موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: الجُلوسُ حَيثُ يشيرُ صاحبُ البيتِ 


يَنبَغي للزَّائِرِ أن يَلتَزِمَ بالمَوضِعِ الذي يُشيرُ به المَزورُ ولا يَتَجاوزَه؛ إذِ المَرءُ أدرى بعَورةِ مَنزِلِه [393] قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (مَن عادَ مَريضًا أو زارَ صحيحًا فليَجلِسْ حَيثُ يَأمُرُه؛ فالمَرءُ أعلَمُ بعَورةِ مَنزِلِه). ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (2/ 1142). وقال أيضًا: (عن جَماعةٍ مِنَ السَّلفِ أنَّهم قالوا: صاحِبُ البَيتِ أعلَمُ بعَورةِ بَيتِه، فلا يَقعُدِ الزَّائِرُ إلَّا حَيثُ يُشارُ إليه مِنَ البَيتِ). ((الاستذكار)) (2/ 361). .
فوائِدُ:
1- قال ابنُ بَطَّالٍ: (صاحِبُ المَنزِلِ في مَنزِلِه كالأميرِ لا يَنبَغي لأحَدٍ التَّقدُّمُ عليه في أمرٍ) [394] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 315). .
2- قال خارِجةُ بنُ زَيدٍ النَّحويُّ: (دَخَلتُ على مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ بَيتَه زائِرًا له، فوجَدتُه جالسًا بالأرضِ، فألقى إليَّ وسادةً، فقُلتُ له: إنِّي قد رَضيتُ لنَفسي ما رَضيتَ لنَفسِك! فقال: إنِّي لا أرضى لك في بَيتي ما أرضى لنَفسي، واجلِسْ حَيثُ تُؤمَرُ؛ فلعَلَّ الرَّجُلَ في بَيتِه شَيءٌ يَكرَهُ أن تَستَقبِلَه) [395] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/ 258). .
3- قال ابنُ مُفلِحٍ: (قال الخَلَّالُ: "ما يكرَهُ إذا دَخَل الرَّجُلُ إلى مَنزِلِ رَجُلٍ أن يَقعُدَ إلَّا في مَوضِعٍ يُقعِدُه". قال ابنُ مَنصورٍ لأبي عَبدِ اللَّهِ: قَولُه: «لا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ في أهلِه، ولا يُجلَسُ على تَكرِمَتِه [396] التَّكْرِمةُ: الموضِعُ الخاصُّ لجُلوسِ الرَّجُلِ مِن فِراشٍ أو سريرٍ ممَّا يُعَدُّ لإكرامِه، وهي تَفعِلةٌ مِنَ الكرامةِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 168). إلَّا بإذنِه»؟ قال: أرجو أن يَكونَ الاستِثناءُ على كُلِّه، وأمَّا التَّكرِمةُ فلا بَأسَ إذا أذِنَ له [397] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه)) للكوسج (2/ 597، 598). .
وحاصِلُ ذلك وتَحقيقُه: أنَّه إن أمَرَه صاحِبُ المَنزِلِ بالجُلوسِ في مَكانٍ منه لم يَجُزْ أن يَتَعَدَّاه؛ لأنَّه مِلكُه وسُلطانُه وتَكرِمَتُه؛ ولهذا لو لم يَأذَنْ في الدُّخولِ لم يَجُزْ، ولو أمَرَه بالخُروجِ لم يَجُزْ له المُقامُ فيه، وهذا واضِحٌ.
وإن لم يَأمُرْه بالجُلوسِ في مَكانٍ مِنه، فهَل يَجلِسُ؟ وأينَ يَجلِسُ؟ يَنبَغي أن يَنظُرَ إلى عُرفِ صاحِبِ المَنزِلِ وعادَتِه في ذلك، فلا يَجوزُ أن يَتَعَدَّاه؛ لأنَّه خاصٌّ، فيَتَقَيَّدُ المُطلَقُ كالكَلامِ، فإن خالف صاحِبُ المَنزِلِ عادَتَه مَعَه بأن أمَرَه أو أذِنَ له في شَيءٍ، وافقَه إن ظَنَّ ذلك منه ظاهرًا وباطِنًا، وكَذا إن شَكَّ؛ حَملًا لحالِ المُكَلَّفِ على الصِّحَّةِ والسَّلامةِ.
وإن ظَنَّ أنَّه فعَل مَعَه ذلك ظاهرًا لا باطِنًا لمَعنًى مِنَ المَعاني لم يُجِبْه؛ لأنَّ المَقاصِدَ مُعتَبرةٌ، فلم يَأذَنْ، ثُمَّ يَجلسُ فيما يَظُنُّ إذنَه فيه ظاهرًا وباطِنًا، ويَعمَلُ في ذلك بالقَرائِنِ والأماراتِ وظَواهِرِ الحالِ، فإن لم يَكُنْ له عُرفٌ وعادةٌ في ذلك فالعُرفُ والعادةُ في ذلك الجُلوسُ بلا إذنٍ خاصٍّ فيه؛ لحُصولِه بالإذنِ في الدُّخولِ، ثُمَّ إن شاءَ جَلسَ أدنى المَجلِسِ مِن مَحَلِّ الجُلوسِ -لتَحَقُّقِ جَوازِه- مَعَ سُلوكِ الأدَبِ، ولعَلَّ هذا أوَلى، ما لم يُعَدَّ جُلوسُه هناكَ مُستَهجَنًا عادةً وعُرفًا بالنِّسبةِ إلى مَرتَبَتِه، أو يَحصُلْ لصاحِبِ المَنزِلِ بذلك خَجَلٌ أوِ استِحياءٌ، وأنَّه يُعجِبُه خِلافُ ذلك، ورُبَّما ظَنَّ شَيئًا لا يَليقُ، ونَحوُ ذلك، وإن شاءَ عَمِل بالظَّنِّ في جُلوسِه فيما يَأذَنُ فيه صاحِبُ المَنزِلِ، وهو أقرَبُ إلى عَوائِدِ النَّاسِ، وأبعَدُ مِنَ التُّهمةِ، وأقَلُّ للكَلامِ في ذلك، واللَّهُ أعلمُ) [398] ((الآداب الشرعية)) (1/ 401، 402). .

انظر أيضا: