ثانيًا: اتِّخاذُ الوسائِلِ المَشروعةِ قَبلَ الطَّلاقِ
يَنبَغي للزَّوجَينِ اتِّخاذُ الوسائِلِ المَشروعةِ لعِلاجِ المَشاكِلِ قَبلَ الطَّلاقِ، سَواءٌ كان النُّشوزُ
النُّشوزُ لُغةً: الاستِعصاءُ والامتِناعُ والتَّرَفُّعُ، مِنَ النَّشزِ، وهو ما ارتَفعَ وظَهَرَ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/209)، ((الصحاح)) للجوهري (3/899). والنُّشوزُ اصطِلاحًا: هو مَعصيةُ المَرأةِ زَوجَها فيما فرَضَ اللهُ عليها مِن طاعَتِه، والمَرأةُ النَّاشِزُ: هيَ المُرتَفِعةُ على زَوجِها، التَّارِكةُ لأمرِه، المُعرِضةُ عنه. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/ 318)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/251)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/343). مِن قِبَلِ المَرأةِ أوِ الرَّجُلِ.
1- عِلاجُ نُشوزِ الزَّوجةِ يَحرُمُ على المرأةِ نُشوزُها على زَوجِها، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. ينظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (4/358)، و(5/315)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/343)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/325)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). ويُنظَرُ بيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((الموسوعة الفقهية بموقع الدرر السَّنية)) https://dorar.net/feqhia عِلاجُ النُّشوزِ بالوَعظِإذا نَشَزَتِ الزَّوجةُ يَبدَأُ الزَّوجُ بوعظِها
يُذَكِّرُها ما أوجَبَ اللهُ عليها مِن حُسنِ الصُّحبةِ وجَميلِ العِشرةِ للزَّوجِ، والاعتِرافِ بالدَّرَجةِ التي له عليها، ويَذكُرُ لها ما أوجَبَ اللَّهُ عليها مِنَ الحَقِّ، وما يَلحَقُها مِنَ الإثمِ بالمُخالفةِ، وما يَسقُطُ بذلك مِنَ النَّفقةِ والكِسوةِ، إلى غَيرِ ذلك. يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/171)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). وقال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (الوَعظُ يَختَلفُ باختِلافِ حالِ المَرأةِ؛ فمِنهنَّ مَن يُؤَثِّرُ في نَفسِها التَّخويفُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وعِقابِه على النُّشوزِ، ومِنهنَّ مَن يُؤَثِّرُ في نَفسِها التَّهديدُ والتَّحذيرُ مِن سوءِ العاقِبةِ في الدُّنيا، كشَماتةِ الأعداءِ، والمَنعِ مِن بَعضِ الرَّغائِبِ، كالثِّيابِ الحَسَنةِ والحُليِّ، والرَّجُلُ العاقِلُ لا يَخفى عليه الوعظُ الذي يُؤَثِّرُ في قَلبِ امرَأتِه). ((تفسير القرآن الحكيم)) (5/ 59)، ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 112). وتَذكيرِها، ويَكونُ ذلك بالرِّفقِ واللِّينِ
وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/236)، ((التاج والإكليل)) للمواق (4/15)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/259)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:قال تعالى:
وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا النساء: 34.
وجهُ الدَّلالةِ:قَولُه تعالى:
فَعِظُوهُنَّ دَليلٌ على البَداءةِ بالوعظِ أوَّلًا؛ فقد بَدَأ اللهُ تعالى به
((تفسير القرآن العزيز)) لابن أبي زمنين (1/367)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 177). ، وتَقديمُ الشَّيءِ يَدُلُّ على التَّرتيبِ في الأصلِ
((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (12/444). .
عِلاجُ النُّشوزِ بالهَجرِيأتي الهَجرُ
ومِن صُوَرِ الهَجرِ للمَرأةِ النَّاشِزِ: هَجرُ المَضْجَعِ، فيَهجُرُ الرَّجُلُ امرأتَه النَّاشِزَ في المضجَعِ فلا ينامُ معها في الفِراشِ. وهَجرُ الكلامِ، فيُرخَّصُ للرَّجُلِ هَجرُ امرأتِه النَّاشِزِ بتَركِ الكلامِ ثلاثةَ أيَّامٍ، ولا يزيدُ عليها. ويُنظَرُ بيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((الموسوعة الفقهية بموقع الدرر السَّنية)) https://dorar.net/feqhia في المرتبةِ الثَّانيةِ مِن علاجِ النُّشوزِ للمَرأةِ، إذا لم تَرجِعْ عن نُشوزِها بالوَعظِ
وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/236)، ((التاج والإكليل)) للمواق (4/15)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/259)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكتابِ:قال تعالى:
وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا النساء: 34.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ تعالى قدَّم الوَعظَ على الهَجرِ، والهَجرَ على الضَّربِ، وتَقديمُ الشَّيءِ يدُلُّ على التَّرتيبِ في الأصلِ
((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (12/444). .
وأما التَّعليل: فلأنَّ في الهَجرِ أثرًا ظاهِرًا في تأديبِ النِّساءِ
((مغني المحتاج)) للشربيني (3/259). .
عِلاجُ النُّشوزِ بالضربيَأتي الضَّربُ
قال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (إنَّ الضَّربَ عِلاجٌ مُرٌّ، قد يَستَغني عنه الخَيِّرُ الحُرُّ، ولكِنَّه لا يَزولُ مِنَ البُيوتِ بكُلِّ حالٍ، أو يَعُمُّ التَّهذيبُ النِّساءَ والرِّجالَ). ((تفسير القرآن الحكيم)) (5/ 62)، ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 116). وقال أيضًا في حَديثِ عَبدِ اللَّهِ بنِ زَمعةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يَجلِدْ أحَدُكُمُ امرَأتَه جَلدَ العَبدِ، ثُمَّ يُجامِعُها في آخِرِ اليَومِ)) [البخاري (5204) واللفظ له، ومسلم (2855)]، وفي رِوايةٍ: ((يَعمِدُ أحَدُكُم فيَجلِدُ امرَأتَه جَلدَ العَبدِ، فلعَلَّه يُضاجِعُها مِن آخِرِ يَومِه!)) [البخاري (4942)]: (ذَكَّر الرَّجُلَ بأنَّه إذا كان يَعلمُ مِن نَفسِه أنَّه لا بُدَّ له مِن ذلك الاجتِماعِ والاتِّصالِ الخاصِّ بامرَأتِه -وهو أقوى وأحكَمُ اجتِماعٍ يَكونُ بَينَ اثنَينِ مِنَ البَشَرِ، يَتَّحِدُ أحَدُهما بالآخَرِ اتِّحادًا تامًّا، فيَشعُرُ كُلٌّ مِنهما بأنَّ صِلتَه بالآخَرِ أقوى مِن صِلةِ بَعضِ أعضائِه ببَعضٍ- إذا كان لا بُدَّ له مِن هذه الصِّلةِ والوَحدةِ التي تَقتَضيها الفِطرةُ، فكَيف يَليقُ به أن يَجعَلَ امرَأتَه -وهيَ كَنَفسِه- مَهينةً كَمَهانةِ عَبدِه، بحَيثُ يَضرِبُها بسَوطِه أو يَدِه؟! حَقًّا، إنَّ الرَّجُلَ الحَييَّ الكَريمَ ليَتَجافى به طَبعُه عن مِثلِ هذا الجَفاءِ، ويَأبى عليه أن يَطلُبَ مُنتَهى الاتِّحادِ بمَن أنزَلَها مَنزِلةَ الإماءِ، فالحَديثُ أبلغُ ما يُمكِنُ أن يُقالَ في تَشنيعِ ضَربِ النِّساءِ. وأذكُرُ أنَّني هُدِيتُ إلى مَعناه العالي قَبلَ أن أطَّلعَ على لفظِه الشَّريفِ، فكُنتُ كُلَّما سَمِعتُ أنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امرَأتَه أقولُ: يا للهِ العَجَب! كَيف يَستَطيعُ الإنسانُ أن يَعيشَ عيشةَ الأزواجِ مَعَ امرَأةٍ تُضرَبُ؟ تارةً يَسطو عليها بالضَّربِ فتَكونُ مِنه كالشَّاةِ مِنَ الذِّئبِ، وتارةً يَذِلُّ لها كالعَبدِ، طالبًا مُنتَهى القُربِ! ولكِن لا نُنكِرُ أنَّ النَّاسَ مُتَفاوِتونَ؛ فمِنهم مَن لا تَطيبُ له هذه الحَياةُ، فإذا لم تَقدُرِ امرَأتُه بسوءِ تَربيَتِها تَكريمَه إيَّاها حَقَّ قَدرِه، ولم تَرجِعْ عن نُشوزِها بالوعظِ والهجرانِ، فارَقَها بمَعروفٍ وسَرَّحَها بإحسانٍ، إلَّا أن يَرجوَ صَلاحَها بالتَّحكيمِ الذي أرشَدَت إليه الآيةُ، ولا يَضرِبْ؛ فإنَّ الأخيارَ لا يَضرِبونَ النِّساءَ، وإن أُبيحَ لهم ذلك للضَّرورةِ). ((تفسير القرآن الحكيم)) (5/ 62)، ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 114، 115). في المَرتَبةِ الثَّالثةِ مِن عِلاجِ النُّشوزِ للمَرأةِ إذا لم تَرجِعْ بالوعظِ والهَجرِ
وهذا باتِّفاقِ المَذاهب الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/236)، ((التاج والإكليل)) للمواق (4/15)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/225)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:قال تعالى:
وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا النساء: 34.
شُروطُ الضَّربِ:الشَّرطُ الأوَّلُ: أنْ يَغلِبَ على ظَنِّه أنَّ ضَرْبَه يُفيدُ في رُجوعِهايُشتَرطُ في الضَّربِ أنْ يَغلِبَ على ظَنِّ الزَّوجِ أنَّ ضَرْبَ زَوجتِه النَّاشِزِ يُفيدُ في رجوعِها عن النُّشوزِ
نَصَّ عليه المالِكيَّةُ، والشَّافِعيَّةُ. يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (2/343)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/260). .
الشَّرُط الثَّاني: ألَّا يَكونَ الضَّربُ مُبَرِّحًا أي: لا يَكونُ شَديدَ الأذى والإيلامِ، ولا يَكونُ شاقًّا، والبَرْحُ: المَشَقَّةُ. وعليه اجتِنابُ الوَجهِ والمَواضِعِ المَخوفةِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (4/277)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/15)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (4/189)، ((المغني)) لابن قدامة (7/318). يُشتَرَطُ في ضَربِ الزَّوجِ زَوجَتَه ألَّا يَكونَ الضَّربُ مُبَرِّحًا
وهذا باتِّفاقِ المَذاهب الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/334)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/262)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/260)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّة:1- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اتَّقوا اللَّهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكُم أخَذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ أخَذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، أي: بعَهدِه، عَهِدَ إليكُم بالرِّفقِ بهنَّ والشَّفقةِ عليهنَّ. يُنظر: ((تحفة الأبرار)) للبيضاوي (2/ 139، 140). ، واستَحللتُم فُروجَهنَّ بكَلمةِ اللهِ استَحللتُم فُروجَهنَّ بكَلمةِ اللهِ: قيل: المُرادُ بكَلمةِ اللهِ: بإباحةِ اللهِ، والكَلمةُ قَولُه تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 3]، وقيل: المُرادُ بكَلمةِ اللهِ قَولُه تعالى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229] ، وقيل: المُرادُ بكَلمةِ اللهِ: التَّوحيدُ وقَولُ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ؛ إذ لا يَحِلُّ لمَن كان على غَيرِ الإسلامِ أن يَتَزَوَّجَ مُسلِمةً، وقيل: بكَلمةِ اللهِ، أي: بأمرِه وحُكمِه، وقيل: المُرادُ بالكَلمةِ: الإيجابُ والقَبولُ، ومَعناه على هذا: بالكَلمةِ التي أمَرَ اللهُ تعالى بها. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 200)، ((المعلم)) للمازري (2/ 85)، ((إكمال المعلم)) لعياض (4/ 277)، ((شرح مسلم)) للنووي (8/ 183)، ((تحفة الأبرار)) للبيضاوي (2/ 139، 140). ، ولكُم عليهنَّ أن لا يوطِئنَ فُرُشَكُم أحَدًا تَكرَهونَه، فإن فعَلنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ غَيرَ مُبَرِّحٍ: أي: غَيرَ شَديدِ الأذى والإيلامِ، وغَيرَ شاقٍّ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (4/277)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/15)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (4/189)، ((المغني)) لابن قدامة (7/318). ، ولهنَّ عليكُم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمَعروفِ... )) الحَديثَ
أخرجه مسلم (1218). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ زَمعةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا يَجلِدْ أحَدُكُمُ امرَأتَه جَلدَ العَبدِ، ثُمَّ يُجامِعُها في آخِرِ اليَومِ)) أخرجه البخاري (5204) واللَّفظُ له، ومسلم (2855). .
الشَّرطُ الثَّالثُ: ألَّا يكونَ الضَّربُ على الوَجهِ أو المَهالِكِيُشتَرطُ في ضَربِ الزَّوج زَوْجَته ألَّا يكونَ الضَّربُ على الوَجهِ أو المَهالِكِ
نَصَّ عليه الجُمهورُ: المالِكيَّةُ، والشَّافِعيَّةُ، والحَنابِلةُ. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/262)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/260)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/209). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّة:عن مُعاويةَ القُشَيريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما حَقُّ زَوجةِ أحَدِنا عليه؟ قال: أن تُطعِمَها إذا طَعِمتَ، وتَكسوَها إذا اكتَسَيتَ -أوِ اكتَسَبتَ- ولا تَضرِبَ الوَجهَ، ولا تُقَبِّحَ، ولا تَهجُرَ إلَّا في البَيتِ)) أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة التَّضعيفِ قَبل حَديث (5202) مُختَصَرًا، ولفظُه: "غَيرَ أن لا تَهجُرَ إلَّا في البَيتِ". وأخرجه مَوصولًا أبو داود (2142) واللَّفظُ له، وابن ماجه (1850). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4175)، والدارقطني كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (4/1300)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/289)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2142). .
2- عِلاجُ نُشوزِ الزَّوجِإن خافتِ الزَّوجةُ نُشوزَ زَوجِها
يَعني: استِعلاءً بنَفسِه عنها إلى غَيرِها أثَرةً عليها وارتِفاعًا عنها؛ إمَّا لبِغضةٍ وإمَّا لكَراهةٍ مِنه بَعضَ أسبابِها، كَدَمامَتِها، أو كِبَرِ سِنِّها، أو غَيرِ ذلك. يُنظر: ((جامِع البَيانِ)) لابن جَرير الطَّبَريّ (7/ 548). وإعراضَه
يَعني: انصِرافًا عنها بوَجهِه أو ببَعضِ مَنافِعِه التي كانت لها مِنه. يُنظر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (7/ 548). عنها، وخَشيَت مُفارَقَتَه لها، فلها أن تَستَرضيَه بإسقاطِ حُقوقِها
ولا شَيءَ على الزَّوجِ إن كان لا يَمنَعُها حَقًّا، ولا يُؤذيها بضَربٍ ونَحوِه. كُلِّها أو بَعضِها
وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/192). وعندهم ((المدونة)) لسحنون (2/241)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الجد (1/556). ((روضة الطالبين)) للنووي (7/370). ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/211). على أنَّه عِندَ المالكيَّةِ يَجِبُ عليه أن يُفارِقَها إذا كان النُّشوزُ مِن قِبَلِه، ولم تَرضَ ذلك مِن فِعلِه، إلَّا أن يَصطَلحا. .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِقَولُه تعالى:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا النساء: 128.
وَجهُ الدَّلالةِ:في الآيةِ دَليلٌ على وُقوعِ النُّشوزِ مِنَ الزَّوجِ كما يقَعُ مِنَ الزَّوجةِ، ونَدْبِ كُلٍّ منهما إلى إسقاطِ بَعضِ الحُقوقِ؛ لِدَيمومةِ الحياةِ الزَّوجيَّةِ
يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (2/500)، ((التسهيل لعلوم التنزيل)) (1/ 212)، ((تيسير البيان لأحكام القرآن)) لابن نور الدين الخطيب (3/37). .
ب- مِنَ السُّنَّةِعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها في هذه الآيةِ:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا النساء: 128، قالت:
((الرَّجُلُ تكونُ عندَه المرأةُ ليس بمُستكثِرٍ منها، يريدُ أن يُفارِقَها، فتقولُ: أجْعَلُك مِن شأني في حِلٍّ، فنَزَلت هذه الآيةُ في ذلك)) رواه البخاري (2450)، ومسلم (3021). .
فائدةٌ:قال تعالى:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا النساء: 34.
قوله:
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: إنْ أطَعْنكُم بواحِدةٍ مِن هذه الخِصالِ التَّأديبيَّةِ فلا تَبغوا بتَجاوُزِها إلى غَيرِها طَريقًا، فابدؤوا بما بَدَأ اللهُ به مِنَ الوعظِ، فإن لم يُفِدْ فليَهجُرْ، فإن لم يُفِدْ فليَضرِبْ، فإذا لم يُفِدْ هذا أيضًا يَلجَأُ إلى التَّحكيمِ، ويُفهَمُ مِن هذا أنَّ الصَّالحاتِ القانِتاتِ لا سَبيلَ عليهنَّ حتَّى في الوَعظِ والنُّصحِ، فضلًا عنِ الهَجرِ والضَّربِ.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فإنَّ سُلطانَه عليكُم فوقَ سُلطانِكُم على نِسائِكُم، فإذا بَغَيتُم عليهنَّ عاقَبَكُم، وإذا تَجاوزتُم عن هَفواتِهنَّ كَرَمًا وشممًا تَجاوَزَ عنكُم.
وأتى بهذا بَعدَ النَّهيِ عنِ البَغيِ؛ لأنَّ الرَّجُلَ إنَّما يَبغي على المَرأةِ مِمَّا يُحِسُّه في نَفسِه مِنَ الاستِعلاءِ عليها، وكَونِه أكبَرَ مِنها وأقدَرَ، فذَكَّرَه تعالى بعُلوِّه وكِبريائِه وقُدرَتِه عليه؛ ليَتَّعِظَ ويَخشَعَ ويَتَّقيَ اللَّهَ فيها.
واعلَموا أنَّ الرِّجالَ الذينَ يُحاوِلونَ بظُلمِ النِّساءِ أن يَكونوا سادةً في بُيوتِهم إنَّما يَلدونَ عَبيدًا لغَيرِهم، أي: أنَّ أولادَهم يَتَرَبَّونَ على ذُلِّ الظُّلمِ، فيَكونونَ كالعَبيدِ الأذِلَّاءِ لمَن يَحتاجونَ إلى المَعيشةِ مَعَهم
ينظر: ((تفسير القرآن الحكيم)) لمحمد رشيد رضا (5/ 63)، ((حقوق النساء في الإسلام)) لمحمد رشيد رضا (ص: 117). .
3- التَّحكيمُ بَينَ الزَّوجَينِإذا تَمادى الخِلافُ بَينَ الزَّوجَينِ أُرسِلَ حَكَمانِ للتَّحكيمِ بَينَهما.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكتابِ:قال تعالى:
وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا النساء: 34، 35.
قال محمَّد رشيد رضا: (
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا الخِلافُ بَينَ الزَّوجَينِ قد يَكونُ بنُشوزِ المَرأةِ، وقد يَكونُ بظُلمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فالنُّشوزُ يُعالجُه الرَّجُلُ بأقرَبِ التَّأديباتِ الثَّلاثةِ المُبيَّنةِ في الآيةِ التي قَبلَ هذه الآيةِ، فإذا تَمادى هو في ظُلمِه، أو عَجَزَ عن إنزالِها عن نُشوزِها، وخيف أن يَحولَ الشِّقاقُ بَينَهما دونَ إقامَتِهما لحُدودِ اللهِ تعالى في الزَّوجيَّةِ بإقامةِ أركانِها الثَّلاثةِ: السُّكونُ والمَودَّةُ والرَّحمةُ، وجَبَ على المُؤمِنينَ المُتَكافِلينَ في مَصالحِهم ومَنافِعهم أن يَبعَثوا حَكَمًا مِن أهلِه وحَكَمًا مِن أهلِها، عارِفَينِ بأحوالِه وأحوالِها، ويَجِبُ على هذينِ الحَكَمَينِ أن يوجِّهَا إرادَتَهما إلى إصلاحِ ذاتِ البَينِ، ومَتى صَدَقَتِ الإرادةُ كان التَّوفيقُ الإلهيُّ رَفيقَها إن شاءَ اللهُ تعالى، ويَجِبُ الخُضوعُ لحُكمِ الحَكَمَينِ والعَمَلُ به.
فخَوفُ الشِّقاقِ: توقُّعُه بظُهورِ أسبابِه.
والشِّقاقُ: هو الخِلافُ الذي يَكونُ به كُلٌّ مِنَ المُختَلفَينِ في شِقٍّ، أي: في جانِبٍ.
والحَكَمُ -بالتَّحريكِ-: مَن له حَقُّ الحُكمِ والفَصلِ بَينَ الخَصمَينِ.
والمُرادُ ببَعثِهما: إرسالُهما إلى الزَّوجَينِ ليَنظُرا في شَكوى كُلٍّ مِنهما، ويَتَعَرَّفا ما يُرجى أن يُصلِحَ بَينَهما، ويَستَرضوهما بالتَّحكيمِ؛ وإعطاؤُهما حَقَّ الجَمعِ والتَّفريقِ)
((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 118). .
وقال الزَّمَخشَريُّ: (وإنَّما كان بَعثُ الحَكَمَينِ مِن أهلِهما؛ لأنَّ الأقارِبَ أعرَفُ ببَواطِنِ الأحوالِ، وأطلَبُ للصَّلاحِ، وإنَّما تَسكُنُ إليهم نُفوسُ الزَّوجَينِ، ويَبرُزُ إليهم ما في ضَمائِرِهما مِنَ الحُبِّ والبُغضِ، وإرادةِ الصُّحبةِ والفُرقةِ، وموجِباتِ ذلك ومُقتَضَياتِه، وما يَزويانِه عنِ الأجانِبِ ولا يُحِبَّانِ أن يَطَّلِعوا عليه)
((تفسير الزمخشري)) (1/ 508). .