ثالثًا: أن تكون دعوتُه بالحِكمةِ
ينبغي أن تكونَ دعوتُه بالحِكمةِ
[2191] قال المَيدانيُّ: (يَندَرِجُ في الحِكمةِ كُلُّ الأساليبِ الفِكريَّةِ المَنطِقيَّةِ الهادِئةِ السَّليمةِ، التي مِن شَأنِها أن تُوصِلَ الحَقيقةَ إلى مَوقِعِ القَناعةِ في النَّفسِ، ولِلنَّاسِ مُستَوياتٌ فِكريَّةٌ وعِلميَّةٌ، وعلى مَن يُريدُ الإقناعَ بحَقيقةٍ مِنَ الحَقائِقِ أن يُخاطِبَ كُلَّ فريقٍ مِنَ النَّاسِ بما يُناسِبُ مُستَواه الفِكريَّ والنَّفسيَّ). ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (1/ 205). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكتابِ:قال تعالى:
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] .
قال السَّعديُّ: (أي: ليَكُنْ دُعاؤُك للخَلقِ -مُسلِمِهم وكافِرِهم- إلى سَبيلِ رَبِّك المُستَقيمِ المُشتَمِلِ على العِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالِحِ
بِالْحِكْمَةِ أي: كُلُّ أحَدٍ على حَسَبِ حالِه وفَهمِه وقَولِه وانقيادِه.
ومِنَ الحِكمةِ الدَّعوةُ بالعِلمِ لا بالجَهلِ، والبَداءةُ بالأهَمِّ فالأهَمِّ، وبالأقرَبِ إلى الأذهانِ والفَهمِ، وبما يَكونُ قَبولُه أتَمَّ، وبالرِّفقِ واللِّينِ.
فإِنِ انقادَ بالحِكمةِ، وإِلَّا فيَنتَقِلُ مَعَه بالدَّعوةِ بالمَوعِظةِ الحَسَنةِ)
[2192] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 452). .
وقال ابنُ بازٍ: (أوضَح سُبحانَه الكَيفيَّةَ التي يَنبَغي أن يَتَّصِفَ بها الدَّاعيةُ ويَسلُكَها؛ يَبدَأُ أوَّلًا بالحِكمةِ، والمُرادُ بها الأدِلَّةُ المُقنِعةُ الواضِحةُ الكاشِفةُ للحَقِّ، والدَّاحِضةُ للباطِلِ؛ ولهذا قال بَعضُ المُفسِّرينَ: المَعنى بالقُرآنِ؛ لأنَّه الحِكمةُ العَظيمةُ؛ لأنَّ فيه البَيانَ والإيضاحَ للحَقِّ بأكمَلِ وَجهٍ، وقال بَعضُهم: مَعناه بالأدِلَّةِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وبكُلِّ حالٍ، فالحِكمةُ كَلِمةٌ عَظيمةٌ، مَعناها الدَّعوةُ إلى اللهِ بالعِلمِ والبَصيرةِ، والأدِلَّةِ الواضِحةِ المُقنِعةِ الكاشِفةِ للحَقِّ، والمُبَيِّنةِ له، وهيَ كَلِمةٌ مُشتَرَكةٌ تُطلَقُ على مَعانٍ كَثيرةٍ؛ تُطلَقُ على النُّبوَّةِ، وعلى العِلمِ والفِقهِ في الدِّينِ، وعلى العَقلِ، وعلى الورَعِ، وعلى أشياءَ أخرى... فالحِكمةُ كَلِمةٌ تَمنَعُ مَن سَمِعَها مِنَ المُضيِّ في الباطِلِ، وتَدعوه إلى الأخذِ بالحَقِّ والتَّأثُّرِ به، والوُقوفِ عِندَ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ...
إنَّ الأُسلوبَ الحَكيمَ والطَّريقَ المُستَقيمَ في الدَّعوةِ أن يَكونَ الدَّاعي حَكيمًا في الدَّعوةِ بَصيرًا بأُسلوبِها، لا يَعجَلُ ولا يُعنِّفُ، بَل يَدعو بالحِكمةِ، وهيَ المُقالُ الواضِحُ المُصيبُ للحَقِّ مِنَ الآياتِ والأحاديثِ، وبالمَوعِظةِ الحَسَنةِ، والجِدالِ بالتي هيَ أحسَنُ، هذا هو الأُسلوبُ الذي يَنبَغي لَك في الدَّعوةِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أمَّا الدَّعوةُ بالجَهلِ فهذا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ)
[2193] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/ 336، 337). .
فائدةٌ:قال ابنُ القَيِّمِ: (الحِكمةُ: فِعلُ ما يَنبَغي، على الوَجهِ الذي يَنبَغي، في الوَقتِ الذي يَنبَغي.
واللهُ تعالى أورَثَ الحِكمةَ آدَمَ وبَنيه؛ فالرَّجُلُ الكامِلُ: مِن لَه إرثٌ كامِلٌ مِن أبيه، ونِصفُ الرَّجُلِ -كالمَرأةِ- لَه نِصفُ ميراثٍ، والتَّفاوُتُ في ذلك لا يُحصيه إلَّا اللهُ تعالى.
وأكمَلُ الخَلقِ في هذا الرُّسُلُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم، وأكمَلُهم أولو العَزمِ، وأكمَلُهم مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولهذا امتَنَّ اللهُ سُبحانَه وتعالى عليه وعلى أمَّتِه بما آتاهم مِنَ الحِكمةِ، كما قال تعالى:
وأنزَلَ اللهُ عليك الكِتابَ والحِكمةَ وعَلَّمَك ما لَم تَكُن تَعلَمُ [النِّساء: 113] ، وقال تعالى:
كَما أرسَلنا فيكُم رَسولًا مِنكُم يَتلو عليكُم آياتِنا ويُزَكِّيكُم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابُ والحِكمةُ ويُعَلِّمُكُم ما لَم تَكونوا تَعلَمونَ [البَقَرة: 151] .
فكُلُّ نِظامِ الوُجودِ مُرتَبِطٌ بهذه الصِّفةِ، وكُلُّ خَلَلٍ في الوُجودِ وفي العَبدِ فسَبَبُه الإخلالُ بها، فأَكمَلُ النَّاسِ أوفَرُهم نَصيبًا، وأنقَصُهم وأبعَدُهم عنِ الكَمالِ أقَلُّهم مِنها ميراثًا.
ولَها ثَلاثةُ أركانٍ: العِلمُ، والحِلمُ، والأناةُ.
وآفاتُها وأضدادُها: الجَهلُ، والطَّيشُ، والعَجَلةُ؛ فلا حِكمةَ لجاهِلٍ ولا طائِشٍ ولا عَجولٍ)
[2194] ((مدارج السالكين)) (2/ 449، 450). .
وقال ابنُ باديسَ: (الحِكمةُ: هيَ العِلمُ الصَّحيحُ الثَّابِتُ، المُثمِرُ للعَمَلِ المُتقَنِ المَبنيِّ على ذلك العِلمِ.
فالعَقائِدُ الحَقَّةُ والحَقائِقُ العِلميَّةُ الرَّاسِخةُ في النَّفسِ رُسوخًا تَظهَرُ آثارُه على الأقوالِ والأعمالِ: حِكمةٌ.
والأعمالُ المُستَقيمةُ، والكَلِمات الطَّيِّبةُ التي أثمَرَتها تلك العَقائِدُ: حِكمةٌ.
والأخلاقُ الكَريمةُ، كالحِلمِ والأناةِ -وهيَ عِلمٌ وعَمَلٌ نَفسيٌّ-: حِكمةٌ.
والبَيانُ عن هذا كُلِّه بالكَلامِ الواضِحِ الجامِعِ: حِكمةٌ؛ تَسميةً للدَّالِّ باسمِ المَدلولِ.
وفي سورةِ الإسراءِ ثَماني عَشرةَ آيةً جَمَعَت أصولَ الهدايةِ، مِن قَولِه تعالى:
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء: 22] ، إلى:
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 39] .
وقد جَمَعَت تلك الآياتُ كُلَّ ما ذَكَرنا مِنَ العَقائِدِ الحَقَّةِ، والحَقائِقِ العِلميَّةِ، والأعمالِ المُستَقيمةِ، والكَلِماتِ الطَّيِّبةِ، والأخلاقِ الكَريمةِ.
وسَمَّى اللَّهُ ذلك كُلَّه حِكمةً، فقال تعالى:
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء: 39] .
فالحِكمةُ التي أمَرَ اللَّهُ نَبيَّه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم أن يَدعوَ النَّاسَ إلى سَبيلِ رَبِّه بها، هيَ البَيانُ الجامِعُ الواضِحُ للعَقائِدِ بأدِلَّتِها، والحَقائِقِ ببَراهينِها، والأخلاقِ الكَريمةِ بمَحاسِنِها، ومَقابِحِ أضدادِها، والأعمالِ الصَّالِحةِ؛ مِن أعمالِ القَلبِ واللِّسانِ والجَوارِحِ بمَنافِعِها، ومَضارِّ خِلافِها.
وهكذا كان بَيانُه لهذه الأشياءِ كُلِّها، بما صَحَّ مِن أحاديثِه وجَوامِعِ كَلِمِه، وهكذا هو بَيانُ القُرآنِ لَها كُلِّها، حَيثُما كانت مِن آياتِه. فآياتُ القُرآنِ وأحاديثُه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ في بَيانِ هذه الأشياءِ البَيانَ المَذكورَ هما الحِكمةُ التي كان يَدعو إلى سَبيلِ رَبِّه بها.
وتلك الأشياءُ كُلُّها هيَ أيضًا حِكمةٌ، وهيَ التي كان يُعَلِّمُها، كَما في قَولِه تعالى:
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فصَلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ؛ مَن دَلَّ إلى الحِكمةِ بالحِكمةِ، ومُعَلِّمِ الحِكمةِ بالحِكمةِ.
هَدَتنا الآيةُ الكَريمةُ إلى أسلوبِ الدَّعوةِ: وهو الحِكمةُ، وتَجَلَّت هذه الحِكمةُ في الآياتِ القُرآنيَّةِ والأحاديثِ النَّبَويَّةِ؛ فعلينا أن نَلزَمَها جُهدَنا حَيثُما دَعَونا، ونَقتَديَ بأساليبِ القُرآنِ والسُّنَّةِ في دَعوتِنا؛ فبها يَحصُلُ الفَهمُ واليَقينُ، والفِقهُ في الدِّينِ والرَّغبةُ في العَمَلِ والدَّوامُ عليه)
[2195] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 320، 321). .
وقال ابنُ عاشورٍ: (ذَكَر اللهُ الحِكمةَ في مَواضِعَ كَثيرةٍ مِن كِتابِه مُرادًا بها ما فيه صَلاحُ النُّفوسِ، مِنَ النُّبوءةِ والهدى والإرشادِ. وقد كانتِ الحِكمةُ تُطلَقُ عِندَ العَرَبِ على الأقوالِ التي فيها إيقاظٌ للنَّفسِ، ووِصايةٌ بالخَيرِ، وإِخبارٌ بتَجارِبِ السَّعادةِ والشَّقاوةِ، وكُلِّيَّاتٌ جامِعةٌ لجِماعِ الآدابِ)
[2196] ((التحرير والتنوير)) (3/ 63). .