موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: عَدَمُ الخِطبةِ على خِطبةِ أخيه


لا يَجوزُ أن يَخطُبَ على خِطبةِ المُسلمِ إذا كان قد صُرِّحَ للخاطِبِ بالإجابةِ، ولَم يَأذَنِ الخاطِبُ الأوَّلُ للخاطِبِ الثَّاني، ولَم يَترُكْ.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- قال أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه يَأثُرُ [1209] يَأثُرُ: أي يَروي، مِن أثرتُ الحَديثَ آثَرُه بالمَدِّ أثْرًا -بفتحِ أوَّلِه وسُكونِ الثَّاني- إذا ذَكَرتَه عن غَيرِك. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (20/ 133). عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إيَّاكُم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَديثِ، ولا تَجَسَّسوا ولا تَحَسَّسوا [1210] ولا تَجَسَّسوا ولا تَحَسَّسوا: الأوَّلُ بالجيمِ والثَّاني بالحاءِ المُهمَلةِ، واختُلِف فيهما؛ فقيل: التَّحَسُّسُ بالحاء الاستِماعُ لحَديثِ القَومِ، وبالجيمِ: البَحثُ عنِ العَوراتِ، وقيل: بالحاء هو أن تَطلُبَه لغَيرِك، وقيل: هما بمَعنًى، وهو طَلبُ مَعرِفةِ الأخبارِ الغائِبةِ والأحوالِ، وقيل: بالحاءِ: في الخَيرِ، وبالجيمِ: في الشَّرِّ، وقيل: بالحاءِ: أن تَسمَعَ ما يَقولُ أخوك فيك، وبالجيمِ: أن تُرسِلَ مَن يَسألُ لك عَمَّا يُقالُ لك في أخيك مِنَ السُّوءِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 83، 84)، ((الغريبين)) للهروي (1/ 341، 342) و (2/ 440، 441)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 165)، ((غريب الحديث)) لابن الجوزي (1/ 156)، ((عمدة القاري)) للعيني (20/ 133). ، ولا تَباغَضوا، وكونوا إخوانًا، ولا يَخطُبِ الرَّجُلُ على خِطبةِ أخيه حَتَّى يَنكِحَ أو يَترُكَ)) [1211] أخرجه البخاري (5143، 5144) واللفظ له، ومسلم (2563). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَبيعَ حاضِرٌ لبادٍ [1212] بَيعُ الحاضِرِ للبادي هو: أن يَقدَمَ البادي (الغَريبُ) إلى المَدينةِ بمَتاعٍ تَعُمُّ الحاجةُ إليه ليَبيعَه بسِعرِ يَومِه جاهلًا بسِعرِه، ويَقصِدَه الحاضِرُ البَلديُّ (مِن سُكَّانِ المَدينةِ) ليَتَولَّى بَيعَه، أو يَقولَ له: اترُكْه عِندي لأبيعَه على التَّدريجِ بأغلى. يُنظر: ((المقنع)) لابن قدامة (ص: 156)، ((التوضيح)) لابن الملقن (14/ 347)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/184). وقال ابنُ بازٍ: (الحاضِرُ هو المُقيمُ في البَلدِ، والبادي هو الذي يَجلبُ مِنَ الخارِجِ، مِثلُ الباديةِ الذينَ يَبتَعِدونَ عن صَنعاءَ إذا جَلبوا إلى صَنعاءَ لا يَتَولَّى الحاضِرُ البَيعَ لهم، يَبيعونَ لأنفُسِهم، وهَكَذا الذي خارِجَ الرِّياضِ إذا جَلبَ إلى الرِّياضِ يَبيعُ بنَفسِه لا يَبيعُ له الحاضِرُ؛ لأنَّه إذا باعَ الحاضِرُ شَدَّدَ على النَّاسِ، وأمَّا البادي إذا باعَ بنَفسِه كان أرخَصَ للنَّاسِ؛ ولهذا نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحاضِرِ للباديةِ، فإذا قدِمَ جَماعةٌ مِنَ الباديةِ مَعَهم غَنَمٌ أو لبَنٌ أو أقِطٌ أو غَيرُ ذلك، يَبيعونَ بأنفُسِهم حتَّى يَستَفيدَ النَّاسُ مِنهم، إذا قَدِموا صَنعاءَ، قَدِموا تَعْز، قَدِموا الرِّياضَ، قَدِموا الأحساءَ، قَدِموا حائِلًا، قَدموا المَدينةَ، لا يَتَولَّ الحاضِرُ البَيعَ لهم، يَبيعونَ هم بأنفُسِهم؛ لأنَّ هذا أقرَبُ إلى مَصلحةِ النَّاسِ، والرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَقولُ: «دَعُوا النَّاسَ يَرزُقُ اللهُ بَعضَهم مِن بَعضٍ» [أخرجه مسلم (1522) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِا للهِ رَضِيَ اللهُ عنهما]، فإذا تَولَّى الحاضِرُ شَدَّدَ عليهم في الأثمانِ). ((فتاوى نور على الدرب)) (19/ 71). ، ولا تَناجَشوا [1213] النَّجْشُ لُغةً: أصلُه الاستِثارةُ، ومِنه: نَجَشتُ الصَّيدَ أنَجُشُه -بالضَّمِّ- نَجشًا: إذا استَثَرتَه، وسُمِّي النَّاجِشُ في السِّلعةِ ناجِشًا؛ لأنَّه يُثيرُ الرَّغبةَ فيها ويَرفعُ ثَمَنَها، وقيل: أصلُه المَدحُ والإطراءُ. وبيعُ النَّجشِ اصطِلاحًا: أن يَزيدَ في ثَمَنِ السِّلعةِ مَن لا يُريدُ شِراءَها، بَل ليَخدَعَ غَيرَه ويَغُرَّه ليَزيدَ ويَشتَريَها. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/1021)، ((شرح مسلم)) للنووي (10/159)، ((تحرير ألفاظ التنبيه)) للنووي (ص: 184)، ((لسان العرب)) لابن منظور (6/351)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/67)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/594)، ((التوضيح)) لابن الملقن (14/ 348، 349)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/284)، ((التاج والإكليل)) للمواق (4/377). وقال ابنُ عُثَيمين: (مِثالُ ذلك: عَرَضتُ سِلعةً للسَّومِ، فصارَ النَّاسُ يَتَزايَدونَ فيها، وكان أحَدُ هَؤُلاءِ يَزيدُ في الثَّمَنِ وهو لا يُريدُ الشِّراءَ، ولكِن مِن أجلِ مَنفعةِ البائِعِ؛ لأنَّه صاحِبُه، أمَّا هو فلا يُريدُ السِّلعةَ، أو يُريدُ إضرارَ المُشتَري؛ لأنَّه عَدوُّه، أو يُريدُ نَفعَ نَفسِه، كَأن يَكونَ عِندَه سِلعةٌ مِثلُها، فزادَ في ثَمَنِها لأجلِ أن يَزيدَ ثَمَنُ سِلعَتِه، أو يُريدُ أن يَقولَ النَّاسُ: فُلانٌ ما شاءَ اللهُ يَزيدُ في السِّلعةِ، وهذا مَعناه أنَّه عِندَه أموالٌ وتاجِرٌ). ((الشرح الممتع)) (8/299). ، ولا يَبيعُ الرَّجُلُ على بَيعِ أخيه، ولا يَخطُبُ على خِطبةِ أخيه، ولا تَسألُ المَرأةُ طَلاقَ أُختِها لتَكفَأَ ما في إنائِها [1214] تَكفأُ ما في إنائِها: هو مَن كَفأتُ القِدرَ: إذا كَبَبتَها لتُفرِغَ ما فيها، وهذا مَثَلٌ لإقالةِ الضَّرَّةِ حَقَّ صاحِبَتِها مِن زَوجِها إلى نَفسِها. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (1/ 538)، ((المغرب في ترتيب المعرب)) للمطرزي (ص: 411). ) [1215] أخرجه البخاري (2140) واللفظ له، ومسلم (1413). .
3- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَبيعَ بَعضكُم على بَيعِ بَعضٍ، ولا يَخطُبَ الرَّجُلُ على خِطبةِ أخيه، حَتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه أو يَأذَنَ له الخاطِبُ)) [1216] أخرجه البخاري (5142) واللفظ له، ومسلم (1412) مختصَرًا. .
ب- من الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ [1217] ممن نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ العَرَبيِّ، وابنُ قُدامةَ، والنَّوَويُّ، وابنُ تَيميَّةَ، والصَّنعانيُّ. قال ابنُ العَرَبيِّ: (لا خِلافَ في أنَّه لا يَجوزُ لأحَدٍ أن يَخطُبَ على خِطبةِ غَيرِه). ((عارضة الأحوذي)) (5/33). وقال ابنُ قُدامةَ: (لا يَخلو حالُ المَخطوبةِ مِن ثَلاثةِ أقسامٍ: أحَدُها: أن تَسكُنَ إلى الخاطِبِ لَها فتُجيبَه، أو تَأذَنَ لوليِّها في إجابَتِه أو تَزويجِه، فهذه يَحرُمُ على غَيرِ خاطِبِها خِطبَتُها؛ لِما رَوى ابنُ عُمَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لا يَخطُبْ أحَدُكُم على خِطبةِ أخيه». وعن أبي هُرَيرةَ، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لا يَخطُبْ أحَدُكُم على خِطبةِ أخيه، حَتَّى يَنكِحَ أو يَترُكَ» مُتَّفَقٌ عليهما. ولأنَّ في ذلك إفسادًا على الخاطِبِ الأوَّلِ، وإيقاعَ العَداوةِ بَينَ النَّاسِ؛ ولذلك نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الرَّجُلِ على بَيعِ أخيه، ولا نَعلَمُ في هذا خِلافًا بَينَ أهلِ العِلمِ). ((المغني)) (7/143). وقال النَّوويُّ: (لا يَحِلُّ للمُؤمِنِ أن يَبتاعَ على بَيعِ أخيه، ولا يَخطُبَ على خِطبةِ أخيه، حَتَّى يَذرَ. هذه الأحاديثُ ظاهرةٌ في تَحريمِ الخِطبةِ على خِطبةِ أخيه، وأجمَعوا على تَحريمِها إذا كان قد صُرِّحَ للخاطِبِ بالإجابةِ، ولَم يَأذَنْ ولَم يَترُكْ). ((شرح مسلم)) (9/ 197). ويُنظر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي وابنه (6/80)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/199)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (6/128). وقال ابنُ تيميَّةَ: (لا يَحِلُّ للرَّجُلِ أن يَخطُبَ على خِطبةِ أخيه إذا أُجيبَ إلى النِّكاحِ، ورَكَنوا إليه، باتِّفاقِ الأئِمَّةِ). ((مَجموع الفتاوى)) (32/9). وقال: (اتَّفقَ الأئِمَّةُ الأربَعةُ في المَنصوصِ عَنهم، وغَيرُهم مِنَ الأئِمَّةِ: على تَحريمِ ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (32/7). وقال الصَّنعانيُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على تَحريمِها إذا كان قد صُرِّحَ بالإجابةِ، ولَم يَأذَنْ ولَم يَترُكْ، فإن تَزَوَّج والحالُ هذه عَصى اتِّفاقًا، وصَحَّ عِندَ الجُمهورِ). ((سبل السلام)) (2/30). .

انظر أيضا: