ثانيًا: العِلمُ والفِقهُ
لا بُدَّ لمَن يَأمُرُ بالمَعروفِ ويَنهى عنِ المُنكَرِ مِنَ العِلمِ بمَواقِعِ الحِسبةِ وحُدودِها ومَجاريها ومَوانِعها؛ ليَقتَصِرَ على حَدِّ الشَّرعِ، وإذا كان جاهلًا غَيرَ فَقيهٍ بالمَصالِحِ والمَفاسِدِ ضَرَّ مِن حَيثُ رامَ نَفعًا، وأفسَدَ مِن حَيثُ أرادَ إصلاحًا
[2101] قال الغَزاليُّ: (لا يُشتَرَطُ أن يَكونَ فقيهًا مُطلَقًا، بَل فيما يَأمُرُ به ويَنهى عنه). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 333). وقال السَّمَرقَنديُّ: (الذي يَأمُرُ بالمَعروفِ يَحتاجُ إلى خَمسةِ أشياءَ:) ذكَر منها: (العِلم؛ لأنَّ الجاهِلَ لا يُحسِنُ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ). ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 99). وقال ابنُ مُفلحٍ: (يَنبَغي أن يَكونَ الآمِرُ بالمَعروفِ والنَّاهي عنِ المُنكَرِ ... عَدلًا فقيهًا، عالِمًا بالمَأموراتِ والمَنهيَّاتِ شَرعًا). ((الآداب الشرعية)) (1/ 191). .
فوائِدُ:فقهُ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ1- قال ابنُ تَيميَّةَ: (قيل: ليَكُنْ أمرُك بالمَعروفِ بالمَعروفِ ونَهيُك عنِ المُنكَرِ غَيرَ مُنكَرٍ. وإذا كان هو مِن أعظَمِ الواجِباتِ والمُستَحَبَّاتِ فالواجِباتُ والمُستَحَبَّاتُ لا بُدَّ أن تَكونَ المَصلَحةُ فيها راجِحةً على المَفسَدةِ؛ إذ بهذا بُعِثَتِ الرُّسُلُ ونَزَلتِ الكُتُبُ، واللهُ لا يُحِبُّ الفسادَ، بَل كُلُّ ما أمَرَ اللَّهُ به فهو صَلاحٌ، وقد أثنى اللَّهُ على الصَّلاحِ والمُصلِحينَ والذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وذَمَّ المُفسِدينَ في غَيرِ مَوضِعٍ؛ فحَيثُ كانت مَفسَدةُ الأمرِ والنَّهيِ أعظَمَ مِن مَصلحَتِه لم تَكُنْ مِمَّا أمَرَ اللهُ به، وإن كان قد تُرِكَ واجِبٌ وفُعِل مُحَرَّمٌ؛ إذِ المُؤمِنُ عليه أن يَتَّقيَ اللَّهَ في عِبادِه، وليسَ عليه هداهم، وهذا مَعنى قَولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] ، والاهتِداءُ إنَّما يَتِمُّ بأداءِ الواجِبِ، فإذا قامَ المُسلمُ بما يَجِبُ عليه مِنَ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ كما قامَ بغَيرِه مِنَ الواجِباتِ لم يَضُرَّه ضَلالُ الضُّلَّالِ. وذلك يَكونُ تارةً بالقَلبِ، وتارةً باللِّسانِ، وتارةً باليَدِ. فأمَّا القَلبُ فيَجِبُ بكُلِّ حالٍ؛ إذ لا ضَرَرَ في فِعلِه، ومَن لم يَفعَلْه فليسَ هو بمُؤمِنٍ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وذلك أدنى - أو -أضعَفُ- الإيمانِ»
[2102] لفظُه: ((مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا فليُغَيِّرْه بيَدِه، فإن لم يَستَطِعْ فبلسانِه، فإن لم يَستَطِعْ فبقَلبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ)) أخرجه مسلم (49) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه.. ، وقال: «ليسَ وراءَ ذلك مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ»
[2103] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن نَبيٍّ بَعَثَه اللهُ في أُمَّةٍ قَبلي إلَّا كان له مِن أُمَّتِه حَواريُّونَ وأصحابٌ يَأخُذونَ بسُنَّتِه ويَقتَدونَ بأمرِه، ثُمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بَعدِهم خُلوفٌ يَقولونَ ما لا يَفعَلونَ، ويَفعَلونَ ما لا يُؤمَرونَ، فمَن جاهَدَهم بيَدِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدَهم بلسانِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدَهم بقَلبِه فهو مُؤمِنٌ، وليسَ وراءَ ذلك مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ)) أخرجه مسلم (50). .
وقيل لابنِ مَسعودٍ: مَن مَيِّتُ الأحياءِ؟ فقال: الذي لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا.
وهذا هو المَفتونُ المَوصوفُ في حَديثِ حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ
[2104] لفظُه: عن حُذَيفةَ: أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أيُّكُم يَحفظُ قَولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الفِتنةِ؟ فقال حُذَيفةُ: أنا أحفظُ كَما قال، قال: هاتِ، إنَّكَ لجَريءٌ! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فِتنةُ الرَّجُلِ في أهلِه ومالِه وجارِه تُكَفِّرُها الصَّلاةُ، والصَّدَقةُ، والأمرُ بالمَعروفِ، والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ، قال: ليسَت هذه، ولكِنَّ التي تَموجُ كَمَوجِ البَحرِ، قال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لا بَأسَ عليكَ مِنها، إنَّ بَينَكَ وبَينَها بابًا مُغلقًا، قال: يُفتَحُ البابُ أو يُكسَرُ؟ قال: لا، بَل يُكسَرُ، قال: ذاكَ أحرى ألَّا يُغلَقَ)). أخرجه البخاري (3586) واللَّفظُ له، ومسلم (144). .
وهنا يَغلَطُ فريقانِ مِنَ النَّاسِ: فريقٌ يَترُكُ ما يَجِبُ مِنَ الأمرِ والنَّهيِ تَأويلًا لهذه الآيةِ، كما قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه في خُطبَتِه: إنَّكُم تَقرَؤونَ هذه الآيةَ
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائِدة: 105] ، وإنَّكُم تَضَعونَها في غَيرِ مَوضِعِها، وإنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «إنَّ النَّاسَ إذا رَأوا المُنكَرَ فلم يُغَيِّروه أوشَكَ أن يَعُمَّهمُ اللهُ بعِقابٍ مِنه»
[2105] أخرجه ابنُ ماجه (4005)، وأحمد (1) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ الإمامِ أحمَدَ: عن قَيسٍ، قال: ((قامَ أبو بَكرٍ فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكُم تَقرؤونَ هذه الآيةَ: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] ، وإنَّا سَمِعنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: إنَّ النَّاسَ إذا رَأوُا المُنكَرَ فلم يُغَيِّروه أوشَكَ أن يَعُمَّهمُ اللهُ بعِقابِه)). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (305)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/353)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4005). .
والفريقُ الثَّاني: مَن يُريدُ أن يَأمُرَ ويَنهى إمَّا بلسانِه وإمَّا بيَدِه مُطلقًا؛ مِن غَيرِ فِقهٍ وحِلمٍ وصَبرٍ، ونَظَرٍ فيما يَصلُحُ مِن ذلك وما لا يَصلُحُ، وما يَقدِرُ عليه وما لا يَقدِرُ...
وجِماعُ ذلك داخِلٌ في القاعِدةِ العامَّةِ: فيما إذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ والمَفاسِدُ والحَسَناتُ والسَّيِّئاتُ أو تَزاحَمَت، فإنَّه يَجِبُ تَرجيحُ الرَّاجِحِ مِنها فيما إذا ازدَحَمَتِ المَصالحُ والمَفاسِدُ، وتَعارَضَتِ المَصالحُ والمَفاسِد. فإنَّ الأمرَ والنَّهيَ وإن كان مُتَضَمِّنًا لتَحصيلِ مَصلَحةٍ ودَفعِ مَفسَدةٍ فيُنظَرُ في المُعارِضِ له؛ فإن كان الذي يَفوتُ مِنَ المَصالِحِ أو يَحصُلُ مِنَ المَفاسِدِ أكثَرَ لم يَكُنْ مَأمورًا به، بَل يَكونُ مُحَرَّمًا إذا كانت مَفسَدَتُه أكثَرَ مِن مَصلحَتِه، لكِنَّ اعتِبارَ مَقاديرِ المَصالِحِ والمَفاسِدِ هو بميزانِ الشَّريعةِ، فمَتى قدَرَ الإنسانُ على اتِّباعِ النُّصوصِ لم يَعدِلْ عنها، وإلَّا اجتَهَدَ برَأيِه لمعرِفةِ الأشباهِ والنَّظائِرِ، وقَلَّ أن تُعوِزَ النُّصوصُ مَن يَكونُ خَبيرًا بها وبدَلالتِها على الأحكامِ. وعلى هذا إذا كان الشَّخصُ أوِ الطَّائِفةُ جامِعينَ بَينَ مَعروفٍ ومُنكَرٍ بحَيثُ لا يُفرِّقونَ بَينَهما، بَل إمَّا أن يَفعَلوهما جَميعًا أو يَترُكوهما جَميعًا؛ لم يَجُزْ أن يُؤمَروا بمَعروفٍ ولا أن يُنهَوا مِن مُنكَرٍ؛ يُنظَرُ: فإن كان المَعروفُ أكثَرَ أَمَر به وإنِ استَلزَمَ ما هو دونَه مِنَ المُنكَرِ، ولم يَنهَ عن مُنكَرٍ يَستَلزِمُ تَفويتَ مَعروفٍ أعظَمَ مِنه، بَل يَكونُ النَّهيُ حينَئِذٍ مِن بابِ الصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ والسَّعيِ في زَوالِ طاعَتِه وطاعةِ رَسولِه، وزَوالِ فِعلِ الحَسَناتِ، وإن كان المُنكَرُ أغلَبَ نَهى عنه وإنِ استَلزَمَ فواتَ ما هو دونَه مِنَ المَعروفِ. ويَكونُ الأمرُ بذلك المَعروفِ المُستَلزِمِ للمُنكَرِ الزَّائِدِ عليه أمرًا بمُنكَرٍ وسَعيًا في مَعصيةِ اللهِ ورَسولِه. وإن تَكافأ المَعروفُ والمُنكَرُ المُتَلازِمانِ لم يُؤمَرْ بهما ولم يُنهَ عنهما؛ فتارةً يَصلُحُ الأمرُ، وتارةً يَصلُحُ النَّهيُ، وتارةً لا يَصلُحُ لا أمرٌ ولا نَهيٌ؛ حَيثُ كان المَعروفُ والمُنكَرُ مُتَلازِمَينِ، وذلك في الأُمورِ المُعَيَّنةِ الواقِعةِ.
وأمَّا مِن جِهةِ النَّوعِ فيُؤمَرُ بالمَعروفِ مُطلَقًا ويُنهى عنِ المُنكَرِ مُطلقًا. وفي الفاعِلِ الواحِدِ والطَّائِفةِ الواحِدةِ يُؤمَرُ بمَعروفِها ويُنهى عن مُنكَرِها، ويُحمَدُ محمودُها ويُذَمُّ مذمومُها؛ بحَيثُ لا يَتَضَمَّنُ الأمرُ بمَعروفٍ فواتَ أكثَرَ مِنه أو حُصولَ مُنكَرٍ فوقَه، ولا يَتَضَمَّنُ النَّهيُ عنِ المُنكَرِ حُصولَ أنكَرَ مِنه أو فواتَ مَعروفٍ أرجَحَ مِنه. وإذا اشتَبَهَ الأمرُ استَبانَ المُؤمِنُ حتَّى يَتَبَيَّنَ له الحَقُّ؛ فلا يُقدِمُ على الطَّاعةِ إلَّا بعِلمٍ ونيَّةٍ، وإذا تَرَكَها كان عاصيًا، فتَركُ الأمرِ الواجِبِ مَعصيةٌ، وفِعلُ ما نُهيَ عنه مِنَ الأمرِ مَعصيةٌ. وهذا بابٌ واسِعٌ، ومِن هذا البابِ إقرارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ وأمثالِه مِن أئِمَّةِ النِّفاقِ والفُجورِ لِما لهم مِن أعوانٍ؛ فإزالةُ مُنكَرِه بنَوعٍ مِن عِقابِه مُستَلزِمةٌ إزالةَ مَعروفٍ أكثَرَ مِن ذلك بغَضَبِ قَومِه وحَميَّتِهم، وبنُفورِ النَّاسِ إذا سَمِعوا أنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه
[2106] لفظه: عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كُنَّا في غَزاةٍ -قال سُفيانُ: مَرَّةً في جَيشٍ- فكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرينَ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المُهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرينَ، فسَمِعَ ذلك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما بالُ دَعوى الجاهليَّةِ؟! قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرينَ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ، فقال: دَعوها فإنَّها مُنتِنةٌ! فسَمِعَ بذلك عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، فقال: فعَلوها، أما واللهِ لئِن رَجَعنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ، فبَلغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقامَ عُمَرُ فقال: يا رَسولَ اللهِ: دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْه، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه! وكانتِ الأنصارُ أكثَرَ مِنَ المُهاجِرينَ حينَ قدِموا المَدينةَ، ثُمَّ إنَّ المُهاجِرينَ كَثُروا بَعدُ)) أخرجه البخاري (4905) واللَّفظُ له، ومسلم (2506). .
الآمِرُ بالمَعروفِ والنَّاهي عنِ المُنكَرِ... لا يَكونُ عَمَلُه صالِحًا إن لم يَكُنْ بعِلمٍ وفِقهٍ، وكما قال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ: مَن عَبدَ اللَّهَ بغَيرِ عِلمٍ كان ما يُفسِدُ أكثَرَ مِمَّا يُصلِحُ. وكما في حَديثِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه: العِلمُ إمامُ العَمَلِ، والعَمَلُ تابِعُه. وهذا ظاهِرٌ؛ فإنَّ القَصدَ والعَمَلَ إن لم يَكُنْ بعِلمٍ كان جَهلًا وضَلالًا واتِّباعًا للهَوى، وهذا هو الفَرقُ بَينَ أهلِ الجاهليَّةِ وأهلِ الإسلامِ.
فلا بُدَّ مِنَ العِلمِ بالمَعروفِ والمُنكَرِ والتَّمييزِ بَينَهما. ولا بُدَّ مِنَ العِلمِ بحالِ المَأمورِ والمَنهيِّ... ولا بُدَّ في ذلك مِنَ الرِّفقِ... ولا بُدَّ أيضًا أن يَكونَ حَليمًا صَبورًا على الأذى؛ فإنَّه لا بُدَّ أن يَحصُلَ له أذًى، فإنْ لم يَحلُمْ ويَصبِرْ كان ما يُفسِدُ أكثَرَ مِمَّا يُصلِحُ...
فلا بُدَّ مِن هذه الثَّلاثةِ: العِلمُ، والرِّفقُ، والصَّبرُ؛ العِلمُ قَبلَ الأمرِ والنَّهيِ، والرِّفقُ مَعَه، والصَّبرُ بَعدَه، وإن كان كُلٌّ مِنَ الثَّلاثةِ مُستَصحَبًا في هذه الأحوالِ.
وليُعلَمْ أنَّ الأمرَ بهذه الخِصالِ في الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ مِمَّا يوجِبُ صُعوبةً على كَثيرٍ مِنَ النُّفوسِ، فيَظُنُّ أنَّه بذلك يَسقُطُ عنه فيَدَعُه، وذلك مِمَّا يَضُرُّه أكثَرَ مِمَّا يَضُرُّه الأمرُ بدونِ هذه الخِصالِ أو أقَلَّ؛ فإنَّ تَرْكَ الأمرِ الواجِبِ مَعصيةٌ، فالمُنتَقِلُ مِن مَعصيةٍ إلى مَعصيةٍ أكبَرَ مِنها كالمُستَجيرِ مِنَ الرَّمضاءِ بالنَّارِ، والمُنتَقِلُ مِن مَعصيةٍ إلى مَعصيةٍ كالمُنتَقِلِ مِن دينٍ باطِلٍ إلى دينٍ باطِلٍ، وقد يَكونُ الثَّاني شَرًّا مِنَ الأوَّلِ، وقد يَكونُ دونَه، وقد يَكونانِ سَواءً، فهكذا تَجِدُ المُقَصِّرَ في الأمرِ والنَّهيِ والمُعتَديَ فيه قد يَكونُ ذَنبُ هذا أعظَمَ، وقد يَكونُ ذَنبُ هذا أعظَمَ، وقد يَكونانِ سَواءً)
[2107] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 126-131، 135-138). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرع لأُمَّتِه إيجابَ إنكارِ المُنكَرِ ليَحصُلَ بإنكارِه مِنَ المَعروفِ ما يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه، فإذا كان إنكارُ المُنكَرِ يَستَلزِمُ ما هو أنكَرُ مِنه وأبغَضُ إلى اللهِ ورَسولِه، فإنَّه لا يَسوغُ إنكارُه، وإن كان اللَّهُ يُبغِضُه ويَمقُتُ أهلَه، وهذا كالإنكارِ على المُلوكِ والوُلاةِ بالخُروجِ عليهم؛ فإنَّه أساسُ كُلِّ شَرٍّ وفِتنةٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ، ... قال: «مَن رَأى مِن أميرِه ما يَكرَهُه فليَصبِرْ ولا يَنزِعَنَّ يَدًا مِن طاعَتِه»
[2108] أخرجه مسلم (1855) باختلافٍ يسيرٍ، بلفظِ: عن عَوفِ بنِ مالكٍ الأشجَعيِّ يَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((خيارُ أئِمَّتِكُمُ الذينَ تُحِبُّونَهم ويُحِبُّونَكُم، وتُصَلُّونَ عليهم ويُصَلُّونَ عليكُم، وشِرارُ أئِمَّتِكُمُ الذينَ تُبغِضونَهم ويُبغِضونَكُم، وتَلعنونَهم ويَلعنونَكُم، قالوا: قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، أفلا نُنابذُهم عِندَ ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكُمُ الصَّلاةَ، لا، ما أقاموا فيكُمُ الصَّلاةَ، ألَا مَن وليَ عليه والٍ، فرَآه يَأتي شَيئًا مِن مَعصيةِ اللهِ، فليَكرَهْ ما يَأتي مِن مَعصيةِ اللهِ، ولا يَنزِعَنَّ يَدًا مِن طاعةٍ)). وأخرجه البخاري (7143)، ومسلم (1849) بنحوِه، ولفظُ البخاريِّ: عن ابنِ عبَّاسٍ يَرويه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن رَأى مِن أميرِه شَيئًا فكَرِهَه فليَصبِرْ؛ فإنَّه ليسَ أحَدٌ يُفارِقُ الجَماعةَ شِبرًا فيَموتُ، إلَّا ماتَ مِيتةً جاهليَّةً)). ، ومَن تَأمَّل ما جَرى على الإسلامِ في الفِتَنِ الكِبارِ والصِّغارِ رَآها مِن إضاعةِ هذا الأصلِ وعَدَمِ الصَّبرِ على مُنكَرٍ، فطَلَب إزالتَه فتولَّدَ مِنه ما هو أكبَرُ مِنه؛ فقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرى بمَكَّةَ أكبَرَ المُنكَراتِ ولا يَستَطيعُ تَغييرَها، بَل لمَّا فتَحَ اللهُ مَكَّةَ وصارَت دارَ إسلامٍ عَزم على تَغييرِ البَيتِ ورَدِّه على قَواعِدِ إبراهيمَ، ومَنعَه مِن ذلك -مَعَ قُدرَتِه عليه- خَشيةُ وُقوعِ ما هو أعظَمُ مِنه مِن عَدَمِ احتِمالِ قُرَيشٍ لذلك؛ لقُربِ عَهدِهم بالإسلامِ، وكَونِهم حَديثي عَهدٍ بكُفرٍ
[2109] لفظُه: عنِ الأسوَدِ قال: ((قال لي ابنُ الزُّبَيرِ: كانت عائِشةُ تُسِرُّ إليكَ كَثيرًا، فما حَدَّثَتكَ في الكَعبةِ؟ قُلتُ: قالت لي: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عائِشةُ، لولا قَومُكِ حَديثٌ عَهدُهم -قال ابنُ الزُّبَيرِ:- بكُفرٍ، لنَقَضتُ الكَعبةَ فجَعَلتُ لها بابَينِ: بابٌ يَدخُلُ النَّاسُ، وبابٌ يَخرُجونَ، ففعَله ابنُ الزُّبَيرِ)). أخرجه البخاري (126) واللَّفظُ له، ومسلم (1333). وفي لفظٍ: عن عائِشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألم تَرَي أنَّ قَومَكِ حينَ بَنَوا الكَعبةَ اقتَصَروا عن قَواعِدِ إبراهيمَ، قالت: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا تَرُدُّها على قَواعِدِ إبراهيمَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لولا حِدْثانُ قَومِكِ بالكُفرِ لفعَلتُ. فقال عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: لئِن كانت عائِشةُ سَمِعَتْ هذا مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما أُرى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ استِلامَ الرُّكنَينِ اللَّذَينِ يَليانِ الحِجْرَ، إلَّا أنَّ البَيتَ لم يُتَمَّمْ على قَواعِدِ إبراهيمَ)). أخرجه البخاري (1583)، ومسلم (1333) واللَّفظُ له. ؛ ولهذا لم يَأذَنْ في الإنكارِ على الأُمَراءِ باليَدِ؛ لِما يَتَرَتَّبُ عليه مِن وُقوعِ ما هو أعظَمُ مِنه، كما وُجِدَ سَواءً.
فإنكارُ المُنكَرِ أربَعُ دَرَجاتٍ؛ الأولى: أن يَزولَ ويَخلُفَه ضِدُّه، الثَّانيةُ: أن يَقِلَّ وإن لم يَزُلْ بجُملتِه، الثَّالثةُ: أن يَخلُفَه ما هو مِثلُه، الرَّابعةُ: أن يَخلُفَه ما هو شَرٌّ مِنه؛ فالدَّرَجَتانِ الأوليانِ مَشروعَتانِ، والثَّالثةُ مَوضِعُ اجتِهادٍ، والرَّابعةُ مُحَرَّمةٌ؛ فإذا رَأيتَ أهلَ الفُجورِ والفُسوقِ يَلعَبونَ بالشِّطرَنجِ كان إنكارُك عليهم مِن عَدَمِ الفِقهِ والبَصيرةِ، إلَّا إذا نَقَلتَهم مِنه إلى ما هو أحَبُّ إلى اللهِ ورَسولِه، كرَميِ النُّشَّابِ وسِباقِ الخَيلِ ونَحوِ ذلك، وإذا رَأيتَ الفُسَّاقَ قدِ اجتَمَعوا على لهوٍ ولَعِبٍ أو سَماعِ مُكاءٍ وتَصديةٍ فإن نَقلتَهم عنه إلى طاعةِ اللهِ فهو المُرادُ، وإلَّا كان تَركُهم على ذلك خَيرًا مِن أن تُفَرِّغَهم لِما هو أعظَمُ مِن ذلك، فكان ما هم فيه شاغِلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرَّجُلُ مُشتَغِلًا بكُتُبِ المُجونِ ونَحوِها وخِفتَ مِن نَقلِه عنها انتِقالَه إلى كُتُبِ البِدَعِ والضَّلالِ والسِّحرِ، فدَعْه وكُتُبَه الأُولى، وهذا بابٌ واسِعٌ.
وسَمِعتُ شَيخَ الإسلامِ ابنَ تَيميَّةَ قدَّسَ اللهُ رُوحَه ونوَّرَ ضَريحَه يَقولُ: مَرَرتُ أنا وبَعضُ أصحابي في زَمَنِ التَّتارِ بقَومٍ مِنهم يَشرَبونَ الخَمرَ، فأنكَرَ عليهم مَن كان مَعي، فأنكَرتُ عليه، وقُلتُ له: إنَّما حَرَّمَ اللهُ الخَمرَ لأنَّها تَصُدُّ عن ذِكرِ اللهِ وعنِ الصَّلاةِ، وهؤلاء يَصُدُّهمُ الخَمرُ عن قَتلِ النُّفوسِ وسَبيِ الذُّرِّيَّةِ وأخذِ الأموالِ؛ فدَعْهم)
[2110] ((إعلام الموقعين)) (3/ 12، 13). وروى أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 41) عن داود، عن أبيه، قال: (كُنتُ مَعَ سُفيانَ الثَّوريِّ فمَرَرنا بشُرطيٍّ نائِمٍ وقد حانَ وقتُ الصَّلاةِ، فذَهَبتُ أُحَرِّكُه، فصاحَ سُفيانُ: مَهْ! فقُلتُ: يا أبا عَبدِ اللَّهِ، يُصَلِّي! فقال: دَعْه، لا صَلَّى اللهُ عليه، فما استَراحَ النَّاسُ حتَّى نامَ هذا). .
تَلبيسُ الشيطانِ على مَن يأمرُ بالمَعروفِ وينهى عنِ المُنكَرِقال ابنُ الجَوزيِّ في ذِكرِ تَلبيسِ إبليسَ على الآمِرينَ بالمَعروفِ والنَّاهينَ عنِ المُنكَرِ: (هم قِسمانِ: عالِمٌ وجاهِلٌ؛ فدُخولُ إبليسَ على العالِمِ مِن طَريقَينِ:
الطَّريقُ الأوَّلُ: التَّزَيُّنُ بذلك وطَلَبُ الذِّكرِ، والعُجبُ بذلك الفِعلِ، رُوِّينا بإِسنادٍ عن أحمَدَ بنِ أبي الحَواريِّ، قال: سَمِعتُ أبا سَلمانَ يَقولُ: سَمِعتُ أبا جَعفرٍ المَنصورَ يَبكي في خُطبَتِه يَومَ الجُمُعةِ، فاستَقبَلَني الغَضَبُ وحَضَرَتني نيَّةُ أن أقومَ فأَعِظَه بما أعرِفُ مِن فِعلِه إذا نَزَلَ، قال: فكَرِهتُ أن أقومَ إلى خَليفةٍ فأَعِظَه والنَّاسُ جُلوسٌ يَرمُقونَني بأَبصارِهم، فيَعرِضَ لي تَزَيُّنٌ، فيَأمُرَ بي فأُقتَلَ على غَيرِ صَحيحٍ، فجَلَستُ وسَكَتُّ.
والطَّريقُ الثَّاني: الغَضَبُ للنَّفسِ، ورُبَّما كان ابتِداءً، ورُبَّما عَرَضَ في حالةِ الآمِرِ بالمَعروفِ لأَجلِ ما يَلقى به المُنكَرَ مِنَ الإهانةِ، فتَصيرُ خُصومةً لنَفسِه، كَما قال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ لرَجُلٍ: لَولا أنِّي غَضبانُ لعاقَبتُك! وإنَّما أرادَ أنَّك أغضَبتَني فخِفتُ أن تَمتَزِجَ العُقوبةُ مِن غَضَبٍ للهِ ولي.
فأَمَّا إذا كان الآمِرُ بالمَعروفِ جاهلًا فإنَّ الشَّيطانَ يَتَلاعَبُ به، وإنَّما كان إفسادُه في أمرِه أكثَرَ مِن إصلاحِه؛ لأنَّه رُبَّما نَهى عن شَيءٍ جائِزٍ بالإجماعِ، ورُبَّما أنكَرَ ما تَأَوَّلَ فيه صاحِبُه وتَبِعَ فيه بَعضَ المَذاهبِ، ورُبَّما كَسَرَ البابَ وتَسَوَّر الحِيطانَ وضَرَبَ أهلَ المُنكَرِ وقَذَفَهم، فإن أجابوه بكَلِمةٍ تَصعُبُ عليه صارَ غَضَبُه لنَفسِه، ورُبَّما كَشَف ما قد أمَرَ الشَّرعُ بسَترِه)
[2111] ((تلبيس إبليس)) (ص: 132). .
الإنكارُ في مَسائِلِ الخِلافِ والاجتِهادِالخِلافُ نَوعانِ: خِلافٌ سائِغٌ مُعتَبَرٌ وله حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، وخِلافٌ غَيرُ سائِغٍ وغَيرُ مُعتَبَرٍ ولا حَظَّ له مِنَ النَّظَرِ.
والخِلافُ السَّائِغُ دَرَجاتٌ، كَما أنَّ غَيرَ السَّائِغِ كذلك دَرَجاتٌ أو دَرَكاتٌ.
فما كان مِنَ المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ التي لا دَليلَ عليها مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ، أو كانت أدِلَّتُها مُتَكافِئةً لدى الطَّرَفينِ، وتَجاذَبها دَليلانِ شَرعيَّانِ صحيحانِ يَتَعَذَّرُ الجَزمُ بصَوابِ أحَدِهما؛ فهذه مِن مَسائِلِ الخِلافِ المُعتَبَرِ، وتَسميَتُها بالمَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ أَولى مِن تَسميَتِها بالمَسائِلِ الخِلافيَّةِ؛ للتَّمييزِ بَينَهما؛ فكُلُّ مَسألةٍ اجتِهاديَّةٍ هيَ مَسألةٌ خِلافيَّةٌ، وليسَ كُلُّ مَسألةٍ خِلافيَّةٍ هيَ مَسألةً اجتِهاديَّةً. فإذا قيل: المَسألةُ فيها خِلافٌ، يُقالُ: هَل هو خِلافٌ سائِغٌ مُعتَبَرٌ أم لا؟ وهَل هو خِلافٌ اجتِهاديٌّ بلا نَصٍّ مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ، أم خِلافٌ مَعَ النَّصِّ؟
قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّما دَخَل هذا اللَّبسُ مِن جِهةِ أنَّ القائِلَ يَعتَقِدُ أنَّ مَسائِلَ الخِلافِ هيَ مَسائِلُ الاجتِهادِ، كَما اعتَقدَ ذلك طَوائِفُ مِنَ النَّاسِ. والصَّوابُ الذي عليه الأئِمَّةُ: أنَّ مَسائِلَ الاجتِهادِ ما لم يَكُنْ فيها دَليلٌ يَجِبُ العَمَلُ به وُجوبًا ظاهرًا، مِثلُ حَديثٍ صحيحٍ لا مُعارِضَ له مِن جِنسِه، فيَسوغُ -إذا عُدِم ذلك فيها- الاجتِهادُ؛ لتَعارُضِ الأدِلَّةِ المُتَقارِبةِ، أو لخَفاءِ الأدِلَّةِ فيها)
[2112] ((الفتاوى الكبرى)) (6/96). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (لو أنَّنا قُلنا: المَسائِلُ الخِلافيَّةُ لا يُنكَرُ فيها على الإطلاقِ، لذَهَبَ الدِّينُ كُلُّه حينَ تَتبُّعِ الرُّخَصِ؛ لأنَّك لا تَكادُ تَجِدُ مَسألةً إلَّا وفيها خِلافٌ)
[2113] ((لقاء الباب المفتوح)) (49/192). .
وقد بَيَّنَ ابنُ تيميَّةَ الفرقَ بَينَ مَسائِلِ الخِلافِ ومَسائِلِ الاجتِهادِ، ومَتى يَجِبُ الإنكارُ فيها ومَتى لا يَجوزُ، بقَولِه: (إذا كان القَولُ يُخالفُ سُنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجَبَ إنكارُه وِفاقًا، ... وأمَّا العَمَلُ فإذا كان على خِلافِ سُنَّةٍ أو إجماعٍ وجَبَ إنكارُه أيضًا بحَسَبِ دَرَجاتِ الإنكارِ... أمَّا إذا لم يَكُنْ في المَسألةِ سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، وللاجتِهادِ فيها مَساغٌ، لم يُنكَرْ على مَن عَمِل بها مُجتَهِدًا أو مُقَلِّدًا)
[2114] ((الفتاوى الكبرى)) (6/96). .
وقال عن مَسائِلِ الاجتِهادِ أيضًا لا الخِلافِ: (مَسائِلُ الاجتِهادِ مَن عَمِل فيها بقَولِ بَعضِ العُلماءِ لم يُنكَرْ عليه ولم يُهجَرْ)
[2115] ((مجموع الفتاوى)) (20/ 207). .
وقال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (الضَّابطُ في هذا أنَّ مَأخَذَ المُخالِفِ إن كان في غايةِ الضَّعفِ والبُعدِ مِنَ الصَّوابِ، فلا نَظَرَ إليه ولا التِفاتَ عليه، إذا كان ما اعتَمَدَ عليه لا يَصِحُّ نَصُّه دَليلًا شَرعًا)
[2116] ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (1/ 253). .
وقال الزَّركَشيُّ: (لم يَزَلِ الخِلافُ بَينَ السَّلفِ في الفُروعِ، ولا يُنكِرُ أحَدٌ على غَيرِه مُجتَهدًا فيه، وإنَّما يُنكِرونَ ما خالف نَصًّا أو إجماعًا قَطعيًّا أو قياسًا جَليًّا)
[2117] ((المنثور في القواعد الفقهية)) (2/140). وقال ابنُ رَجَبٍ الحَنبَليُّ: (ومِن أنواعِ النُّصحِ للهِ تعالى وكِتابِه ورَسولِه -وهو مِمَّا يَختَصُّ به العُلماءُ- رَدُّ الأهواءِ المُضِلَّةِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وبَيانُ دَلالتِهما على ما يُخالفُ الأهواءَ كُلَّها، وكذلك رَدُّ الأقوالِ الضَّعيفةِ مِن زَلَّاتِ العُلماءِ، وبَيانُ دَلالةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ على رَدِّها). ((جامِع العُلومِ والحَكَمِ)) (1/ 223، 224). .
فكُلُّ هذه الأقوالِ -وغَيرُها كَثيرٌ جِدًّا- تَنُصُّ على أنَّ المُختَلَفَ فيه إن كان فيه نَصٌّ أو قياسٌ جَليٌّ، فإنَّه يُنكَرُ على فاعِلِه، بخِلافِ مَسائِلِ الاجتِهادِ التي لا نَصَّ فيها ولا إجماعَ ولا قياسَ، وهذا الذي جَعَل ابنَ تيميَّةَ يَقولُ: (وقَولُهم: مَسائِلُ الخِلافِ لا إنكارَ فيها، ليسَ بصحيحٍ)
[2118] ((الفتاوى الكبرى)) (6/96). .
أمَّا وُرودُ هذه العِبارةِ: (لا إنكارَ في مَسائِلِ الخِلافِ) في كَلامِ بَعضِ العُلماءِ فمُرادهمُ المَسائِلُ التي الخِلافُ فيها خِلافٌ سائِغٌ ومُعتَبَرٌ، وقد يَكونونَ أوضَحوا مُرادَهم في مَواضِعَ أُخرى مِن كُتُبِهم
[2119] ومِن أشهَرِ مَن نُقِل عنه ذلك، ويُدَندِنُ حَولَه البَعضُ: النَّوويُّ، بقَولِه: (العُلماءُ إنَّما يُنكِرونَ ما أُجمِعَ عليه، أمَّا المُختَلَفُ فيه فلا إنكارَ فيه). ((شرح مسلم)) (2/ 23). لكِنَّه أعقَبَ كَلامَه هذا بما وضَّحَ مُرادَه بالمُختَلَفِ فيه -بما يوافِقُ الأئِمَّةَ الأعلامَ- حَيثُ قال: (ليسَ للمُفتي ولا للقاضي أن يَعتَرِضَ على مَن خالفه إذا لم يُخالِفْ نَصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جَليًّا). ((شرح مسلم)) (2/ 24). فهذا القَيدُ مِن كَلامِه يُبَيِّنُ مَقصودَه بقَولِه: (أمَّا المُختَلَفُ فيه فلا إنكارَ فيه)، وهو عَدَمُ الإنكارِ فيما لم يُخالِفْ نَصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جَليًّا، وهذه هيَ مَسائِلُ الاجتِهادِ، أمَّا مَسائِلُ الخِلافِ التي فيها نَصٌّ مِنَ الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ، فهذه يُنكَرُ على صاحِبِها بدَرَجاتِ الإنكارِ. .
وقد كان الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم يُنكِرونَ على مَن خالف النَّصَّ مِنَ الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ كائِنًا مَن كان، كَما أنَّهمُ اختَلفوا في عَدَدٍ مِنَ المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ التي لا دَليلَ عليها، أو تَجاذَبها نَصَّانِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفَهِمَه كُلُّ واحِدٍ مِنهم فَهمًا مُختَلِفًا عنِ الآخَرِ، ولم يُنكِرْ بَعضُهم على بَعضٍ
[2120] الكَلامُ مُختَصَرٌ مِن مَقال ((المَسألةُ فيها خِلافٌ)) لعَلَوي بن عَبد القادِر السَّقَّافِ، وهو مَنشورٌ على جُزأينِ في مَوقِعِ الدُّرَرِ السَّنيَّةِ، ومَن أرادَ مَزيدًا مِنَ البَيانِ والأدِلَّةِ والأمثِلةِ فليَرجِعْ إليه. .