موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: الإسرارُ بالأمرِ والإنكارِ


يَنبَغي أن يَكونَ الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ سِرًّا ما استَطاعَ المَرءُ إلى ذلك سَبيلًا [2155] قال السَّمَرقَنديُّ: (ويَنبَغي للآمِرِ بالمَعروفِ أن يَأمُرَ في السِّرِّ إن كان مُستَطيعًا ذلك؛ ليَكونَ أبلغَ مِنه في المَوعِظةِ والنَّصيحةِ. قال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه: مَن وعَظَ أخاه في العَلانيةِ فقد شانَه، ومَن وعَظَ أخًا في السِّرِّ فقد زانَه. فإن لم تَنفَعْه المَوعِظةُ في السِّرِّ يَأمُرُه في العَلانيةِ، ويَستَعينُ بأهلِ الصَّلاحِ وأهلِ الخَيرِ ليَزجُروه عنِ المَعصيةِ؛ فإنَّهم إن لم يَفعَلوا ذلك غَلبَ عليهم أهلُ المَعصيةِ، فيَأتيهمُ العَذابُ فيُهلِكُهم جَميعًا). ((تنبيه الغافلين)) (ص: 96). ويُنظر: ((الغنية)) للجيلاني (1/ 114). ، ولا سيَّما مَعَ الكُبَراءِ والرُّؤَساءِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الآثارِ:
1- عن أبي وائِلٍ قال: قيل لأُسامةَ: لو أتَيتَ فُلانًا فكَلَّمتَه، قال: إنَّكُم لتُرَونَ أنِّي لا أُكَلِّمُه إلَّا أُسمِعُكُم! إنِّي أُكَلِّمُه في السِّرِّ دونَ أن أفتَحَ بابًا لا أكونُ أوَّلَ مَن فتَحَه، ولا أقولُ لرَجُلٍ أن كان عليَّ أميرًا: إنَّه خَيرُ النَّاسِ، بَعدَ شَيءٍ سَمِعتُه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالوا: وما سَمِعتَه يَقولُ؟ قال: سَمِعتُه يَقولُ: ((يُجاءُ بالرَّجُلِ يَومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ، فتَندَلِقُ أقتابُه في النَّارِ، فيَدورُ كَما يَدورُ الحِمارُ برَحاه، فيَجتَمِعُ أهلُ النَّارِ عليه، فيَقولونَ: أيْ فُلانُ، ما شَأنُك؟ أليسَ كُنتَ تَأمُرُنا بالمَعروفِ وتَنهانا عنِ المُنكَرِ؟ قال: كُنتُ آمُرُكُم بالمَعروفِ ولا آتيه، وأنهاكُم عنِ المُنكَرِ وآتيه)) [2156] أخرجه البخاري (3267) واللَّفظُ له، ومسلم (2989). .
قال عياضٌ: (قَولُه: "دونَ أن أفتَح بابًا لا أكونُ أوَّلَ مَن فتَحَه": يعني في المُجاهَرةِ بالنَّكيرِ، والقِيامِ بذلك على الأمراءِ، وما يُخشى مِن سوءِ عُقباه، كما تولَّد مِن إنكارِهم جِهارًا على عُثمانَ بَعدَ هذا، وما أدَّى إلى سَفكِ دَمِه واضطِرابِ الأمورِ بَعدَه، وفيه التَّلطُّفُ معَ الأمراءِ، وعَرضُ ما يُنكَرُ عليهم سِرًّا، وكذلك يلزَمُ معَ غَيرِهم مِن المُسلِمينَ ما أمكَن ذلك) [2157] ((إكمال المعلم)) (8/ 538). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه: "أتُرونَ أنِّي لا أُكَلِّمُه إلَّا أُسمِعُكُم" يَعني: أنَّه كان يَجتَنِبُ كَلامَه بحَضرةِ النَّاسِ، ويُكَلِّمُه إذا خَلا به، وهَكَذا يَجِبُ أن يُعاتَبَ الكُبَراءُ والرُّؤَساءُ، يُعَظَّمونَ في المَلأِ إبقاءً لحُرمَتِهم، ويُنصَحونَ في الخَلاءِ أداءً لِما يَجِبُ مِن نُصحِهم.
وقَولُه: "واللَّهِ لقد كَلَّمتُه فيما بَيني وبَينَه ما دونَ أن أفتَحَ أمرًا لا أُحِبُّ أن أكونَ أوَّلَ مَن فتَحَه" يَعني: أنَّه كَلَّمَه مُشافَهةً كَلامَ لُطفٍ؛ لأنَّه اتَّقى ما يَكونُ عنِ المُجاهَرةِ بالإنكارِ والقيامِ على الأئِمَّةِ؛ لعَظيمِ ما يَطرَأُ بسَبَبِ ذلك مِنَ الفِتَنِ والمَفاسِدِ... ففيه التَّلطُّفُ في الإنكارِ إذا ارتَجى نَفعَه) [2158] ((المفهم)) (6/ 619، 620). .
 2- عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: قُلتُ لابنِ عبَّاسٍ: آمُرُ إمامي بالمَعروفِ؟ قال: (إن خَشيتَ أن يَقتُلَك فلا، فإن كُنتَ ولا بُدَّ فاعِلًا ففيما بَينَك وبَينَه، ولا تَغتَبْ إمامَك) [2159] أخرجه سَعيدُ بنُ مَنصورٍ في ((التفسير من السنن)) (746)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7186). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأن الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ إذا كان سِرًّا فإنَّه يكون أولى بالقَبولِ، وأجدَرَ بالنَّفعِ، وأبعَدَ لهَتكِ السِّترِ وتحريكِ الأنَفةِ [2160] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 538). .

انظر أيضا: