موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: اجتِنابُ ما حَرَّمَه اللَّهُ مِنَ النِّياحةِ وشَقِّ الثِّيابِ وغَيرِ ذلك!


يَحرُمُ على أقارِبِ المَيِّتِ وغَيرِهم: النَّدبُ والنِّياحةُ والصُّراخُ، وشَقُّ الثَّوبِ، ولَطمُ الخَدِّ [1520] وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/195)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/410)، ((المجموع)) للنووي (5/307)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/399، 398). ، وقد حُكيَ الإجماعُ على ذلك [1521] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وأجمَعَ العُلماءُ على أنَّ النِّياحةَ لا تَجوزُ للرِّجالِ ولا للنِّساءِ). ((الاستذكار)) (3/68). وقال النَّوويُّ: (أمَّا النَّدبُ والنِّياحةُ، ولطمُ الخَدِّ وشَقُّ الجَيبِ، وخَمشُ الوَجهِ ونَشرُ الشَّعرِ، والدُّعاءُ بالوَيلِ والثُّبورِ؛ فكُلُّها مُحرَّمةٌ باتِّفاقِ الأصحابِ، وصَرَّح الجُمهورُ بالتَّحريمِ، وقد نَقَل جَماعةٌ الإجماعَ في ذلك). ((المجموع)) (5/307). وقال ابنُ القَيِّمِ: (قال المُحرِّمونَ: لا تُعارَضُ سُنَّةُ رَسولِ اللهِ بأحَدٍ مِنَ النَّاسِ كائِنًا مَن كان، ولا نَضرِبُ سُنَنَه بَعضَها ببَعضٍ، وما ذَكَرنا مِنَ النُّصوصِ صحيحةٌ صَريحةٌ لا تَحتَمِلُ تَأويلًا، وقدِ انعَقدَ عليها الإجماعُ). ((عدة الصابرين)) (ص: 105). وقال العَينيُّ: (النَّوحُ حَرامٌ بالإجماعِ؛ لأنَّه جاهِليٌّ). ((عمدة القاري)) (8/84). وقال الحداديُّ: (وأجمَعَتِ الأُمَّةُ على تَحريمِ النَّوحِ، والدُّعاءِ بالوَيلِ والثُّبور، ولَطمِ الخُدودِ وشَقِّ الجُيوبِ وخَمشِ الوُجوهِ؛ لأنَّ هذا فِعلُ الجاهليَّةِ). ((الجوهرة النيرة)) (1/108). لكِنَّ هناكَ رِوايةً عن أحمَدَ بكَراهةِ النَّدبِ والنِّياحةِ، ورِوايةً أُخرى بالإباحةِ، قال ابنُ قُدامةَ: (وأمَّا النَّدبُ فهو تَعدادُ مَحاسِنِ المَيِّتِ، وما يَلقَونَ بفَقدِه بلفظِ النِّداءِ، إلَّا أنَّه يَكونُ بالواوِ مَكانَ الياءِ، ورُبَّما زيدَت فيه الألفُ والهاءُ، مِثلُ قَولِهم: وارَجُلاه واجَبَلاه، وانقِطاعَ ظَهراه. وأشباه هذا. والنِّياحةُ، وخَمشُ الوُجوهِ، وشَقُّ الجُيوبِ، وضَربُ الخُدودِ، والدُّعاءُ بالوَيلِ والثُّبورِ، فقال بَعضُ أصحابِنا: هو مَكروهٌ. ونَقَل حَربٌ عن أحمَدَ كَلامًا فيه احتِمالُ إباحةِ النَّوحِ والنَّدبِ. واختارَه الخَلَّالُ وصاحِبُه) ((المغني)) (2/407). ويُنظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (2/399). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي مالِكٍ الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أربَعٌ في أُمَّتي مِن أمرِ الجاهليَّةِ، لا يَترُكونَهنَّ: الفَخرُ في الأحسابِ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والاستِسقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ. وقال: النَّائِحةُ إذا لم تَتُبْ قَبلَ مَوتِها تُقامُ يَومَ القيامةِ وعليها سِربالٌ مِن قَطِرانٍ [1522] سِربالٌ، أي: قَميصٌ. والقَطِرانُ: طِلاءٌ يُطلى به، وقيل: دُهنٌ يُدهنُ به الجَمَلُ الأجرَبُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/ 1235). ، ودِرعٌ مِن جَرَبٍ [1523] الدِّرعُ: قَميصُ المَرأةِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (2/ 94). ) [1524] أخرجه مسلم (934). .
(قَولُه: «ودِرعٌ مِن جَرَبٍ» أي: يُسَلَّطُ عليها الجَرَبُ، فيُغَطِّي جِلدَها تَغطيةَ الدِّرعِ، ويَلتَزِقُ بها التِزاقةً، فيُجمَعُ لها بَينَ حِدَّةِ القَطِرانِ وحَرارَتِه وحُرقتِه ونَتنِه وسَوادِه واشتِعالِه، وبَينَ الجَرَبِ الذي يُمَزِّقُ الجِلدَ، ويُقَطِّعُ اللَّحمَ، كَما تَجمَعُ المَرأةُ بَينَ القَميصِ والدِّرعِ.
وذِكرُ الدِّرعِ لأنَّها قَميصُ النِّساءِ، ثُمَّ إنَّ النِّياحةَ تَختَصُّ بشَغلِهنَّ اختِصاصَ الدِّرعِ بمَلابسِهنَّ، فشارَكَت أهلَ النَّارِ في لباسِهم، واختَصَّت بدِرعٍ مِن جَرَبٍ؛ للمَعنى الذي خُصَّت به) [1525] ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (2/ 404). .
و(النَّائِحةُ تَلبَسُ في المُصيبةِ قَميصًا أسودَ لِلمُصيبةِ، وتَخدِشُ وجهَها، وتَخدِشُ أيضًا قُلُوبَ الحاضِرينَ بما تَعُدُّ مِن خِصالِ الميِّتِ، فيُجازيها اللهُ تعالى يَومَ القيامةِ بأن يُلبِسَها لِباسًا مِن قَطِرانٍ، ولِباسًا مِن جَرَبٍ.
ولِباسُ القَطِرانِ يَكُونُ أسودَ، ويَسرُعُ اشتِعالُ النَّارِ فيه، ومَعنى لباسِ الجَرَبِ: أنَّه يَصيرُ جِلدُها أجرَبَ حتَّى يَكونَ جَرَبُها كَقَميصٍ على أعضائِها، وإنَّما فُعِل بها هذا لتَحُكَّ وتَخدِشَ أعضاءَها مِنَ الجَرَبِ، كَما خَدَشَت وَجهَها وقُلوبَ الحاضِرينَ بكَلِماتِها) [1526] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (2/ 459). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليسَ مِنَّا مَن لطَمَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودَعا بدَعوى الجاهليَّةِ)) [1527] أخرجه البخاري (1294) واللفظ له، ومسلم (103). .
3- عن أبي بُردةَ بنِ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((وَجِعَ أبو موسى وجَعًا شَديدًا، فغُشِيَ عليه ورَأسُه في حَجرِ امرَأةٍ مِن أهلِه، فلم يَستَطِعْ أن يَرُدَّ عليها شَيئًا، فلمَّا أفاقَ قال: أنا بَريءٌ مِمَّن بَرِئَ مِنه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَرِئَ مِنَ الصَّالقةِ [1528] الصَّلقُ: الصِّياحُ الشَّديدُ، وكذلك السَّلقُ، ومِنه قَولُه تعالى: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب: 19] ، فالصَّالقةُ: الصَّائِحةُ بالصَّوتِ الشَّديدِ. وقيل: أن تَصُكَّ المَرأةُ وَجهَها، وأن تَخدِشَه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403)، ((عمدة القاري)) للعيني (8/ 85). والحالقةِ [1529] الحالِقةُ: التي تَحلِقُ شَعرَها عِندَ المُصيبةِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 104). والشَّاقَّةِ [1530] الشَّاقَّةُ: التي تَخرِقُ الثِّيابَ للمُصابِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403). ) [1531] أخرجه البخاري (1296) واللفظ له، ومسلم (104). .
وفي رِوايةٍ: ((ليسَ مِنَّا [1532] ليس مِنَّا: أي: ليسَ على سيرَتِنا ومَذهَبِنا، والتَّمَسُّكِ بسُنَّتِنا، كَما يَقولُ الرَّجُلُ: أنا مِنك وإليك، يُريدُ المُتابَعةَ والموافَقةَ. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 366). مَن حَلَق [1533] أي: مَن حَلَق شَعرَه عِندَ المَصائِبِ إذا حَلَّت به. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483). ومَن سَلَق [1534] أي: رَفعَ صَوتَه. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403). ومَن خَرَق [1535] أي: شَقَّ ثيابَه عِندَ المُصيبةِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (8/ 85). ) [1536] أخرجها من طرق أبو داود (3130) واللفظ له، والنسائي (1866)، وأحمد (19690). صححها الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3130)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3130). .
مسائلُ:
جَوازُ البُكاءِ وإظهارِ الحُزنِ
يَجوزُ البُكاءُ على المَيِّتِ مِن غَيرِ نَدبٍ ولا نياحةٍ [1537] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ، وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ. يُنظر: ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 371)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/235)، ((المجموع)) للنووي (5/307)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/162)، ((المحلى)) لابن حزم (3/371). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ، قال: ((كُنَّا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاءَه رَسولُ إحدى بَناتِه يَدعوه إلى ابنِها في المَوتِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ارجِعْ فأخبِرْها أنَّ للهِ ما أخَذَ وله ما أعطى، وكُلُّ شَيءٍ عِندَه بأجَلٍ مُسَمًّى، فمُرْها فلتَصبِرْ ولتَحتَسِبْ، فأعادَتِ الرَّسولَ أنَّها أقسَمَت لتَأتيَنَّها، فقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقامَ مَعَه سَعدُ بنُ عُبادةَ، ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ، فدُفِعَ الصَّبيُّ إليه ونَفسُه تَقَعقَعُ [1538] تَقَعقَعُ: أي: تَضطَرِبُ وتَتَحَرَّكُ. أرادَ: كُلَّما صارَ إلى حالٍ لم يَلبَثْ أن يَنتَقِلَ إلى أُخرى تُقَرِّبُه مِنَ المَوتِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/88). كَأنَّها في شَنٍّ [1539] الشَّنُّ: القِربةُ الخَلقةُ اليابسةُ، شَبَّه البَدَنَ بالجِلدِ اليابسِ الخَلَقِ، وحَرَكةَ الرُّوحِ فيه بما يُطرَحُ في الجِلدِ مِن حَصاةٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/157). ، ففاضَت عَيناه، فقال له سَعدٌ: يا رَسولَ اللهِ! قال: هذه رَحمةٌ جَعَلها اللهُ في قُلوبِ عِبادِه، وإنَّما يَرحَمُ اللهُ مِن عِبادِه الرُّحَماءَ)) [1540] أخرجه البخاري (1284) واللفظ له، ومسلم (923). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((زارَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبرَ أُمِّه، فبَكى وأبكى مَن حَولَه)) [1541] أخرجه مسلم (976). .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لما جاء قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة، جلس النبي صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن ...)) [1542] أخرجه البخاري (1305) واللفظ له، ومسلم (935). .
جَوازُ تَقبيلِ المَيِّتِ
يجوزُ تقبيلُ وَجهِ الميِّتِ [1543] وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/187)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/237)، ((المجموع)) للنووي (5/127)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/85). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الآثارِ:
عنِ ابنِ عبَّاسٍ، وعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهم: (أنَّ أبا بكرٍ قَبَّلَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ميِّتٌ) [1544] أخرجه البخاري (5709، 5710، 5711). .

انظر أيضا: