أولًا: الصَّمتُ وحِفظُ اللِّسانِ إلَّا مِن خَيرٍ وكَلامٍ ظَهَرَت فيه مَصلَحةٌ
يَنبَغي لكُلِّ مُكَلَّفٍ أن يَحفَظَ لسانَه عن جَميعِ الكَلامِ إلَّا كَلامًا ظَهَرَت فيه المَصلحةُ
[741] ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 427). قال النووي: (ومَتى استَوى الكَلامُ وتَركُه في المَصلحةِ فالسُّنَّةُ الإمساكُ عنه؛ لأنَّه قد يَنجَرُّ الكَلامُ المُباحُ إلى حَرامٍ أو مَكروهٍ، وذلك كَثيرٌ في العادةِ، والسَّلامةُ لا يَعدِلُها شَيءٌ). ((المصدر السابق)). .
الدليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16 - 18] .
أي: ما يَتكلَّمُ الإنسانُ بقَولٍ إلَّا وعِندَه مَلَكٌ حافِظٌ يُراقِبُ كَلامَه لِيَكتُبَه، حاضِرٌ لا يُفارِقُه، كما قال اللهُ تبارك وتعالى:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12])
[742] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (34/ 423-426). .
2- قال تعالى:
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114] .
(أي: لا خيرَ في كثيرٍ مِن الكلام الذي يُسِرُّه النَّاسُ بَينَهم؛ إمَّا لأنَّه لا فائدةَ فيه، كفضولِ الكلامِ المباحِ، وإمَّا لكَونِه شرًّا ومَضرَّةً محضةً، كالكلامِ المُحرَّمِ بجميعِ أنواعِه
إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أي: عَدَا الأمرَ بالتَّصدُّقِ، سواءٌ كان بالمالِ أو بالعِلمِ، أو بأيِّ نفعٍ كان.
أَوْ مَعْرُوفٍ أي: وعَدَا الأمرَ بالمعروفِ، وهو كلُّ ما أمَر اللهُ تعالى به، أو ندَب إليه من أعمالِ البِرِّ والخيرِ والإحسانِ والطَّاعةِ، وكلُّ ما عُرِف في الشَّرعِ والعَقلِ حُسنُه.
أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي: وعَدَا الأمرَ بالإصلاحِ بينَ المتنازعَينِ والمتخاصِمَينِ حتَّى تُزالَ العداوةُ والشَّحناءُ بينَهم، ويتمَّ التَّراجعُ إلى ما فيه الأُلفةُ واجتماعُ الكَلِمةِ على ما أذِن اللهُ تعالى وأمَر به.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ أي: ومَن يأمُرْ بصدقةٍ أو معروفٍ أو يُصلِحْ بينَ النَّاسِ؛ طلبًا لرضَا اللهِ تعالى بفِعلِه هذا، مخلِصًا له فيه، ومحتَسِبًا ثوابَه عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أي: فسوف يُعطيه اللهُ تعالى جزاءً لِمَا فَعَل من ذلك، ثوابًا كثيرًا واسعًا، لا يعلَمُ قدرَه سِواه)
[743] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (3/ 553-555). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي شُريحٍ الخُزاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُحسِنْ إلى جارِه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليسكُتْ)) [744] أخرجه البخاري (6019)، ومسلم (48) واللَّفظُ له. .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤذِ جارَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ)) [745] أخرجه البخاري (6018) واللَّفظُ له، ومسلم (47). .
هذا الحَديثُ صَريحٌ في أنَّه يَنبَغي أن لا يتَكَلَّمَ إلَّا إذا كان الكَلامُ خَيرًا، وهو الذي ظَهَرَت مَصلحتُه، ومتى شَكَّ في ظُهورِ المُصلَحةِ فلا يَتَكَلَّمْ
[746] ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 427). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (ما أحَقَّ مَن عَلِم أنَّ عليه حَفَظةً موكَّلين به، يُحصون عليه سَقَطَ كَلامِه وعَثَراتِ لِسانِه، أن يَخزُنَه ويَقِلَّ كلامُه فيما لا يَعنيه! وما أحراه بالسَّعيِ في ألَّا يرتفِعَ عنه ما يطولُ عليه نَدَمُه من قولِ الزُّورِ والخَوضِ في الباطِلِ، وأن يجاهِدَ نفسَه في ذلك، ويستعينَ باللَّهِ ويستعيذَ مِن شَرِّ لِسانِه.
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ» يعني: مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ الإيمانَ التَّامَّ فإنَّه ستَبعَثُه قوَّةُ إيمانِه على مُحاسَبةِ نَفسِه في الدُّنيا والصَّمتِ عَمَّا يَعودُ عليه نَدامةً يَومَ القيامةِ، وكان الحَسَنُ يَقولُ: ابنَ آدَمَ، نَهارُك ضَيفُك فأحسِنْ إليه؛ فإنَّك إن أحسَنتَ إليه ارتَحَل يَحمَدُك، وإن أسَأتَ إليه ارتَحَل يَذُمُّك.
وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ لرَباحِ بنِ عبيدٍ: بَلغَني أنَّ الرَّجُلَ ليُظلَمُ بالمَظلمةِ، فما زال المَظلومُ يَشتُمُ ظالِمَه حتَّى يَستَوفيَ حَقَّه، ويَفضُلَ للظَّالمِ عليه!
ورَوى أسَدٌ عنِ الحَسَنِ البَصريِّ قال: لا يَبلُغُ أحَدٌ حَقيقةَ الإيمانِ حتَّى لا يَعيبَ أحَدًا بعَيبٍ هو فيه، وحتَّى يَبتَدِئَ بصَلاحِ ذلك العَيبِ مِن نَفسِه؛ فإنَّه إن فَعَل ذلك لم يُصلِحْ عَيبًا إلَّا وجَدَ في نَفسِه عَيبًا آخَرَ، فيَنبَغي له أن يُصلِحَه، فإذا كان المَرءُ كذلك كان شُغلُه في خاصَّتِه واجِبًا، وأحَبُّ العِبادِ إلى اللهِ مَن كان كذلك)
[747] ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 185، 186). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: («ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ» هذا مِن جَوامِعِ الكَلمِ؛ لأنَّ القَولَ كُلَّه إمَّا خَيرٌ وإمَّا شَرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحَدِهما، فدَخَل في الخَيرِ كُلُّ مَطلوبٍ مِنَ الأقوالِ فَرضِها ونَدبِها، فأذِنَ فيه على اختِلافِ أنواعِه، ودَخلَ فيه ما يَؤولُ إليه، وما عَدا ذلك مِمَّا هو شَرٌّ أو يَؤولُ إلى الشَّرِّ فأُمِر عِندَ إرادةِ الخَوضِ فيه بالصَّمتِ... واشتَمَل الحَديثُ على أُمورٍ ثَلاثةٍ تَجمَعُ مَكارِمَ الأخلاقِ الفِعليَّةَ والقَوليَّةَ؛ أمَّا الأوَّلانِ فمِنَ الفِعليَّةِ، وأوَّلُهما يَرجِعُ إلى الأمرِ بالتَّخَلِّي عنِ الرَّذيلةِ، والثَّاني يَرجِعُ إلى الأمرِ بالتَّحَلِّي بالفَضيلةِ، وحاصِلُه: مَن كان حامِلَ الإيمانِ فهو مُتَّصِفٌ بالشَّفَقةِ على خَلقِ اللهِ قَولًا بالخَيرِ، وسُكوتًا عنِ الشَّرِّ، وفِعلًا لما يَنفَعُ أو تَركًا لِما يَضُرُّ)
[748] ((فتح الباري)) (10/ 446). .
3- عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((جاءَ أعرابيٌّ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، عَلِّمْني شيئًا يُدخِلُني الجَنَّةَ، فقال: لئِن أقصَرتَ الخُطبةَ لقَد أعرَضتَ المَسألةَ، أعتِقِ النَّسَمَ [749] النَّسَمُ: الرُّوحُ، أي: أعتِقْ ذا نَسَمةٍ، وكُلُّ دابَّةٍ فيها رُوحٌ فهي نَسَمةٌ. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (9/ 355). ، وفُكَّ الرَّقَبةَ، قال: أوَليسا واحِدًا؟ قال: فإنَّ عِتقَ النَّسَمةِ أن تَفَرَّدَ بعِتقِها، وفَكَّ الرَّقَبةِ أن تُعينَ في ثَمَنِها، والمِنحةُ المَوكوفةُ [750] وفي لفظٍ: ((والمِنحةُ الوَكوفُ))، أي: غزيرةُ الدَّرِّ واللَّبَنِ، التي يَكِفُ دَرُّها، أي: يَقطُرُ، ومنه: وَكَف البيتُ والدَّمعُ. والمنِحةُ: هي النَّاقةُ أو الشَّاةُ يمنَحُها صاحِبُها بعضَ المحاويجِ؛ لينتَفِعَ بلَبَنِها ووَبرِها زمانًا ثمَّ يَرُدَّها. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 707)، ((شرح السنة)) للبغوي (9/ 355)، ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (3/ 795). ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالمِ [751] أي: الرُّجوعُ إلى ذي الرَّحِمِ الظَّالمِ عليك بالإحسانِ والشَّفَقةِ والصِّلةِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 707)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 155). ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فأطعِمِ الجائِعَ، واسقِ الظَّمآنَ، وأْمُرْ بالمَعروفِ، وانْهَ عَنِ المُنكَرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فكُفَّ لِسانَك إلَّا مِن خيرٍ)) [752] أخرجه أحمدُ (18647)، وابنُ حبانَ (374)، والحاكمُ (2901) واللفظُ له. صحَّحه ابنُ حبان، وابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (5/174)، والألبانيُّ في ((صحيح الموارد)) (1017)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (132). .
4- عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن يَضمَنْ لي ما بَينَ لَحيَيه وما بَينَ رِجلَيه أضمَنْ له الجَنَّةُ)) [753] أخرجه البخاري (6474). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: («ما بَين لَحيَيه» يُريدُ لسانَه «وما بَينَ رِجلَيه» يُريدُ فَرْجَه. وأكثَرُ بَلاءِ النَّاسِ مِن قِبَلِ فُروجِهم وألسِنَتِهم، فمَن سَلِمَ مِن ضَرَرِ هَذَين فقد سَلِمَ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له كَفيلًا بالجَنَّةِ)
[754] ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 428). .
وقال أيضًا: (قَولُه: «مَن ضَمِن لى ما بَين لَحيَيه» يَعني لسانَه، فلم يَتَكَلَّمْ بما يَكتُبُه عليه صاحِبُ الشِّمالِ «وما بَينَ رِجلَيه» يَعني فَرجَه، فلم يَستَعمِلْه فيما لا يَحِلُّ له، «ضَمِنتُ له الجَنَّةَ».
ودَلَّ بهذا الحَديثِ أنَّ أعظَمَ البَلاءِ على العَبدِ في الدُّنيا اللِّسانُ والفَرجُ، فمَن وُقيَ شَرَّهما فقد وُقِيَ أعظَمَ الشَّرِّ)
[755] ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 186). .
5- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لسانِه ويَدِه، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللَّهُ عنه)) [756] أخرجه البخاري (10) واللَّفظُ له، ومسلم (40). .
6- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ العَبدَ ليَتَكَلَّمُ بالكَلمةِ مِن رِضوانِ اللهِ، لا يُلقي لها بالًا، يَرفعُه اللهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبدَ ليَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلقي لها بالًا، يَهوي بها في جَهَنَّمَ)) [757] أخرجه البخاريُّ (6478) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2988) بنحوِه .
(قال أهلُ العِلمِ: هيَ الكَلمةُ عِندَ السُّلطانِ بالبَغيِ والسَّعيِ على المُسلمِ، فرُبَّما كانت سَبَبًا لهَلاكِه، وإن لم يُرِدْ ذلك الباغي، لكِنَّها آلت إلى هَلاكِه، فكُتِب عليه إثمُ ذلك، والكَلِمةُ التي يَكتُبُ اللهُ له بها رِضوانَه الكَلِمةُ يُريدُ بها وَجهَ اللهِ بَينَ أهلِ الباطِلِ، أوِ الكَلِمةُ يَدفعُ بها مَظلَمةً عن أخيه المُسلِمِ، ويُفَرِّجُ عنه بها كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى يُفرِّجُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ الآخِرةِ، ويَرفعُه بها دَرَجاتٍ يَومَ القيامةِ)
[758] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 186، 187). ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/ 554، 555)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (13/ 51). .
7- عن عَلقَمةَ عن بلالِ بنِ الحارِثِ المُزَنيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ الرَّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ما يَظُنُّ أن تَبلُغَ ما بَلغَت، يَكتُبُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ له بها رِضوانَه إلى يَومِ القيامةِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ من سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ما يَظُنُّ أن تَبلُغَ ما بَلغَت، يَكتُبُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بها عليه سَخَطَه إلى يَومِ القيامةِ)) قال: فكان عَلقَمةُ يَقولُ: (كَم مِن كَلامٍ قد مَنَعَنيه حَديثُ بلالِ بنِ الحارِثِ)
[759] أخرجه الترمذيُّ (2319)، وأحمدُ (15852) واللَّفظُ له. صَحَّحه ابنُ حبانَ في ((صحيحه)) (280)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (137)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2319)، وقال الترمذيُّ، وابنُ حجرٍ في ((الأمالي المطلقة)) (210): حسنٌ صحيحٌ. .
8- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن صَمَت نَجا)) [760] أخرجه الترمذيُّ (2501)، وأحمدُ (6481). حسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6481)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريجِ ((مسند أحمد)) (10/140). وذهب إلى تصحيحِه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2501). .
9- عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه،
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ ذاتَ يَومٍ على راحِلتِه وأصحابُه مَعَه بَينَ يَدَيه، فقال مُعاذُ بنُ جَبَلٍ: يا نَبيَّ اللهِ، أتَأذَنُ لي في أن أتَقدَّمَ إليك على طِيبةِ نَفسٍ؟ قال: نَعَم. فاقتَرَبَ مُعاذٌ إليه فسارا جَميعًا، فقال مُعاذٌ: بأبي أنتَ يا رَسولُ اللهِ، أسألُ اللهَ أن يَجعَلَ يَومَنا قَبلَ يَومِك، أرَأيتَ إن كان شَيءٌ -ولا نَرى شَيئًا إن شاءَ اللهُ تعالى- فأيُّ الأعمالِ نَعمَلُها بَعدَك؟ فصَمَتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نِعمَ الشَّيءُ الجِهادُ! والذي بالنَّاسِ أملَكُ مِن ذلك. فالصِّيامُ والصَّدَقةُ؟ قال: نِعمَ الشَّيءُ الصِّيامُ والصَّدَقةُ، فذَكَرَ مُعاذٌ كُلَّ خَيرٍ يَعمَلُه ابنُ آدَمَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وعادَ بالنَّاسِ خَيرٌ مِن ذلك، قال: فماذا بأبي أنتَ وأُمِّي عادَ بالنَّاسِ خَيرٌ مِن ذلك؟ قال: فأشارَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى فيه، قال: الصَّمتُ إلَّا مِن خَيرٍ، قال: وهَل نُؤاخَذُ بما تَكَلَّمَت به ألسِنَتُنا؟ قال: فضَرَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَخِذَ مُعاذٍ، ثُمَّ قال: يا مُعاذُ، ثَكِلَتك أُمُّك -أو ما شاءَ اللهُ أن يَقولَ له مِن ذلك- وهَل يَكُبُّ النَّاسَ على مناخِرِهم في جَهَنَّمَ إلَّا ما نَطَقَت به ألسِنَتُهم؟! فمَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا، أو ليَسكُتْ عن شَرٍّ، قولوا خَيرًا تَغنَموا، واسكُتوا عن شَرٍّ تَسلَموا)) [761] أخرجه الطبراني ُّكما في ((مجمع الزوائد)) للهيثميِّ (10/302)، والحاكمُ (7983) واللفظُ له، والضياءُ في ((الأحاديث المختارة)) (405). صحَّحه الحاكمُ وقال: على شرطِ الشَّيخينِ، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/772)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (538). .
ج- مِنَ الآثارِ1- عن زَيدِ بنِ أسلَمَ، عن أبيه، (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ دَخل على أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ وهو يَجبِذُ
[762] جَبَذ: مقلوبُ جَذَبَ، وقيل: هما لغتانِ، أي: يجذِبُ لِسانَه ويمُدُّه ويجُرُّه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 729)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). لسانَه، فقال له عُمَرُ: مَه
[763] مَهْ: بفَتحِ ميمٍ وسُكونِ هاءٍ: اسمُ فِعلٍ، بمعنى: اكفُفْ وامتَنِعْ عن ذلك. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). ! غَفرَ اللهُ لك، فقال أبو بَكرٍ: إنَّ هذا أورَدَني المَوارِدَ)
[764] أخرجه مالكٌ (2/ 988) واللفظُ له، وأبو نُعيمٍ في ((حلية الأولياء)) (1/ 33)، والبيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) (4990). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2873). .
2- عن مَيمونِ بنِ مِهرانَ، قال: (جاءَ رَجُلٌ إلى سَلمانَ رَضيَ اللهُ عنه، فقال: يا أبا عَبدِ اللهِ، أوصِني. قال: لا تَكلَّمْ، قال: ما يستَطيعُ مَن عاشَ في النَّاسِ ألَّا يتَكلَّمَ! قال: فإن تَكلَّمتَ فتَكلَّمْ بحَقٍّ أو اسكُتْ، قال: زِدْني. قال: لا تَغضَبْ، قال: أمَرتَني ألَّا أغضَبَ، وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ! قال: فإن غَضِبتَ فاملِكْ لسانَك ويَدَك، قال: زِدني، قال: لا تُلابِسِ النَّاسَ، قال: ما يَستَطيعُ مَن عاشَ في النَّاسِ أن لا يُلابِسَهم! قال: فإن لابَسْتَهم فاصدُقِ الحَديثَ وأدِّ الأمانةَ)
[765] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (610)، ومِن طريقِه ابنُ عساكرَ في ((تاريخ دمشق)) (21/ 442، 443). .
3- عن زَيدِ بنِ أسلَمَ: (أنَّه دخل على أبي دُجانةَ وهو مريضٌ، وكان وجهُه يتهَلَّلُ، فقال له: ما لك يتهَلَّلُ وجهُك؟ قال: ما من عَمَلِ شَيءٍ أوثَقُ عندي من اثنينِ: أمَّا أحَدُهما فكنتُ لا أتكَلَّمُ بما لا يَعنيني، وأمَّا الأُخرى فكان قلبي للمُسلِمين سليمًا)
[766] أخرجه ابنُ وهبٍ في ((الجامع)) (319) واللفظُ له، وابنُ سعدٍ في ((الطبقات الكبرى)) (4577)، وابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (113). .
4- عن مُطَرِّفِ بنِ الشِّخِّيرِ، قال: (قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما للِسانِه: وَيْحَك! قُلْ خيرًا تغنَمْ، وإلَّا فاعلَمْ أنَّك ستندَمُ، قال: فقيل له: أتَقولُ هذا؟ قال: بَلغَني أنَّ الإنسانَ ليسَ هو يَومَ القيامةِ أشَدَّ مِنه على لسانِه إلَّا أن يَكونَ قال خَيرًا فغَنِمَ، أو سَكَتَ فسَلِمَ)
[767] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (439). .
5- عن حُمَيدِ بنِ هِلالٍ، قال: قال عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو: (دَعْ ما لستَ مِنه في شَيءٍ، ولا تَنطِقْ فيما لا يَعنيك، واخزُنْ
[768] اخزُنْ لِسانَك: أي: صُنْه واحفَظْه عن النُّطقِ إلَّا من خيرٍ، ولا تُجْرِه إلَّا فيما لك لا عليك، وأمسِكْه عمَّا لا يعنيك. يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 353) و(4/ 332)، ((التيسير)) للمناوي (2/ 138). لسانِك كما تَخزُنُ وَرَقك)
[769] أخرجه ابن أبي شيبة (35858)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 288)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5007). .
فوائِدُ:1- عن مُحَمَّدِ بنِ سُوقةَ، قال: (أُحَدِّثُكم بحديثٍ لعَلَّه ينفَعُكم؛ فإنَّه قد نفعني، قال لنا عطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: "يا بَني أخي، إنَّ مَن كان قَبْلَكم كانوا يَكرَهون فُضولَ الكلامِ، وكانوا يَعُدُّون فُضولَ الكلامِ ما عدا كِتابَ اللهِ أن تقرَأَه، أو تأمُرَ بمعروفٍ أو تنهى عن مُنكَرٍ، أو تنطِقَ بحاجتِك في معيشتِك التي لا بُدَّ لك منها، أتُنكِرون
إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 11]،
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق: 17] ،
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] ؟! أما يَستَحي أحَدُكُم أنْ لو نُشِرَت عليه صَحيفتُه التي أملى صَدرَ نَهارِه كان أكثَرُ ما فيها ليسَ مِن أمرِ دينِه ولا دُنياه؟!)
[770] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (78). .
2- قال الحارثُ المحاسِبيُّ: (خَفْ يا أخي من لسانِك أشَدَّ من خوفِك من السَّبُعِ الضَّاري القريبِ المتمَكِّنِ من أخْذِك؛ فإنَّ قتيلَ السَّبُعِ من أهلِ الإيمانِ ثوابُه الجنَّةُ، وقتيلُ اللِّسانِ عُقوبتُه النَّارُ إلَّا أن يعفوَ اللَّهُ.
فإيَّاك يا أخي والغَفلةَ عن اللِّسانِ؛ فإنَّه سَبُعٌ ضارٍ
[771] أي: المعتادُ بالصَّيدِ، يقال: ضَرِيَ الكَلبُ بالصَّيدِ ضَراوةً، أي: تعَوَّد، فهو ضارٍ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2408)، ((مشارق الأنوار)) للعياض (2/ 58). ، وأوَّلُ فريستهِ صاحِبُه؛ فأغلِقْ بابَ الكلامِ من نفسِك بغَلَقٍ
[772] الغَلَقُ بالتحريكِ: المِغلاقُ، وهو ما يُغلَقُ به البابُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1538). وثيقٍ، ثمَّ لا تفتَحْه إلَّا فيما لا بُدَّ لك منه، فإذا فتَحْتَه فاحذَرْ وخُذْ من الكلامِ حاجَتَك الَّتي لا بُدَّ لك منها، وأغلِقِ البابَ، وإيَّاك والغفلةَ عن ذلك، والتَّماديَ في الحديثِ، وأن يستَمِدَّ بك الكلامُ فتُهلِكَ نفْسَك)
[773] ((آداب النفوس)) (ص: 43). .
3- قال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (يُستَحَبُّ ضَبطُ الألسِنةِ وحِفظُها، والإقلالُ مِنَ الكَلامِ إلَّا فيما يَعني، ولا بُدَّ مِنه.
وأفضَلُ مِنَ الصَّمتِ إجراءُ الألسِنةِ بما فيه النَّفعُ لغَيرِه، والانتِفاعُ لنَفسِه مِثلُ قِراءةِ القُرآنِ، وتَدريسِ العِلمِ، وذِكرِ اللهِ تعالى، والأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، والإصلاحِ بَينَ النَّاسِ)
[774] ((فصول الآداب)) (ص: 54). .
4- قال ابنُ القَيِّمِ: (أيسَرُ حَرَكاتِ الجَوارِحِ حَرَكةُ اللِّسانِ، وهيَ أضَرُّها على العَبدِ.
واختَلف السَّلفُ والخَلفُ: هَل يُكتَبُ جَميعُ ما يُلفَظُ به أوِ الخَيرُ والشَّرُّ فقَط؟ على قَولينِ أظهَرُهما الأوَّلُ.
وقال بَعضُ السَّلفِ: كُلُّ كَلامِ ابنِ آدَمَ عليه لا له، إلَّا ما كان مِنَ اللهِ وما والاه، وكان الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه يُمسِكُ على لسانِه ويَقولُ: هذا أورَدَني المَوارِدَ! والكَلامُ أسيرُك، فإذا خَرَجَ مِن فيك صِرتَ أنتَ أسيرَه، واللَّهُ عِندَ لسانِ كُلِّ قائِلٍ:
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] .
وفي اللِّسانِ آفتانِ عظيمتانِ إن خلَص العبدُ من إحداهما لم يخلُصْ من الأخرى: آفةُ الكلامِ، وآفةُ السُّكوتِ، وقد يكونُ كُلٌّ منهما أعظَمَ إثمًا من الأُخرى في وقتِها؛ فالسَّاكِتُ عن الحَقِّ شيطانٌ أخرَسُ، عاصٍ للهِ، مُراءٍ مُداهِنٌ، إذا لم يَخَفْ على نفسِه. والمتكَلِّمُ بالباطِلِ شَيطانٌ ناطِقٌ، عاصٍ للهِ، وأكثَرُ الخلقِ منحَرِفٌ في كلامِه وسكوتِه؛ فهم بَينَ هذينِ النَّوعينِ، وأهلُ الوَسَطِ -وهم أهلُ الصِّراطِ المستقيمِ- كَفُّوا ألسنتَهم عن الباطِلِ، وأطلَقوها فيما يعودُ عليهم نفعُه في الآخِرةِ، فلا ترى أحَدَهم يتكَلَّمُ بكَلِمةٍ تذهَبُ عليه ضائعةً بلا منفعةٍ، فَضلًا أن تَضُرَّه في آخِرتِه، وإنَّ العبدَ ليأتي يومَ القيامةِ بحَسَناتٍ أمثالِ الجِبالِ، فيَجِدُ لِسانَه قد هدَمَها عليه كُلَّها، ويأتي بسَيِّئاتٍ أمثالِ الجِبالِ فيَجِدُ لِسانَه قد هَدَمها من كثرةِ ذِكرِ اللَّهِ وما اتَّصَل به)
[775] ((الجواب الكافي)) (ص: 161). .