موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: اختِصارُ الكَلامِ والبُعدُ عنِ الثَّرثَرةِ وفُضولِ القَولِ


يَنبَغي أن يَقتَصِرَ المَرءُ على ما يوصِلُ المَقصودَ، ويَجتَنِبُ الثَّرثَرةَ واللَّغوَ وفُضولَ القَولِ، (فالمَرضيُّ مِنَ الكَلامِ أن يَكونَ قَدرَ الحاجةِ غَيرَ زائِدٍ عليها، يوافِقُ ظاهِرُه باطِنَه) [800] ((شرح المصابيح)) لابن الملك (5/ 230). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عُروةَ، عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُحَدِّثُ حَديثًا لو عَدَّه العادُّ لأحصاه)) [801] أخرجه البخاري (3567) واللَّفظُ له، ومسلم (2493). .
يَعني: ما كانت أحاديثُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَتابِعةً بَعضُها في أثَرِ بَعضٍ، كَما هو عادةُ النَّاسِ في التَّحديثِ والإخبارِ، بَل كان يَفصِلُ بَينَ الكَلامَينِ في الإخبارِ حتَّى لا يَشتَبِهَ على المُستَمِعِ بَعضُ كَلامِه ببَعضٍ، يَعني: كان يَتَكَلَّمُ بكَلامٍ مَفهومٍ واضِحٍ في غايةِ الإيضاحِ والبَيانِ [802] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/ 145). .
وفي رِوايةٍ عن عُروةَ، عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((ألا يُعَجِّبُك أبو فُلانٍ؟! جاءَ فجَلسَ إلى جانِبِ حُجرتي يُحَدِّثُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُسمِعُني ذلك، وكُنت أُسَبِّحُ [803] أُسَبِّحُ أي: أُصَلِّي نافِلةً، وقيل: هو على ظاهرِه، أي: أذكُرُ اللَّهَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 578). ، فقامَ قَبل أن أقضيَ سُبحَتي، ولو أدرَكتُه لرَدَدتُ عليه [804] أي: لأنكَرتُ عليه وبَيَّنتُ له أنَّ التَّرتيلَ في التَّحديثِ أَولى مِنَ السَّردِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 578). ؛ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ يَسرُدُ الحَديثَ [805] يعني: يُكَثِّرُه ويُتابِعُه. ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 533). وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُها: «لم يَكُنْ يَسرُدُ الحَديثَ كَسَردِكُم» أي: يُتابعُ الحَديثَ استِعجالًا بَعضَه إثرَ بَعضٍ لئَلَّا يَلتَبسَ على المُستَمِعِ). يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 578). كسَردِكُم)) [806] أخرجها البخاريُّ مُعَلَّقةً بصيغةِ الجَزم (3568) واللَّفظُ له، وأخرجها مَوصولةً مسلمٌ (2493). .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: ("يُعَجِّبُك" هو بضَمِّ الياءِ وفتحِ العَينِ وكَسرِ الجيمِ مُشَدَّدةً، ومَعناه: ألَا يَحمِلُك على التَّعَجُّبِ النَّظَرُ في أمرِه؟ قالت هذا مُنكِرةً عليه إكثارَه مِنَ الأحاديثِ في المَجلسِ الواحِدِ؛ ولذلك قالت في غَيرِ هذه الرِّوايةِ: إنَّما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحَدِّثُ حَديثًا لو عَدَّه العادُّ لأحصاه، تَعني أنَّه كان يُحَدِّثُ حَديثًا قَليلًا، ويُحتَمَلُ أن تُريدَ بذلك أنَّه كان يُحَدِّثُ حَديثًا واضِحًا مُبَيَّنًا بحَيثُ لو عُدَّت كَلِماتُه أُحصِيَت لقِلَّتِها وبَيانِها، ويَدُلُّ على صِحَّةِ هذا التَّأويلِ قَولُها: ما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسرُدُ الحَديثَ سَردَكُم هذا) [807] ((المفهم)) (6/ 436). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ يَرضى لكُم ثَلاثًا، ويَكرَهُ لكُم ثَلاثًا؛ فيَرضى لكُم: أن تَعبُدوه ولا تُشرِكوا به شَيئًا، وأن تَعتَصِموا بحَبلِ اللهِ جَميعًا ولا تَفَرَّقوا، ويَكرَهُ لكُم: قيلَ وقال، وكَثرةَ السُّؤالِ، وإضاعةَ المالِ)) [808] أخرجه مسلم (1715). .
4- عنِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ حَرَّمَ عليكُم: عُقوقَ الأُمَّهاتِ، ووأدَ البَناتِ، ومَنعًا وهاتِ، وكَرِهَ لكُم ثَلاثًا: قيلَ وقال، وكَثرةَ السُّؤالِ، وإضاعةَ المالِ)) [809] أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (593) واللَّفظُ له. .
قَوله: ((قيل وقال)) المُرادُ النَّهيُ عنِ الإكثارِ مِمَّا لا فائِدةَ فيه [810] ((عمدة القاري)) للعيني (23/ 69). .
فوائِدُ ومَسائِلُ:
1- لمَّا حَضَرَت عَمرَو بنَ كُلثومٍ الوَفاةُ -وقد أتَت عليه خَمسونَ ومِائةُ سَنةٍ- جَمع بَنيه، فقال: (يا بَنيَّ، قد بلغْتُ مِن العُمرِ ما لم يبلُغْه أحدٌ مِن آبائي، ولا بُدَّ أن ينزِلَ بي ما نزَل بهم مِن الموتِ، وإنِّي واللهِ ما عيَّرْتُ أحدًا بشيءٍ إلَّا عُيِّرتُ بمِثلِه؛ إن كان حقًّا فحقًّا، وإن كان باطِلًا فباطِلًا. ومَن سبَّ سُبَّ؛ فكُفُّوا عن الشَّتمِ؛ فإنَّه أسلَمُ لكم، وأحسِنوا جِوارَكم يَحسُنْ ثَناؤُكم، وامنَعوا مِن ضَيمِ الغَريبِ؛ فرُبَّ رَجُلٍ خَيرٌ مِن ألفٍ، ورَدٍّ خَيرٌ مِن خُلفٍ. وإذا حُدِّثْتُم فَعُوا، وإذا حَدَّثتُم فأوجِزوا؛ فإنَّ مَعَ الإكثارِ تَكونُ الأهذارُ [811] هَذَر في مَنطِقِه هَذرًا: خَلطَ وتَكَلَّمَ بما لا يَنبَغي، والهَذَرُ بفتحَتَينِ: اسمٌ مِنه، ورَجُلٌ مِهذارٌ. ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 636). [812] ((الأغاني)) للأصفهاني (11/ 40). .
2- (تَكَلَّمَ رَجُلٌ عِندَ مُعاويةَ فهَذَر، فلمَّا أطال قال: أأسكُتُ يا أميرَ المُؤمِنينَ؟ قال: وهل تَكَلَّمتَ؟!) [813] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 190). .
3- (قيل: مَن أطال الحَديثَ فقد عَرَّضَ أصحابَه للسَّآمةِ وسوءِ الاستِماعِ. وقيل: الكَلامُ إذا طال اختَلَّ، وإذا اختَلَّ اعتَلَّ. وقال مَنصورٌ الفقيهُ:
ولا تُكثِرَنَّ فخَيرُ الكَلامِ القَليلُ الحُروفِ الكَثيرُ المَعاني. وقيل: خَيرُ الكَلامِ ما قَلَّ ودَلَّ، ولم يَطُلْ فيُمَلُّ) [814] يُنظر: ((محاضرات الأدباء)) للراغب (1/ 81). . وقالوا: العِثارُ [815] العَثرةُ الزَّلَّةُ. وقد عَثَرَ في ثَوبِه يَعثُرُ عِثارًا. يُقالُ: عَثَرَ به فرَسُه فسَقَطَ. وعَثَرَ: كَبَا. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 200)، ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 539). مع الإكثارِ [816] يُنظر: ((غرر الخصائص الواضحة)) للوطواط (ص: 230). .
4- قال أبو العتاهيةِ:
واعمِدْ إلى صِدقِ الحديـ
ــثِ فإنَّه أزكى فُنونِه
والصَّمتُ أجمَلُ بالفتى
من منطِقٍ في غيرِ حينِه
لا خيرَ في حَشوِ الكلا
مِ إذا اهتدَيْتَ إلى عُيونِه [817] ((ديوان أبي العتاهية)) (ص: 449).
5- قال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (الكلامُ أربعةُ أقسامٍ: قِسمٌ هو ضَرَرٌ مَحضٌ، وقسمٌ هو نفعٌ محضٌ، وقسمٌ فيه ضَرَرٌ ومنفعةٌ، وقسمٌ ليس فيه ضرَرٌ ولا منفعةٌ.
أمَّا الذي هو ضرَرٌ محضٌ: فلا بدَّ من السُّكوتِ عنه، وكذلك ما فيه ضرَرٌ ومنفعةٌ لا تفي بالضَّرَرِ.
وأمَّا ما لا منفعةَ فيه ولا ضَرَرَ: فهو فُضولٌ، والاشتغالُ به تضييعُ زمانٍ، وهو عينُ الخُسرانِ، فلا يبقى إلَّا القِسمُ الرَّابعُ، فقد سقط ثلاثةُ أرباعِ الكلامِ وبقِيَ رُبعٌ، وهذا الرُّبعُ فيه خَطَرٌ؛ إذ يمتزجُ بما فيه إثمٌ من دقائِقِ الرِّياءِ والتَّصنُّعِ والغِيبةِ وتزكيةِ النَّفسِ وفُضولِ الكلامِ امتزاجًا يخفى دَركُه، فيكونُ الإنسانُ به مخاطِرًا، ومَن عَرَف دقائِقَ آفاتِ اللِّسانِ ... عَلِم قطعًا أنَّ ما ذكَره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو فَصلُ الخِطابِ؛ حيثُ قال: ((مَن صَمَت نجا)) [818] أخرجه الترمذي (2501)، وأحمد (6481) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما. حسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6481)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/140). وذهب إلى تصحيحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2501). . فلقد أوتيَ -واللهِ- جواهِرَ الحِكَمِ قَطعًا، وجوامِعَ الكَلِمِ، ولا يَعرِفُ ما تحتَ آحادِ كَلِماتِه من بحارِ المعاني إلَّا خواصُّ العُلَماءِ.
واعلَمْ أنَّ أحسَنَ أحوالِك أن تحفظَ ألفاظَك من جميعِ الآفاتِ التي ذكَرْناها من الغِيبةِ والنَّميمةِ والكَذِبِ والمِراءِ والجِدالِ وغيرِها، وتتكَلَّمَ فيما هو مباحٌ لا ضَرَرَ عليك فيه، ولا على مُسلِمٍ أصلًا، إلَّا أنَّك تتكلَّمُ بما أنت مستغنٍ عنه ولا حاجةَ بك إليه؛ فإنَّك مُضَيِّعٌ به زمانَك ومحاسَبٌ على عَمَلِ لِسانِك، وتستبدِلُ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ؛ لأنَّك لو صَرَفتَ زَمانَ الكَلامِ إلى الفِكرِ رُبَّما كان يَنفتِحُ لك مِن نَفَحاتِ رَحمةِ اللهِ عِندَ الفِكرِ ما يَعظُمُ جَدواه، ولو هَلَّلتَ اللَّهَ سُبحانَه وذَكَرتَه وسَبَّحتَه لكان خَيرًا لك، فكَم مِن كَلمةٍ يُبنى بها قَصرٌ في الجَنَّةِ! ومَن قدَرَ على أن يَأخُذَ كَنزًا مِنَ الكُنوزِ فأخَذَ مَكانَه مَدَرةً لا يَنتَفِعُ بها كان خاسِرًا خُسرانًا مُبينًا! وهذا مِثالُ مَن تَرَكَ ذِكرَ اللهِ تعالى واشتَغَل بمُباحٍ لا يَعنَيه؛ فإنَّه وإن لم يَأثَمْ فقد خَسِرَ حَيثُ فاتَه الرِّبحُ العَظيمُ بذِكرِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ المُؤمِنَ لا يَكونُ صَمتُه إلَّا فِكرًا، ونَظَرُه إلَّا عِبرةً، ونُطقُه إلَّا ذِكرًا.
بَل رَأسُ مالِ العَبدِ أوقاتُه، ومَهما صَرَفها إلى ما لا يَعنيه ولم يَدَّخِرْ بها ثَوابًا في الآخِرةِ، فقد ضَيَّعَ رَأسَ مالِه...
وقيل للُقمانَ الحَكيمِ: ما حِكمتُك؟ قال: لا أسألُ عَمَّا كُفِيتُ، ولا أتَكَلَّفُ ما لا يَعنيني.
قال مُوَرِّقٌ العِجليُّ: أمْرٌ أنا في طلَبِه منذُ عَشرِ سِنينَ لم أقدِرْ عليه، ولستُ بتاركٍ طَلَبَه أبدًا، قالوا: وما هو يا أبا المعتَمِرِ؟ قال: الصَّمتُ عمَّا لا يعنيني.
وقال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: لا تَتَعَرَّضْ لِما لا يَعنيك، واعتَزِلْ عَدُوَّك، واحذَرْ صَديقَك مِنَ القَومِ إلَّا الأمينَ، ولا أمينَ إلَّا مَن خَشيَ اللَّهَ تعالى، ولا تَصحَبِ الفاجِرَ فتَتَعَلَّمَ مِن فُجورِه، ولا تُطلِعْه على سِرِّك واستَشِرْ في أمرِك الذينَ يَخشَونَ اللَّهَ تعالى.
وحَدُّ الكَلامِ فيما لا يَعنيك: أن تَتَكَلَّمَ بكَلامٍ ولو سَكَتَّ عنه لم تَأثَمْ ولم تَستَضِرَّ به في حالٍ ولا مالٍ. مِثالُه: أن تَجلِسَ مَعَ قَومٍ فتَذكُرَ لهم أسفارَك وما رَأيتَ فيها مِن جِبالٍ وأنهارٍ، وما وقَعَ لك مِنَ الوقائِعِ وما استَحسَنتَه مِنَ الأطعِمةِ والثِّيابِ، وما تَعَجَّبتَ مِنه مِن مَشايِخِ البلادِ ووقائِعِهم، فهذه أُمورٌ لو سَكَتَّ عنها لم تَأثَمْ ولم تَستَضِرَّ، وإذا بالغتَ في الجِهادِ حتَّى لم يَمتَزِجْ بحِكايَتِك زيادةٌ ولا نُقصانٌ ولا تَزكيةُ نَفسٍ مِن حَيثُ التَّفاخُرُ بمُشاهَدةِ الأحوالِ العَظيمةِ، ولا اغتيابٌ لشَخصٍ ولا مَذَمَّةٌ لشَيءٍ مِمَّا خَلقَه اللهُ تعالى، فأنتَ مَعَ ذلك كُلِّه مُضَيِّعٌ زَمانَك، وأنَّى تَسلَمُ مِنَ الآفاتِ التي ذَكَرناها؟! ومِن جُملتِها أن تَسألَ غَيرَك عَمَّا لا يَعنيك.
وإنَّما مِثالُ ما لا يَعني: ما رُويَ أنَّ لُقمانَ الحَكيمَ دَخَل على داودَ عليه السَّلامُ وهو يَسرُدُ دِرعًا، ولم يَكُنْ رَآها قَبلَ ذلك اليَومِ، فجَعَل يَتَعَجَّبُ مِمَّا رَأى، فأرادَ أن يَسألَه عن ذلك فمَنَعَته حِكمَتُه، فأمسَكَ نَفسَه ولم يَسأَلْه، فلمَّا فرَغَ قامَ داودُ ولَبِسَه، ثُمَّ قال: نِعمَ الدِّرعُ للحَربِ! فقال لُقمانُ: الصَّمتُ حُكمٌ، وقَليلٌ فاعِلُه، أي: حَصَل العِلمُ به مِن غَيرِ سُؤالٍ، فاستَغنى عنِ السُّؤالِ، وقيل: إنَّه كان يَتَرَدَّدُ إليه سَنةً وهو يُريدُ أن يَعلَمَ ذلك مِن غَيرِ سُؤالٍ، فهذا وأمثالُه مِنَ الأسئِلةِ إذا لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ وهَتكُ سِترٍ وتَوريطٌ في رياءٍ وكَذِبٍ، هو مِمَّا لا يَعني، وتَركُه مِن حُسنِ الإسلامِ. فهذا حَدُّه.
وأمَّا سَبَبُه الباعِثُ عليه فالحِرصُ على مَعرِفةِ ما لا حاجةَ به إليه، أوِ المُباسَطةُ بالكَلامِ على سَبيلِ التَّودُّدِ، أو تَزجيةُ الأوقاتِ بحِكاياتِ أحوالٍ لا فائِدةَ فيها.
وعِلاجُ ذلك كُلِّه أن يَعلمَ أنَّ المَوتَ بَينَ يَدَيه، وأنَّه مسؤولٌ عن كُلِّ كَلمةٍ، وأنَّ أنفاسَه رَأسُ مالِه، وأنَّ لسانَه شَبَكةٌ يَقدِرُ أن يَقتَنِصَ بها الحُورَ العينَ، فإهمالُه ذلك وتَضييعُه خُسرانٌ مُبينٌ...
وفُضولُ الكَلامِ أيضًا مَذمومٌ، وهذا يَتَناولُ الخَوضَ فيما لا يَعني، والزِّيادةَ فيما يَعني على قدرِ الحاجةِ؛ فإنَّ مَن يَعنيه أمرٌ يُمكِنُه أن يَذكُرَه بكَلامٍ مُختَصَرٍ، ويُمكِنُه أن يُجنحَه [819] أي: يُطَوِّلَه فيَجعَلُ له جَناحًا. ((إتحاف السادة المتقين)) للزبيدي (7/ 464). ويُكَرِّرَه، ومَهما تَأدَّى مَقصودُه بكَلمةٍ واحِدةٍ فذَكَر كَلمَتَينِ، فالثَّانيةُ فُضولٌ، أي: فضلٌ عنِ الحاجةِ، وهو أيضًا مَذمومٌ لِما سَبَقَ، وإن لم يَكُنْ فيه إثمٌ ولا ضَرَرٌ.
قال عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: إنَّ مَن كان قَبلَكُم كانوا يَكرَهونَ فُضولَ الكَلامِ، وكانوا يَعُدُّونَ فُضولَ الكَلامِ ما عَدا كِتابَ اللهِ تعالى وسُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أمرًا بمَعروفٍ أو نَهيًا عن مُنكَرٍ، أو أن تَنطِقَ بحاجَتِك في مَعيشَتِك التي لا بُدَّ لك مِنها، أتُنكِرون وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 10-11]، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17-18] ؟ أما يَستَحي أحَدُكُم إذا نُشِرَت صَحيفتُه التي أملاها صَدرَ نَهارِه كان أكثَرُ ما فيها ليسَ مِن أمرِ دينِه ولا دُنياه!
وعن بَعضِ الصَّحابةِ قال: إنَّ الرَّجُلَ ليُكَلِّمُني بالكَلامِ لَجَوابُه أشهى إليَّ مِنَ الماءِ البارِدِ إلى الظَّمآنِ، فأترُكُ جَوابَه خيفةَ أن يَكونَ فُضولًا.
وقال مُطَرِّفٌ: ليَعظُمْ جَلالُ اللهِ في قُلوبكُم، فلا تَذكُروه عِندَ مِثلِ قَولِ أحَدِكُم للكَلبِ والحِمارِ: اللهُمَّ أَخْزِه، وما أشبَهَ ذلك.
واعلَمْ أنَّ فُضولَ الكَلامِ لا يَنحَصِرُ، بَل المُهمُّ مَحصورٌ في كِتابِ اللهِ تعالى؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114] ، وقال ابنُ مَسعودٍ: أُنذِرُكُم فُضولَ كَلامِكُم، حَسْبُ امرِئٍ مِنَ الكَلامِ ما بَلَغَ به حاجَتَه.
وقال الحَسَنُ: يا ابنَ آدَمَ، بُسِطَت لك صَحيفةٌ، ووكِّلَ بها مَلَكانِ كَريمانِ يَكتُبانِ أعمالَك؛ فاعمَلْ ما شِئتَ، وأكثِرْ أو أقِلَّ.
وقال إبراهيمُ التَّيميُّ: إذا أرادَ المُؤمِنُ أن يَتَكَلَّمَ نَظَر؛ فإن كان له تكَلَّم وإلَّا أمسَكَ، والفاجِرُ إنَّما لسانُه رَسْلًا رَسْلًا!
وقال الحَسَنُ: مَن كَثُرَ كَلامُه كَثُرَ كَذِبُه، ومَن كَثُرَ مالُه كَثُرَت ذُنوبُه، ومَن ساءَ خُلُقُه عَذَّب نَفسَه.
وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ رَحِمَه اللهُ: إنَّه ليَمنَعُني مِن كَثيرٍ مِنَ الكَلامِ خَوفُ المُباهاةِ.
وقال بَعضُ الحُكَماءِ: إذا كان الرَّجُلُ في مَجلسٍ فأعجَبَه الحَديثُ فليَسكُتْ، وإن كان ساكِتًا فأعجَبه السُّكوتُ فليَتَكَلَّمْ.
وقال يَزيدُ بنُ أبي حَبيبٍ: مِن فِتنةِ العالمِ أن يَكونَ الكَلامُ أحَبَّ إليه مِنَ الاستِماعِ، فإن وَجَدَ مَن يَكفيه فإنَّ في الاستِماعِ سَلامةً، وفي الكَلامِ تَزيينٌ وزيادةٌ ونُقصانٌ.
وقال ابنُ عُمَرَ: إنَّ أحَقَّ ما طَهَّرَ الرَّجُلُ لِسانُه.
ورَأى أبو الدَّرداءِ امرَأةً سَليطةً فقال: لو كانت هذه خَرساءَ كان خَيرًا لها.
وقال إبراهيمُ: يُهلِكُ النَّاسَ خَلَّتانِ: فُضولُ المالِ، وفُضولُ الكَلامِ) [820] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) (3/ 111-115). .
6- قال أحمد شوقي: (لو طُلبَ إلى النَّاسِ أن يَحذِفوا اللَّغوَ وفُضولَ القَولِ مِن كَلامِهم، لكادَ السُّكوتُ في مَجالِسِهم يَحُلُّ مَحَلَّ الكَلامِ، ولو طُلِب إليهم أن يُنَقُّوا مَكاتِبَهم مِن تافِهِ الكُتُبِ وعقيمِها وألَّا يَدَّخِروا فيها إلَّا القَيِّمَ العَبقَريَّ مِنَ الأسفارِ، لَما بَقيَ لهم مِن كُلِّ ألفِ رَفٍّ إلَّا رَفٌّ) [821] ((أسواق الذهب)) (ص: 147). .

انظر أيضا: