ الحَسَنِ بنِ عليٍّ، بَعدَ ما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قال)) [290] أخرجه البخاري (5884) واللفظ له، ومسلم (2421). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه: «جاءَ يَسعى حتَّى اعتَنَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما صاحِبَه» فيه استِحبابُ مُلاطَفةِ الصَّبيِّ ومُداعَبَتِه رَحمةً له ولُطفًا، واستِحبابُ التَّواضُعِ مَعَ الأطفالِ وغَيرِهم)
[291] ((شرح مسلم)) (15/ 193). ويُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 433). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (لا خِلافَ فيما أحسَبُ في جَوازِ عِناقِ الصِّغارِ، كما فعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما اختُلِف في عِناقِ الكبيرِ في حالةِ السَّلامِ)
[292] قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (لا خِلافَ فيما أحسَبُ في جَوازِ عِناقِ الصِّغارِ، كما فعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما اختُلِف في عِناقِ الكبيرِ في حالةِ السَّلامِ). ((المفهم)) (6/ 300). .
المُعانَقةُ وتَقبيلُ الوَجهِ لغَيرِ الطِّفلِ ولغيرِ القادِمِ مِن سَفرٍ- قال النَّوويُّ: (أمَّا المُعانَقةُ وتَقبيلُ الوَجهِ لغَيرِ الطِّفلِ ولغيرِ القادِمِ مِن سَفرٍ ونَحوِه، فمَكروهانِ، نَصَّ على كراهَتِهما أبو مُحَمَّدٍ البَغَويُّ
[293] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (5/ 235). وغيرُه مِن أصحابِنا.
وهذا الذي ذَكَرناه في التَّقبيلِ والمُعانَقةِ، وأنَّه لا بَأسَ به عِندَ القُدومِ مِن سَفرٍ ونَحوِه، ومَكروهٌ كراهةَ تَنزيهٍ في غيرِه: هو في غيرِ الأمرَدِ الحَسَنِ الوَجهِ، فأمَّا الأمرَدُ الحَسَنُ، فيَحرُمُ بكُلِّ حالٍ تَقبيلُه، سَواءٌ قَدِمَ مِن سَفرٍ أم لا.
والظَّاهرُ أنَّ مُعانَقَتَه كتَقبيلِه، أو قَريبةٌ مِن تَقبيلِه، ولا فرقَ في هذا بينَ أن يَكونَ المُقَبِّلُ والمُقَبَّلُ رَجُلينِ صالحينِ أو فاسِقينَ، أو أحَدُهما صالحًا؛ فالجَميعُ سَواءٌ...
ويُكرَهُ حَنيُ الظَّهرِ في كُلِّ حالٍ لكُلِّ أحَدٍ، ولا يُغتَرَّ بكثرةِ مَن يَفعَلُه مِمَّن يُنسَبُ إلى عِلمٍ أو صَلاحٍ وغيرِهما مِن خِصالِ الفَضلِ؛ فإنَّ الاقتِداءَ إنَّما يَكونُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال اللهُ تعالى:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وقال تعالى:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
وعَنِ الفُضَيلِ بنِ عِياضٍ رَضِيَ اللهُ عنه ما مَعناه: اتَّبِعْ طُرُقَ الهدى ولا يَضُرُّك قِلَّةُ السَّالِكينَ، وإيَّاك وطُرُقَ الضَّلالةِ ولا تَغتَرَّ بكثرةِ الهالِكينَ.. وباللهِ التَّوفيقُ)
[294] ((الأذكار)) (ص: 265-268). .
المصافحةُ بعدَ الصَّلاةِلا تُشْرَعُ المصافحةُ عقيبَ الصَّلواتِ
[295] قال القاري: (ومع هذا إذا مَدَّ مُسلِمٌ يَدَه للمصافَحةِ فلا ينبغي الإعراضُ عنه بجَذبِ اليدِ؛ لِما يترتَّبُ عليه من أذًى يزيدُ على مراعاةِ الأدبِ، فحاصِلُه أنَّ الابتداءَ بالمصافَحةِ حينَئذٍ على الوَجهِ المشروعِ مكروهٌ لا المجابَرةَ، وإن كان قد يقالُ: فيه نوعُ مُعاونةٍ على البِدعةِ. واللهُ أعلَمُ). ((مرقاة المفاتيح)) (7/ 2963). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (المُصافَحةُ عَقيبَ الصَّلاةِ ليسَت مَسنونةً، بَل هيَ بدعةٌ)
[296] ((مجموع الفتاوى)) (23/ 339). وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة": (اعتيادُ المصافَحةِ بعدَ صَلاةِ الفريضةِ بَينَ الإمامِ والمأمومين، أو بَينَ المأمومينَ بَعضِهم مع بعضٍ، كلُّ ذلك بِدعةٌ لا أصلَ لها، والواجِبُ تركُه؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن عَمِل عَمَلًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي بأصحابِه، وكذلك خلفاؤه من بَعدِه، كانوا يُصَلُّون بالمسلِمين، ولم يُنقَلْ عنه التزامُ المصافحةِ بعدَ كُلِّ صلاةٍ، وخيرُ الهَديِ هَديُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشَرُّ الأمورِ محدَثاتُها، وكلُّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (2/ 194، 195). .
وقال ابنُ الحاجِّ المالِكيُّ: (يَنبَغي له أن يَمنَعَ ما أحدَثوه مِنَ المُصافَحةِ بَعدَ صَلاةِ الصُّبحِ وبَعدَ صَلاةِ العَصرِ وبَعدَ صَلاةِ الجُمُعةِ، بَل زاد بَعضُهم في هذا الوقتِ فِعلَ ذلك بَعدَ الصَّلواتِ الخَمسِ، وذلك كُلُّه مِنَ البدَعِ، ومَوضِعُ المُصافحةِ في الشَّرعِ إنَّما هو عِندَ لقاءِ المُسلِمِ لأخيه لا في أدبارِ الصَّلواتِ الخَمسِ، وذلك كُلُّه مِنَ البدَعِ، فحَيثُ وضَعَها الشَّرعُ نَضَعُها، فيُنهى عن ذلك ويُزجَرُ فاعِلُه؛ لِما أتى مِن خِلافِ السُّنَّةِ)
[297] ((المدخل)) (2/ 219). .
وقال ابنُ عابدينَ: (قد يُقالُ: إنَّ المواظَبةَ عليها بَعدَ الصَّلواتِ خاصَّةً قد يُؤَدِّي الجَهَلةَ إلى اعتِقادِ سُنِّيَّتِها في خُصوصِ هذه المَواضِعِ، وأنَّ لها خُصوصيَّةً زائِدةً على غَيرِها، مَعَ أنَّ ظاهرَ كَلامِهم أنَّه لم يَفعَلْها أحَدٌ مِنَ السَّلفِ في هذه المَواضِعِ)
[298] ((رد المحتار)) (6/ 381). قال ابنُ عُثَيمين في ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (13/ 287): إنَّ (الإنسانَ إذا فَعَلَها بعدَ الصَّلاةِ لا على سَبيلِ أنَّها مشروعةٌ، ولكِنْ على سبيلِ التَّأليفِ والمودَّةِ، فأرجو أن لا يكونَ بهذا بأسٌ؛ لأنَّ النَّاسَ اعتادوا ذلك. أمَّا من فعَلَها معتَقِدًا بأنَّها سُنَّةٌ فهذا لا ينبغي ولا يجوزُ له، حتَّى يَثبُتَ أنَّها سُنَّةٌ، ولا أعلَمُ أنَّها سُنَّةٌ). ويُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 266). .
القيامُ للقادِمِقال أبو الوليدِ ابنُ رُشدٍ: (القيامُ للرَّجُلِ على أربعةِ أوجُهٍ: وجهٌ يَكونُ القيامُ فيه مَحظورًا، ووجهٌ يَكونُ فيه مَكروهًا، ووجهٌ يَكونُ فيه جائِزًا، ووجهٌ يَكونُ فيه حَسَنًا.
فأمَّا الوَجهُ الذي يَكونُ فيه مَحظورًا لا يَحِلُّ، فهو أن يَقومَ إكبارًا وتَعظيمًا لمَن يُحِبُّ أن يُقامَ إليه تَكبُّرًا وتَجبُّرًا على القائِمينَ إليه.
وأمَّا الوَجهُ الذي يَكونُ القيامُ فيه مَكروهًا فهو أن يَقومَ إكبارًا وتَعظيمًا وإجلالًا لمَن لا يُحِبُّ أن يُقامَ إليه ولا يَتَكَبَّرُ على القائِمينَ إليه، فهذا يُكرَهُ للتَّشَبُّهِ بفِعلِ الجَبابرةِ، ولِما يُخشى أن يَدخُلَه مِن تَغَيُّرِ نَفسِ المَقومِ إليه.
وأمَّا الوَجهُ الذي يَكونُ القيامُ فيه جائِزًا فهو أن يَقومَ تَجِلَّةً وإكبارًا لمَن لا يُريدُ ذلك ولا يُشبِهُ حالُه حالَ الجَبابرةِ، ويُؤمَنُ أن تَتَغَيَّرَ نَفسُ المِقومِ إليه لذلك، وهذه صِفةٌ مَعدومةٌ إلَّا فيمَن كان بالنُّبوَّةِ مَعصومًا؛ لأنَّه إذا تَغَيَّرَت نَفسُ عُمَرَ بالدَّابَّةِ التي رَكِبَ عليها، فمَن سِواه بذلك أحرى.
وأمَّا الوَجهُ الذي يَكونُ فيه القيامُ حَسَنًا فهو أن يَقومَ الرَّجُلُ إلى القادِمِ عليه مِن سَفَرٍ فرَحًا بقُدومِه ليُسَلِّمَ عليه، أو إلى القادِمِ عليه مَسرورًا بنِعمةٍ أَولاها اللَّهُ إيَّاه ليُهَنِّئَه بها، أو إلى القادِمِ عليه المُصابِ بمُصيبةٍ ليُعَزِّيَه بمُصابِه، وما أشبَهَ ذلك
[299] وقد ثَبَت أنَّ ((فاطِمةَ كانت إذا دخَلَت عليه قام إليها، فأخَذَ بيَدِها، وقَبَّلَها، وأجلَسَها في مجلِسِه، وكان إذا دخَلَ عليها قامت إليه فأخَذَت بيَدِه فقَبَّلَته، وأجلَسَته في مجلِسِها)). أخرجه أبو داود (5217) واللفظ له، والترمذي (3872) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6953)، والحاكم في ((المستدرك)) (4816)، والنووي في ((الترخيص بالقيام)) (42)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3872). .
فعلى هذا يَتَخَرَّجُ ما ورَدَ في هذا البابِ مِنَ الآثارِ، ولا يَتَعارَضُ شَيءٌ مِنها.
مِن ذلك:... رُوِيَ عن أبي مِجلَزٍ، قال: دَخَل مُعاويةُ بَيتًا فيه عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيرِ وعَبدُ اللَّهِ بنُ عامِرٍ، فقامَ ابنُ عامِرٍ وثَبَتَ ابنُ الزُّبَيرِ، وكان أرزَنَهما، فقال مُعاويةُ: اجلِسْ يا ابنَ عامِرٍ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «مَن أحَبَّ أن يَمثُلَ
[300] مَثُل النَّاسُ للأميرِ قيامًا: إذا قاموا بَينَ يَدَيه وعن جانِبَيه وهو جالِسٌ، نهي عنه لأنَّ الباعِثَ عليه الكِبرُ وإذلالُ النَّاسِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 537). له الرِّجالُ قيامًا فليَتَبَوَّأْ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ»
[301] أخرجه أبو داود (5229)، والترمذي (2755)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (977) واللفظ له صححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (748)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1121)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (13/140)، وحسنه الترمذي، وصحح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/372)، وقال ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (14/126): إسناده على شرط الصحيحين .
وقامَ طَلحةُ بنُ عَبدِ اللَّهِ بحَضرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكَعبِ بنِ مالكٍ؛ ليُهَنِّئَه بتَوبةِ اللهِ عليه، فلم يُنكِرْ ذلك عليه، ولا قامَ مِن مَجلسِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ أحَدٌ سِواه إليه، فكان كَعبٌ يَقولُ: لا أنساها لطَلحةَ
[302] أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769)؛ ولفظ البخاري: قَالَ كَعْبٌ: حتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صَافَحَنِي وهَنَّانِي، واللَّهِ ما قَامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، ولَا أنْسَاهَا لِطَلْحَةَ .
وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكرَهُ أن يُقامَ إليه، فلا يَقومُ إليه مَن عَلِمَ بكَراهيَتِه لذلك، رُويَ عن أنَسٍ أنَّه قال: «لم يَكُنْ شَخصٌ أحَبَّ إليهم مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكانوا إذا رَأوه لم يَقوموا؛ لِما يَعلمونَ مِن كَراهيَتِه لذلك»
[303] أخرجه الترمذي (2754)، وأحمد (12345) باختلاف يسير؛ ولفظ الترمذي: عن أنس قال : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك صححه البغوي في ((شرح السنة)) (6/357)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/91)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2754)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (52)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصحح إسناده ابن تيمية في ((الإخنائية)) (364)، ومحمد ابن عبدالهادي في ((الصارم المنكي)) (140)، وقال ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (14/126): إسناده على شرط مسلم ...
وأمَّا ما رُويَ مِن قَولِه للأنصارِ: «قوموا إلى سَيِّدِكُم»
[304] لفظه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ علَى حُكْمِ سَعْدٍ هو ابنُ مُعَاذٍ، بَعَثَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكانَ قَرِيبًا منه، فَجَاءَ علَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ فَجَاءَ، فَجَلَسَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ له: إنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا علَى حُكْمِكَ، قالَ: فإنِّي أحْكُمُ أنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قالَ: لقَدْ حَكَمْتَ فيهم بحُكْمِ المَلِكِ أخرجه البخاري (3034) واللفظ له، ومسلم (1768) ، فيحتملُ أن يَكونَ إنَّما أمرَهم بذلك تَجِلَّةً له وإكرامًا لعِلمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يُحِبُّ ذلك مِنهم، وأنَّه ليسَ مِمَّن يَتَكَبَّرُ عليهم، وقد قيل: إنَّه إنَّما أمَرَهم بالقيامِ إليه ليُعينوه على النُّزولِ مِن على الحِمارِ الذي أتى عليه
[305] وقد ثَبَتَ في رِوايةٍ: ((قوموا إلى سَيِّدِكُم فأنزِلوه)). [أخرَجها أحمدُ (25097)، وابنُ أبي شَيبةَ (37951)، وابنُ حبانَ (7028) مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها. قال شعيب الأرناؤوط في تخريجِ ((مسند أحمد)) (25097): بعضُه صحيحٌ، وجزءٌ منه حَسنٌ، وللحديثِ شواهِدُ يصِحُّ بها، وجوَّد إسنادَه ابنُ كثيرٍ في ((البداية والنهاية)) (4/125)، وحسَّنه ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (11/52)، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (67). وقد ذهَب إلى تصحيحِه ابنُ حبانَ]. ؛ لأنَّه كان مَريضًا مِنَ الجُرحِ الذي كان أصابَه، وكان رَجُلًا بَدينًا)
[306] ((البيان والتحصيل)) (4/ 359-361). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (لم تَكُنْ عادةُ السَّلَفِ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخُلفائِه الرَّاشِدينَ: أن يَعتادوا القيامَ كُلَّما يَرَونَه عليه السَّلامُ، كَما يَفعَلُه كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَل قد قال أنَسُ بنُ مالكٍ: «لم يَكُنْ شَخصٌ أحَبَّ إليهم مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكانوا إذا رَأوه لم يَقوموا؛ لِما يَعلمونَ مِن كَراهيَتِه لذلك»
[307] أخرجه الترمذيُّ (2754)، وأحمدُ (12345) باختلافٍ يسيرٍ؛ ولفظُ الترمذيِّ: عن أنسٍ قال: ((لم يكُنْ شخصٌ أحبَّ إليهم مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قال: وكانوا إذا رأَوْه لم يَقوموا؛ لما يَعْلمون مِن كراهيتِه لذلك)). صحَّحه البغويُّ في ((شرح السنة)) (6/357)، وابنُ بازٍ في ((مجموع الفتاوى)) (2/91)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2754)، والوادعيُّ على شرطِ مسلمٍ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (52)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِن هذا الوجهِ، وصحَّح إسنادَه ابنُ تيميةَ في ((الإخنائية)) (364)، ومحمدُ ابنُ عبدِالهادي في ((الصارم المنكي)) (140)، وقال ابنُ القيِّمِ في ((تهذيب السنن)) (14/126): إسنادُه على شرطِ مسلمٍ. ، ولكِن رُبَّما قاموا للقادِمِ مِن مَغيبِه تَلقِّيًا له...
والذي يَنبَغي للنَّاسِ أن يَعتادوا اتِّباعَ السَّلفِ على ما كانوا عليه على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّهم خَيرُ القُرونِ، وخَيرُ الكَلامِ كَلامُ اللَّهِ، وخَيرُ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَعدِلُ أحَدٌ عن هَديِ خَيرِ الورى وهَديِ خَيرِ القُرونِ إلى ما هو دونَه. ويَنبَغي للمُطاعِ ألَّا يُقِرَّ ذلك مَعَ أصحابِه، بحَيثُ إذا رَأوه لم يَقوموا له إلَّا في اللِّقاءِ المُعتادِ.
وأمَّا القيامُ لمَن يَقدَمُ مِن سَفَرٍ ونَحوِ ذلك تَلقِّيًا له فحَسَنٌ.
وإذا كان مِن عادةِ النَّاسِ إكرامُ الجائي بالقيامِ ولو تُرِك لاعتَقدَ أنَّ ذلك لتَركِ حَقِّه أو قَصدِ خَفضِه، ولم يَعلَمِ العادةَ الموافِقةَ للسُّنَّةِ، فالأصلَحُ أن يُقامَ له؛ لأنَّ ذلك أصلحُ لذاتِ البَينِ وإزالةِ التَّباغُضِ والشَّحناءِ، وأمَّا مَن عَرَف عادةَ القَومِ الموافِقةَ للسُّنَّةِ، فليسَ في تَركِ ذلك إيذاءٌ له، وليسَ هذا القيامُ المَذكورُ في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن سَرَّه أن يَتَمَثَّلَ له الرِّجالُ قيامًا فليَتَبَوَّأْ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ»
[308] أخرجه أبو داودَ (5229)، والترمذيُّ (2755) واللفظُ له، وأحمدُ (16918) مِن حديثِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ رضِي الله عنهما. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2755)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1121)، وشعيب الأرناؤوط في تخريجِ ((سير أعلام النبلاء)) (13/140)، وحسَّنه الترمذيُّ، وصحَّح إسنادَه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/372)، وقال ابنُ القيِّمِ في ((تهذيب السنن)) (14/126): إسنادُه على شرطِ الصحيحينِ. ؛ فإنَّ ذلك أن يَقوموا له وهو قاعِدٌ، ليسَ هو أن يَقوموا لمَجيئِه إذا جاءَ؛ ولهذا فرَّقوا بَينَ أن يُقالَ: قُمتُ إليه وقُمتُ له، والقائِمُ للقادِمِ ساواه في القيامِ، بخِلافِ القائِمِ للقاعِدِ.
وقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا صَلَّى بهم قاعِدًا في مَرَضِه صَلَّوا قيامًا، أمَرَهم بالقعودِ
[309] لفظُه: عن عائشةَ رضِي الله عنها ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دخَل عليه ناسٌ يَعُودونه في مرضِه، فصلَّى بهم جالسًا، فجَعَلوا يُصلُّونَ قِيامًا، فأشار إليهم: اجْلِسوا، فلمَّا فرَغ قال: ((إنَّ الإمامَ ليؤتمُّ به، فإذا ركَع فاركَعوا، وإذا رفَع فارْفَعوا، وإنْ صلَّى جالسًا فصلُّوا جُلوسًا)). أخرجه البخاريُّ (5658) واللفظُ له، ومسلمٌ (412). ، وقد نَهاهم عنِ القيامِ في الصَّلاةِ وهو قاعِدٌ؛ لئَلَّا يَتَشَبَّهَ بالأعاجِمِ الذينَ يَقومونَ لعُظَمائِهم وهم قُعودٌ.
وجِماعُ ذلك كُلِّه: الذي يَصلُحُ اتِّباعُ عاداتِ السَّلفِ وأخلاقِهم والاجتِهادُ عليه بحَسَبِ الإمكانِ، فمَن لم يَعتَقِدْ ذلك ولم يَعرِفْ أنَّه العادةُ، وكان في تَركِ مُعامَلتِه بما اعتادَ مِنَ النَّاسِ مِنَ الاحتِرامِ مَفسَدةٌ راجِحةٌ: فإنَّه يَدفعُ أعظَمَ الفسادينِ بالتِزامِ أدناهما، كَما يَجِبُ فِعلُ أعظَمِ الصَّلاحَينِ بتَفويتِ أدناهما)
[310] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 374-376). .