موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: مخاطبةُ المَدعوِّ بأحسَنِ ما يُدعَى به


يَنبَغي للدَّاعيةِ أن يُخاطِبَ المَدعوَّ بأحسَنِ ما يُدعى به مِمَّا يُحِبُّه، مَعَ تَجَنُّبِ النَّبزِ واللَّمزِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ:
1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات: 11] .
2- قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] .
قال ابنُ باديسَ: (أرسَلَ اللهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ لجَميعِ الأُمَمِ؛ فكانت رِسالَتُه عامَّةً، وكانت دَعوتُه عامَّةً مِثلَها، وجاءَت آياتُ القُرآنِ بالدَّعوةِ العامَّةِ في مَقاماتٍ، وبالدَّعوةِ الخاصَّةِ لبَعضِ مَن شَمِلَتهمُ الدَّعوةُ العامَّةُ في مَقاماتٍ أخرى.
ولمَّا أرسَلَ اللهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ كان الخَلقُ قِسمَينِ: أهلَ كِتابٍ -وهمُ اليَهودُ والنَّصارى- وغَيرَهم، وكان أشرَفُ القِسمَينِ أهلَ الكِتابِ؛ بما عِندَهم مِنَ النَّصيبِ مِنَ الكِتابِ الذي أوتوه على نِسيانِهم لحَظٍّ مِنه، وتَحريفِهم لِما حَرَّفوا، وكانوا أَولى القِسمَينِ باتِّباعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ بما عَرَفوا قَبلَه مِنَ الكُتُبِ والأنبياءِ؛ فلهذا وذاكَ كانت تُوجَّه إليهمُ الدَّعوةُ الخاصَّةُ بمِثلِ قَولِه تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا إلى آخِرِ الآيَتَينِ.
وفي نِدائِهم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَشريفٌ وتَعظيمٌ لَهم بإِضافتِهم للكِتابِ، وبَعثٌ لَهم على قَبولِ ما جاءَ به مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ؛ لأنَّه جاءَ بكِتابٍ، وهم أهلُ الكِتابِ، واحتِجاجٌ عليهم بأنَّ الإيمانَ بالكِتابِ الذي عِندَهم يَقتَضي الإيمانَ بالكِتابِ الذي جاءَ به؛ لأنَّه مِن جِنسِه.
هذا هو أدَبُ الإسلامِ في دَعوةِ غَيرِ أهلِه؛ ليُعَلِّمَنا كَيف يَنبَغي أن نَختارَ عِندَ الدَّعوةِ لأَحَدٍ أحسَنَ ما يُدعى به، وكَيف نَنتَقي ما يُناسِبُ ما نُريدُ دَعوتَه إليه؛ فدُعاءُ الشَّخصِ بما يُحِبُّ مِمَّا يَلفِتُه إليك، ويَفتَحُ لَك سَمعَه وقَلبَه، ودُعاؤُه بما يَكرَهُ يَكونُ أوَّلَ حائِلٍ يُبعِدُ بَينَك وبَينَه، وإذا كان هذا الأدَبُ عامًّا في كُلِّ تَداعٍ وتَخاطُبٍ، فأحَقُّ النَّاسِ بمُراعاتِه همُ الدُّعاةُ إلى اللهِ، والمَبَيِّنونَ لدينِه، سَواءٌ دَعَوا المُسلِمينَ أو غَيرَ المُسلِمينَ...
على الدَّاعي إلى اللهِ والمُناظِرِ في العِلمِ أن يَقصِدَ إحقاقَ الحَقِّ وإبطالَ الباطِلِ، وإقناعَ الخَصمِ بالحَقِّ وجَلبَه إليه؛ فيَقتَصِرَ مِن كُلِّ حَديثِه على ما يُحَصِّلُ له ذلك، ويَتَجَنَّبُ ذِكرَ العُيوبِ والمَثالِبِ، ولَو كانت هنالِكَ عُيوبٌ ومَثالِبُ؛ اقتِداءً بهذا الأدَبِ القُرآنيِّ النَّبَويِّ في التَّجاوُزِ مِمَّا في القَومِ عن كَثيرٍ، وفي ذِكرِ العُيوبِ والمَثالِبِ خُروجٌ عنِ القَصدِ وبُعدٌ عنِ الأدَبِ، وتَعَدٍّ على الخَصمِ وإبعادٌ له، وتَنفيرٌ عنِ الِاستِماعِ والقَبولِ، وهما المَقصودُ مِنَ الدَّعوةِ والمُناظَرةِ) [2232] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 327-329). .
فائدةٌ فيما يُصفِّي لك ودَّ أخيك:
1- رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (يُصفي لك وُدَّ أخيك ثَلاثٌ: أن تَبدَأَه بالسَّلامِ، وأن تَدعوَه بأحَبِّ أسمائِه إليه، وأن تُوسِّعَ له في المَجلِسِ، وكفى بالمَرءِ عِيًّا أن يَجِدَ على النَّاسِ فيما يَأتي، وأن يَبدوَ له فيهم ما يَخفى عليه مِن نَفسِه، وأن يُؤذيَه في المَجلِسِ بما لا يَعنيه) [2233] أخرجه من طرق: ابن المبارك في ((الزهد)) (352)، وابن وهب في ((الجامع)) (222) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8398). قال البيهقيُّ: مُرسَلٌ. .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (مِمَّا يُصفي لك وُدَّ أخيك: أن تُسَلِّمَ عليه إذا لقيتَه، وتَدعوَه بأحَبِّ الأسماءِ إليه، وتُوسِّعَ له المَجلِسَ إليك)) [2234] أخرجه ابنُ وهب في ((الجامع)) (216). .

انظر أيضا: