موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: التَّأدُّبُ في نِداءِ المُعلِّمِ والشَّيخِ ومُخاطَبَتِهما


مِنَ الأدَبِ مَعَ المُعَلِّمِ أوِ الشَّيخِ: التَّأدُّبُ في نِدائِه ومُخاطَبَتِه، وتَبجيلُه في اللَّفظِ [1020] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 379). قال الخَطيبُ: (إذا خاطَبَ الطَّالِبُ المُحَدِّثَ عَظَّمه في خِطابِه بنِسبَتِه إيَّاه إلى العِلمِ، مِثلُ أن يَقولَ له: أيُّها العالِمُ، أو أيُّها الحافِظُ، ونَحوَ ذلك). ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 182). وقال ابنُ جَماعةَ: (يَنبَغي ألَّا يُخاطِبَ شَيخَه بتاءِ الخِطابِ وكافِه، ولا يُناديَه مِن بُعدٍ، بَل يَقولُ: يا سَيِّدي ويا أُستاذي. وقال الخَطيبُ: يَقولُ: أيُّها العالِمُ، وأيُّها الحافِظُ ونَحوَ ذلك، وما تَقولونَ في كَذا؟ وما رَأيكُم في كَذا؟ وشِبهَ ذلك. ولا يُسَمِّيه في غَيبَتِه أيضًا باسمِه إلَّا مَقرونًا بما يُشعِرُ بتَعظيمِه، كقَولِه: قال الشَّيخُ أوِ الأُستاذُ كَذا، وقال شَيخُنا). ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 99). وقال بَكر أبو زَيد: (خُذْ بمَجامِعِ الآدابِ مَعَ شَيخِك في جُلوسِك مَعَه، والتَّحَدُّثِ إليه، وحُسنِ السُّؤالِ والاستِماعِ، وحُسنِ الأدَبِ في تَصَفُّحِ الكِتابِ أمامَه، ومَعَ الكِتابِ... ولا تُناديه باسمِه مُجَرَّدًا، أو مَعَ لَقَبِه، كقَولِك: يا شَيخُ فُلان! بَل قُل: يا شَيخي، أو يا شَيخَنا. فلا تُسَمِّه؛ فإنَّه أرفَعُ في الأدَبِ، ولا تُخاطِبْه بتاءِ الخِطابِ، أو تُناديه مِن بُعدٍ مِن غَيرِ اضطِرارٍ. وانظُر ما ذَكَرَه اللهُ تعالى مِنَ الدَّلالةِ على الأدَبِ مَعَ مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا الآية [النور: 63] . وكَما لا يَليقُ أن تَقولَ لوالدِك ذي الأُبوَّةِ الطِّينيَّةِ: "يا فُلان" أو: "يا والدي فُلان"، فلا يَجمُلُ بك مَعَ شَيخِك). ((حلية طالب العلم)) (ص: 162). .
الدَّليلُ على ذلك من الكتابِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكتابِ
قال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ أصلٌ في أن يُمَيَّزَ ذو المَنزِلةِ بمَنزِلَتِه، ويُفرَّقَ بَينَه وبَينَ مَن لَم يَلحَقْ بطَبَقَتِه [1021] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 379، 380). .
ب- مِنَ الآثارِ
عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (مِن حَقِّ العالِمِ عليك أن تُسَلِّمَ على القَومِ عامَّةً وتَخُصَّه دونَهم بالتَّحيَّةِ، وأن تَجلِسَ أمامَه، ولا تُشيرَنَّ عِندَه بيَدِك، ولا تَغمِزنَّ بعَينَيك، ولا تَقولَنَّ: قال فلانٌ خِلافًا لقَولِه، ولا تَغتابَنَّ عِندَه أحَدًا، ولا تُسارَّ في مَجلِسِه، ولا تَأخُذْ بثَوبِه، ولا تُلِحَّ عليه إذا كَسِل، ولا تُعرِضْ مِن طولِ صُحبَتِه؛ فإنَّما هو بمَنزِلةِ النَّخلةِ تنتَظِرُ مَتى يَسقُطُ عليك مِنها شَيءٌ) [1022] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 199)، ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 580). .
فائدةٌ:
قال ابنُ جَماعةَ: (يُحسنُ خِطابَه مَعَ الشَّيخِ بقَدرِ الإمكانِ، ولا يَقولُ له: لِم؟ ولا: لا نُسَلِّمُ، ولا: مَن نَقَل هذا؟ ولا: أينَ مَوضِعُه؟ وشِبهَ ذلك، فإن أرادَ استِفادَتَه تَلَطَّف في الوُصولِ إلى ذلك، ثُمَّ هو في مَجلسٍ آخَرَ أَولى على سَبيلِ الإفادةِ.
عن بَعضِ السَّلَفِ: مَن قال لشَيخِه: لِمَ؟ لَم يُفلِحْ أبَدًا.
وإذا ذَكَرَ الشَّيخُ شَيئًا فلا يَقُلْ: هكذا قُلتُ، أو: خَطَرَ لي، أو: سَمِعتُ، أو: هَكَذا قال فلانٌ، إلَّا أن يَعلَمَ إيثارَ الشَّيخِ ذلك، وهكذا لا يَقولُ: قال فُلانٌ خِلافَ هذا، ورَوى فلانٌ خِلافَه، أو: هذا غَيرُ صَحيحٍ، ونَحوَ ذلك.
وإذا أصَرَّ الشَّيخُ على قَولٍ أو دَليلٍ ولَم يَظهَرْ له، أو على خِلافِ صَوابٍ سَهوًا، فلا يُغَيِّرْ وجهَه أو عَينَيه، أو يُشيرُ إلى غَيرِه كالمُنكِرِ لِما قاله، بَل يَأخُذُه ببِشرٍ ظاهِرٍ، وإن لَم يَكُنِ الشَّيخُ مُصيبًا لغَفلةٍ أو سَهوٍ أو قُصورٍ نَظَرَ في تلك الحالِ؛ فإنَّ العِصمةَ في البَشَرِ للأنبياءِ صَلَّى اللهُ عليهم وسَلَّمَ.
وليَتَحَفَّظْ مِن مُخاطَبةِ الشَّيخِ بما يَعتادُه بَعضُ النَّاسِ في كَلامِه، ولا يَليقُ خِطابُه به، مِثلُ: أيشٍ بك؟ وفَهِمتَ، وسَمِعتَ، وتَدري، ويا إنسانُ، ونَحوَ ذلك.
وكَذلك لا يَحكي له ما خوطِبَ به غَيرُه مِمَّا لا يَليقُ خِطابُ الشَّيخِ به، وإن كان حاكيًا، مِثلُ: قال فلانٌ لفُلانٍ: أنتَ قَليلُ البرِّ، أو ما عِندَك خَيرٌ، وشِبهَ ذلك، بَل يَقولُ إذا أرادَ الحِكايةَ ما جَرَتِ العادةُ بالكِنايةِ به، مِثلُ: قال فلانٌ لفُلانٍ: الأبعَدُ قَليلُ البرِّ، وما عِندَ البَعيدِ خَيرٌ، وشِبهَ ذلك.
وليَتَحَفَّظْ مِن مُفاجَأةِ الشَّيخِ بصورةِ رَدٍّ عليه؛ فإنَّه يَقَعُ مِمَّن لا يُحسِنُ الأدَبَ مِنَ النَّاسِ كَثيرًا، مِثلُ أن يَقولَ له الشَّيخُ: أنتَ قُلتَ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما قُلتُ كَذا، ويَقولُ له الشَّيخُ: مُرادُك في سُؤالِك كَذا، أو: خَطَرَ لك كَذا، فيَقولُ: لا، أو: ما هذا مُرادي، أو: ما خَطَرَ لي هذا، وشِبهَ ذلك، بَل طَريقُه أن يَتَلَطَّفَ بالمُكاسَرةِ عَنِ الرَّدِّ على الشَّيخِ، وكذلك إذا استَفهَمَ الشَّيخُ استِفهامَ تَقريرٍ وجَزمٍ، كقَولِه: ألَم تَقُلْ كَذا، وأليس مُرادُك كَذا، فلا يُبادِرْ بالرَّدِّ عليه بقَولِه: لا، أو: ما هو مُرادي، بَل يَسكُتُ أو يورِّي عن ذلك بكَلامٍ لَطيفٍ يَفهَمُ الشَّيخُ قَصدَه مِنه، فإن لَم يَكُنْ بُدٌّ مِن تَحريِر قَصدِه وقَولِه، فليَقُلْ: فأنا الآنَ أقولُ كَذا، وأعودُ إلى قَصدِ كَذا، ويُعيدُ كَلامَه، ولا يَقُل: الذي قُلتَه، أوِ الذي قَصَدتَه؛ ليُضَمِّنَه الرَّدَّ عليه.
وكَذلك يَنبَغي أن يَقولَ في مَوضِعِ لِمَ؟ ولا نُسَلِّمُ: فإن قيلَ لَنا كَذا، أو: فإنْ منعنا ذلك، أو: فإن سُئِلنا عن كَذا، أو: فإن أُورِدَ كَذا، وشِبهَ ذلك؛ ليَكونَ مُستَفهِمًا للجَوابِ سائِلًا له بحُسنِ أدَبٍ ولُطفِ عِبارةٍ.
وإذا سَمِعَ الشَّيخَ يَذكُرُ حُكمًا في مَسألةٍ، أو فائِدةً مُستَغرَبةً، أو يَحكي حِكايةً أو يُنشِدُ شِعرًا وهو يَحفظُ ذلك؛ أصغى إليه إصغاءَ مُستَفيدٍ له في الحالِ، مُتَعَطِّشٍ إليه فَرِحٍ به، كَأنَّه لَم يَسمَعْه قَطُّ.
قال عَطاءٌ: إنِّي لأسمَعُ الحَديثَ مِنَ الرَّجُلِ وأنا أعلَمُ به مِنه، فأُريه مِن نَفسي أنِّي لا أُحسِنُ مِنه شَيئًا [1023] أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/311)، والخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (351)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (40/401) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ ابنِ عَساكِرَ: (إنِّي لأسمَعُ الحَديثَ مِنَ الرَّجُلِ أنا أعلَمُ به مِنه، فأُريه مِن نَفسي كأنِّي لا أُحسِنُ مِنه شَيئًا). .
وعنه قال: إنَّ الشَّابَّ ليَتَحَدَّثُ بحَديثٍ فأسمَعُ له كَأنِّي لَم أسمَعْه، ولَقد سَمِعتُه قَبلَ أن يولَدَ [1024] أخرجه الخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (352)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (40/401) باختلاف يسير،؛ ولفظ الخطيب: (إن الشاب ليتحدث بحديث فاستمع له كأني لم أسمع ولقد سمعته قبل أن يولد). .
ولا يَسبقِ الشَّيخَ إلى شَرحِ مسألةٍ أو جَوابِ سُؤالٍ مِنه أو مِن غَيرِه، ولا يُساوِقْه فيه، ولا يُظهِرْ مَعرِفتَه به أو إدراكَه له قَبلَ الشَّيخِ، فإن عَرَضَ الشَّيخُ عليه ذلك ابتِداءً والتَمَسَه مِنه فلا بَأسَ.
ويَنبَغي ألَّا يَقطَعَ على الشَّيخِ كَلامَه، أيَّ كَلامٍ كان، ولا يُسابقَه فيه ولا يُساوِقَه، بَل يَصبرُ حَتَّى يَفرُغَ الشَّيخُ من كَلامِه، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ، ولا يَتَحَدَّثْ مَعَ غَيرِه والشَّيخُ يَتَحَدَّثُ مَعَه أو مَعَ جَماعةِ المَجلِسِ.
وليَكُنْ ذِهنُه حاضِرًا في كُلِّ وقتٍ، بحَيثُ إذا أمَرَه بشَيءٍ أو سَألَه عن شَيءٍ أو أشارَ إليه، لَم يحوِجْه إلى إعادَتِه ثانيًا، بَل يُبادِرُ إليه مُسرِعًا، ولَم يُعاوِدْه فيه أو يَعتَرِضْ عليه بقَولِه: فإنْ لَم يَكُنِ الأمرُ كَذا.
وإذا ناولَه الشَّيخُ شَيئًا تَناوَله باليَمينِ، وإن ناولَه شَيئًا ناولَه باليَمينِ... وإذا ناولَ الشَّيخَ كِتابًا ناولَه إيَّاه مُهَيَّأً لفَتحِه والقِراءةِ فيه مِن غَيرِ احتياجٍ إلى إدارَتِه، فإن كان النَّظَرُ في مَوضِعٍ مُعَيَّنٍ فليَكُنْ مَفتوحًا كذلك، ويُعَيِّنُ له المَكانَ، ولا يَحذِفْ إليه الشَّيءَ حَذفًا مِن كِتابٍ أو ورَقةٍ أو غَيرِ ذلك. ولا يَمُدَّ يَدَيه إليه إذا كان بَعيدًا، ولا يُحوجِ الشَّيخَ إلى مَدِّ يَدِه أيضًا لأخذٍ مِنه أو عَطاءٍ، بَل يَقومُ إليه قائِمًا، ولا يَزحَفُ إليه زَحفًا، وإذا جَلَسَ بَينَ يَدَيه لذلك فلا يَقرُبْ مِنه قُربًا كَثيرًا يُنسَبُ فيه إلى سُوءِ أدَبٍ...
وقيلَ: أربَعةٌ لا يَأنَفُ الشَّريفُ مِنهنَّ وإن كان أميرًا: قيامُه مِن مَجلسِه لأبيه، وخِدمَتُه للعالِمِ يَتَعَلَّمُ مِنه، والسُّؤالُ عمَّا لا يَعلَمُ، وخِدمَتُه للضَّيفِ) [1025] يُنظر: ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 105-110). .

انظر أيضا: