موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ


عدمُ المبالغةِ في التَّكلُّفِ
يُروى عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إذا طَرَقك إخوانُك فلا تَدَّخِرْ عنهم ما في المَنزِلِ، ولا تَتَكَلَّفْ ما وراءَ البابِ) [610] ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 211). .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (هَلاكٌ بالرَّجُلِ أن يَدخُلَ عليه الرَّجُلُ مِن إخوانِه، فيَحتَقِرَ ما في بَيتِه أن يُقدِّمَه إليه، وهَلاكٌ بالقَومِ أن يَحتَقِروا ما قُدِّمَ إليهم) [611] رواه عبد الله بن المبارك في ((الزهد والرقائق)) (1403)، والبرجلاني في ((الكرم والجود)) (51)، وابن أبي الدنيا في ((قرى الضيف)) (56). .
وعن مَيمونِ بنِ مِهرانَ، قال: (إذا نَزَل بك ضَيفٌ فلا تَكَلَّفْ له ما لا تُطيقُ، وأطعِمْه مِن طعامِ أهلِك، والْقَه بوَجهٍ طَلقٍ؛ فإنَّك إن تَكَلَّفْ له ما لا تُطيقُ أوشَكَ أن تَلقاه بوَجهٍ يَكرَهُه) [612] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((قرى الضيف)) (38)، ومن طريقه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (9165). .
وعنِ الأحنَفِ بنِ قَيسٍ، قال: (ثَلاثٌ ليسَ فيهنَّ انتِظارٌ: الجِنازةُ إذا وَجَدَت مَن يَحمِلُها، والأَيِّمُ إذا أصابَت لها كُفُؤًا، والضَّيفُ إذا نَزَل لم يَنتَظِرْ به كُلفةً) [613] رواه البرجلاني في ((الكرم والجود)) (50)، وابن أبي الدنيا في ((قرى الضيف)) (59). .
وفي رِوايةٍ: (ثَلاثٌ ليسَ عِندي فيهنَّ أناةٌ: الضَّيفُ إذا نَزَل بي أن أُعَجِّلَ له ما كان، والجِنازةُ لا أحبِسُها، والأيِّمُ إذا عَرَضَ لها رَغبةٌ أن أُزَوِّجَها) [614] رواه عبد الله بن المبارك في ((الزهد والرقائق)) (1402). .
وعن بَكرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: (إذا أتاك ضَيفٌ فلا تَنتَظِرْ به ما ليسَ عِندَك، وتَمنَعْه ما عِندَك، بَل قدِّمْ إليه ما حَضَرَ، وانتَظِرْ به بَعدَ ذلك ما تُريدُ مِن إكرامِه) [615] رواه البرجلاني في ((الكرم والجود)) (52)، وابن أبي الدنيا في ((قرى الضيف)) (61). .
وعنِ المُفضَّلِ وَصيِّ جَعفَرِ بنِ برقانَ، قال: (إنَّما تَقاطَعَ النَّاسُ بالتَّكَلُّفِ) [616] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((قرى الضيف)) (60). .
جملةٌ مِن آدابِ الضَّيفِ
قال الأبشيهي: (وأمَّا آدابُ الضَّيفِ: فهو أن يُبادِرَ إلى مُوافَقةِ المُضيفِ في أُمورٍ؛ مِنها: أكلُ الطَّعامِ، ولا يَعتَذِرُ بشِبَعٍ، بَل يَأكُلُ كَيف أمكَنَ. فقد حُكيَ أنَّه ورَدَ على بَعضِ الأعرابِ ضَيفٌ، فدَخَل به إلى بَيتِه وقدَّمَ له الطَّعامَ، فقال الضَّيفُ: لستُ بجائِعٍ، وإنَّما أحتاجُ إلى مَكانٍ أبيتُ فيه، فقال الأعرابيُّ: إذا كان هذا فكُنْ ضَيفَ غَيري؛ فإنِّي لا أرى أن تَمدَحَني في البلادِ وتَهجوَني فيما بَيني وبَينَك!
ومِن آدابِ الضَّيفِ أيضًا: أن لا يَسألَ صاحِبَ المَنزِلِ عن شَيءٍ مِن دارِه سِوى القِبلةِ، ومَوضِعِ قَضاءِ الحاجةِ، وأن لا يَتَطَلَّعَ إلى ناحيةِ الحَريمِ، وأن لا يُخالِفَه إذا أجلسَه في مَكانٍ وأكرَمَه به، وأن لا يَمتَنِعَ مِن غَسلِ يَدَيه. وإذا رَأى صاحِبَ المَنزِلِ قد تَحَرَّكَ بحَرَكةٍ فلا يَمنَعْه مِنها.
وفي مَعنى ذلك يَقولُ بَعضُهم:
لا يَنبَغي للضَّيفِ أن يَعتَرِضَ
إن كان ذا حَزمٍ وطَبعٍ لطيف
فالأمرُ للإنسانِ في بَيتِه
إن شاءَ أن يُنصِفَ أو أن يَحيف
ومِمَّا يُعابُ على الضَّيفِ أُمورٌ؛ مِنها: كَثرةُ الأكلِ المُفرِطِ إلَّا أن يَكونَ بَدَويًّا؛ فإنَّها عادَتُه، ومِنها: أن يَتَتَبَّعَ طَريقَ الشَّرِهينَ كَمَن يتَّخِذُ مَعَه خَريطةً مُشَمَّعةً يَقلبُ فيها الزَّباديَّ والأمراقَ والحَلوى وغَيرَ ذلك، ومِنها: أن يَأخُذَ مَعَه ولَدَه الصَّغيرَ ويُعَلِّمَه أن يَبكيَ وقتَ الانصِرافِ مِنَ الطَّعامِ؛ ليُعطى على اسمِ ولَدِه الصَّغيرِ.
ومِنها: قُبحُ المُؤاكَلةِ، وقد عُدَّ فيها عُيوبٌ كَثيرةٌ) [617] ((المستطرف في كل فن مستطرف)) (ص: 194). .
وقال القاسِميُّ في أدَبِ الضَّيفِ: (يَلزَمُه الحُضورُ في الوَقتِ المُعَيَّنِ له، والجُلوسُ مَعَ مَن يَليقُ به، وموافَقةُ المُضيِفِ، والمَشيُ مَعَ رَغبَتِه، وأن لا يَمنَعَه مِن شَيءٍ أرادَ إحضارَه، ولا يَتَطَلَّعَ إلى ناحيةِ الحَريمِ وجِهةِ البابِ؛ رَغبةً في مَجيءِ الطَّعامِ!
ومِمَّا يُعابُ على الضَّيفِ: أخذُ وَلَدِه الصَّغيرِ، وكَثرةُ الأكلِ بالشَّرَهِ، وجَرفُ الطَّعامِ مِن نَواحي الوِعاءِ، وابتِلاعُه بصَوتٍ يُسمَعُ، ونَفضُ الأصابعِ، وإعادةُ بَعضِ ما يَطعَمُه إلى الوِعاءِ، والبَهتُ في وُجوهِ الآكِلينَ، وجَذبِ اللَّحمِ بعُنفٍ، وغَمسُ يَدِه فيه، والتَّطَفُّلُ بتَوزيعِه على الآكِلينَ، ونَقلُ الطَّعامِ مِن وِعاءٍ إلى غَيرِه يَخلطُه مَعَه، إلَّا لصَحفةٍ لدَيه، ومُزاحَمةُ الجالِسينَ، والتَّأمُّرُ على مَن يَصُفُّ الصُّحونَ بالتَّقديمِ والتَّأخيرِ، وعلى المُضيفِ بمُضايَقَتِه في فِكرِه، والتَّكاسُلُ بالنُّهوضِ إلى الطَّعامِ، والتَّشاغُلُ عَمَّن يُنهِضُه إليه، والتَّشَبُّعُ لدى الحُضورِ تَصَنُّعًا، والتَّأفُّفُ مِمَّا يَرغَبُ فيه غَيرُه، وإطالةُ الحَديثِ والماءُ يُصَبُّ على يَدَيه، وسُؤالُ صاحِبِ الدَّارِ عن دارِه وعِمارَتِها، ولومُه على ما يَراه قَصَّر في هَندَسَتِها، وإخبارُ مَن لم يُدعَ مِن صَديقِ المُضيفِ بالدَّعوةِ، واستِعجالُه بإحضارِ الطَّعامِ، وشَكوى الجوعِ، وأن يَطلُبَ مِمَّن يَدعوه أن يَدعوَ صَديقَه، وأن يَدعوَ مَن يُحِبُّ بغَيرِ إذنِ داعيه، أو يَتَطَفَّلَ بغَيرِ دَعوةٍ، وهو أقبَحُ الخِلالِ؛ لِما فيه مِن تَعريضِ النَّفسِ للإهانةِ والخِزيِ والعارِ، وأن يُحَدِّثَ بما كان مِن كَلام؛ ففيه خيانةُ مَن حَضَر، والغَفلةُ عن كَونِ المَجالِسِ بالأمانةِ) [618] ((جَوامِع الآداب)) (ص: 120). .
وقال عبد الفتاح أبو غدة: (وإذا نَزلتَ ضَيفًا على صَديقٍ أو قَريبٍ فكُنْ لطيفَ الظِّلِّ، خَفيفَ الزَّحمةِ والإثقالِ عليه، وراعِ ظُروفَه وأوقاتَ عَمَلِه، وأوجِزْ ما استَطَعتَ مِن وقتِ ضيافتِك عِندَه؛ فإنَّ لكُلِّ إنسانٍ ارتِباطاتٍ وواجِباتٍ ومسؤوليَّاتٍ ظاهِرةً وغَيرَ ظاهِرةٍ، فارفُقْ بمُضيفِك، وكُنْ مُساعِدًا له على القيامِ بشُؤونِ نَفسِه وإنجازِ أعمالِه وأداءِ واجِباتِه.
وعِندَ وُجودِك في بَيتِه لا تُطلِقْ بَصَرَك فيه فاحِصًا مُنَقِّبًا، وخاصَّةً إذا عَرَضَت مُناسَبةٌ فدَعاك إلى غَيرِ الغُرفةِ المُعَدَّةِ للضُّيوفِ، فاقصُرْ بَصَرَك فيها؛ فقد يَكونُ فيها ما لا يحسُنُ أن تَراه، ولا تَكُنْ فُضوليًّا في أسئِلتِك.
وإذا دَخَلتَ مَكانًا فيه نيامٌ -باللَّيلِ أوِ النَّهارِ- فراعِهم، وتَلطَّفْ في حَرَكَتِك وصَوتِك عِندَهم، ولا تَكُنْ ثَقيلًا في ضَجيجِك أو دُخولِك أو خُروجِك، بَل كُنْ رَفيقًا لطيفًا؛ فقد سَمِعتَ قَولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ كُلَّه" [619] أخرجه أبو داود (4809) من حديثِ جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/351)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4809). وأخرجه مسلم (2592) دونَ لفظةِ: ((كُلِّه)). .
وقال المِقدادُ بنُ الأسوَدِ رَضِيَ اللهُ عنه: "كُنَّا نَرفعُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصيبَه مِنَ اللَّبَنِ، فيَجيءُ مِنَ اللَّيلِ فيُسَلِّمُ تَسليمًا لا يوقِظُ النَّائِمَ، ويُسمِعُ اليَقظانَ" [620] أخرجه مسلم (2055) بلفظِ: عنِ المِقدادِ، قال: ((أقبلْتُ أنا وصاحِبانِ لي، وقد ذهبَت أسماعُنا وأبصارُنا مِن الجَهدِ، فجعلْنا نَعرِضُ أنفُسَنا على أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليس أحدٌ منهم يقبَلُنا، فأتَينا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فانطلَق بنا إلى أهلِه، فإذا ثلاثةُ أعنُزٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: احتلِبوا هذا اللَّبنَ بَينَنا، قال: فكنَّا نحتلِبُ، فيشرَبُ كُلُّ إنسانٍ منَّا نَصيبَه، ونرفَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَصيبَه، قال: فيجيءُ مِن اللَّيلِ، فيُسلِّمُ تسليمًا لا يوقِظُ نائِمًا، ويُسمِعُ اليَقظانَ...)). [621] ((من أدب الإسلام)) (ص: 49). .

انظر أيضا: