موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: التجاوزُ عن المُعسِرِ


يُستحَبُّ التجاوزُ عن المعسرِ العاجزِ عن القضاءِ.
الدليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِن الكتابِ
قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280] .
(أي: إن كان الذي عَليه الدَّينُ مُعسِرًا لا يَجِدُ ما يَرُدُّ به حَقَّكُم -وهو رؤوسُ أموالِكُمُ التي أسلفتُموه إيَّاها دونَ زيادةٍ- فعَليكُم أن تُمهِلوه حتَّى يَتَيَسَّرَ له الوفاءُ به. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إنَّ تَصَدُّقَكُم على المَدينِ المُعسِرِ بالتَّنازُلِ والعَفوِ عَمَّا لكم عليه أو بإسقاطِ بَعضِه، خَيرٌ لكُم مِن إمهالِه حتَّى يَتَيَسَّرَ له القيامُ برَدِّه لكُم، فقوموا بذلك إذًا إن كُنتُم مِن ذَوي العِلمِ بفَضلِ الصَّدَقةِ، وما لصاحِبِها مِن ثَوابٍ عَظيمٍ) [1946] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (1/ 872، 873). .
ففي الآيةِ فضيلةُ الإبراءُ مِن الدَّينِ، وأنَّه صَدقةٌ؛ لقولِه تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ؛ والإبْراءُ سُنَّة، والإنظارُ واجبٌ، وهنا السُّنَّة أفضلُ من الواجب بنصِّ القرآن؛ لقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [1947] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/392). .
ب- مِن السُّنَّةِ:
وعن بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: مَن أنظَرَ مُعسِرًا فله بكُلِّ يَومٍ مِثلُه صَدَقةً، قال: ثُمَّ سَمِعتُه يَقولُ: مَن أنظَرَ مُعسِرًا فله بكُلِّ يَومٍ مِثلَيه صَدَقةً، قُلتُ: سَمِعتُك يا رَسولَ اللهِ تَقولُ: مَن أنظَرَ مُعسِرًا فله بكُلِّ يَومٍ مِثلُه صَدَقةً، ثُمَّ سَمِعتُك تَقولُ: مَن أنظَرَ مُعسِرًا فله بكُلِّ يَومٍ مِثلَيه صَدَقةً! قال: له بكُلِّ يَومٍ صَدَقةٌ قَبلَ أن يَحِلَّ الدَّينُ، فإذا حَلَّ الدَّينُ فأنظَرَه فله بكُلِّ يَومٍ مِثلَيه صَدَقةً)) [1948] أخرجه مِن طُرُقٍ: ابنُ ماجه (2418) مُختَصَرًا، وأحمد (23046) واللَّفظُ له. صحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (2259) وقال: على شرطِ الشَّيخينِ، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2418)، وصحَّح إسنادَه الذهبي في ((المهذب)) (4/2128)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/32). .
وفي رِوايةٍ: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن أنظَرَ مُعسِرًا كان له بكُلِّ يَومٍ صَدَقةٌ. ثُمَّ قال بَعدَ ذلك: مَن أنظَرَ مُعسِرًا كان له بكُلِّ يَومٍ مِثلُ الذي أنظَرَه صَدَقةً. قال بُرَيدةُ: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلتَ مَرَّةً: مَن أنظَرَ مُعسِرًا كان له بكُلِّ يَومٍ صَدَقةٌ، ثُمَّ قُلتَ بَعدَ ذلك: مَن أنظَرَ مُعسِرًا كان له بكُلِّ يَومٍ مِثلُ الذي أنظَرَه! قال: إنَّ قَولي: بكُلِّ يَومٍ صَدَقةٌ، قَبلَ الأجَلِ، وبكُلِّ يَومٍ مِثلُ الذي أنظَرَ، بَعدَ الأجَلِ)) [1949] أخرجه أبو يعلى في ((المعجم)) (251)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/214). صحَّح سنَدَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/32). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ أبي قَتادةَ، أنَّ أبا قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه طَلبَ غَريمًا له، فتَوارى عنه ثُمَّ وجَدَه، فقال: إنِّي مُعسِرٌ، فقال: آللَّهِ؟ قال: آللَّهِ؟ قال: فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن سَرَّه أن يُنجيَه اللهُ مِن كُرَبِ يَومِ القيامةِ فليُنَفِّسْ عن مُعسِرٍ أو يَضَعْ عنه)) [1950] أخرجه مسلم (1563). .
وعن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن نَفَّسَ عن غَريمِه أو مَحا عنه، كان في ظِلِّ العَرشِ يَومَ القيامةِ)) [1951] أخرجه أحمد (22559)، والدارمي (2589)، وابن أبي شيبة (22613). حسنه البغوي في ((شرح السنة)) (4/349)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/337)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22559). وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6576). .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وَضَع له، أظَلَّه اللهُ يَومَ القيامةِ تَحتَ ظِلِّ عَرشِه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه)) [1952] أخرجه الترمذي (1306) واللفظ له، وأحمد (8711) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1306)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1461)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (1373)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الذهبي في ((العلو)) (108): إسناده صالح. .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كان تاجِرٌ يُدايِنُ النَّاسَ، فإذا رَأى مُعسِرًا قال لفِتيانِه: تَجاوَزوا عنه؛ لعَلَّ اللَّهَ أن يَتَجاوزَ عنَّا، فتَجاوزَ اللَّهُ عنه)) [1953] أخرجه البخاري (2078) واللفظ له، ومسلم (1562) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وفي حَديثٍ آخَرَ: ((رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّه، فقال: ما عَمِلتَ؟ قال: ما عَمِلتُ مِنَ الخَيرِ إلَّا أنِّي كُنتُ رَجُلا ذا مالٍ، فكُنتُ أُطالبُ به النَّاسَ، فكُنتُ أقبَلُ المَيسورَ، وأتَجاوزُ عنِ المَعسورِ، فقال: تَجاوَزوا عن عَبدي)) [1954] أخرجه مسلم (1560) من حديثِ حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنه مَوقوفًا، وأبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه مَرفوعًا. .
وفي رِوايةٍ: ((أُتيَ اللهُ بعبدٍ من عبادِه آتاه اللهُ مالًا، فقال له: ماذا عَمِلتَ في الدُّنيا؟ -قال: ولا يكتُمون اللهَ حديثًا- قال: يا رَبِّ آتيتني مالَك، فكُنتُ أبايِعُ النَّاسَ، وكان من خُلُقي الجوازُ، فكنتُ أتيسَّرُ على الموسِرِ، وأُنظِرُ المُعسِرَ. فقال اللَّهُ: أنا أحَقُّ بذا منك؛ تجاوَزوا عن عبدي)) [1955] أخرجها مُسلم (1560) من حديثِ حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنه مَوقوفًا، وعُقبةَ بنِ عامِرٍ وأبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما مَرفوعًا. .
وفي أُخرى: ((إنَّ رجلًا كان فيمن كان قبلَكم، أتاه المَلَكُ ليَقبِضَ رُوحَه، فقيل له: هل عَمِلتَ من خيرٍ؟ قال: ما أعلَمُ، قيل له: انظُرْ، قال: ما أعلَمُ شيئًا غيرَ أنِّي كنتُ أبايِعُ النَّاسَ في الدُّنيا وأجازيهم، فأُنظِرُ الموسِرَ، وأتجاوَزُ عن المُعسِرِ؛ فأدخَلَه اللهُ الجنَّةَ)) [1956] أخرجها البخاري (3451). .
ففي هذه الأحاديثِ فَضلُ إنظارِ المُعسِرِ والوَضعِ عنه إمَّا كُلَّ الدَّينِ، وإمَّا بعضَه من كثيرٍ أو قليلٍ، وفضلُ المسامحةِ في الاقتضاءِ وفي الاستيفاءِ، سواءٌ استُوفيَ من موسرٍ أو مُعسِرٍ، وفَضلُ الوَضعِ من الدَّينِ، وأنَّه لا يُحتَقَرُ شيءٌ من أفعالِ الخيرِ؛ فلعلَّه سببُ السَّعادةِ والرَّحمةِ [1957] ((شرح مسلم)) للنووي (10/ 224). .

انظر أيضا: