موسوعة الآداب الشرعية

حادي عشر: عِفَّةُ اللِّسانِ عن الفُحشِ والبَذاءِ


مِن أدَبِ الدَّاعي إلى اللهِ: أن يَكونَ عَفَّ اللِّسانِ، نَزيهَ الكَلامِ، شَريفَ الخِطابِ، غَيرَ شَتَّامٍ ولا سَبَّابٍ ولا فَحَّاشٍ ولا لَعَّانٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] .
قال السَّعديُّ: (أمَر بالإحسانِ إلى النَّاسِ عُمومًا، فقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، ومن القَولِ الحَسَنِ: أمرُهم بالمعروفِ، ونهيُهم عن المُنكَرِ، وتعليمُهم العِلمَ، وبذلُ السَّلامِ، والبَشاشةُ، وغيرُ ذلك من كُلِّ كلامٍ طَيِّبٍ.
ولمَّا كان الإنسانُ لا يسَعُ النَّاسَ بمالِه، أُمِر بأمرٍ يَقدِرُ به على الإحسانِ إلى كُلِّ مخلوقٍ، وهو الإحسانُ بالقولِ، فيكونُ في ضِمنِ ذلك النَّهيُ عن الكلامِ القبيحِ للنَّاسِ حتَّى للكُفَّارِ؛ ولهذا قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ومِن أدبِ الإنسانِ الذي أدَّب اللهُ به عِبادَه أن يكونَ الإنسانُ نَزيهًا في أقوالِه وأفعالِه، غَيرَ فاحِشٍ ولا بَذيءٍ، ولا شاتِمٍ ولا مُخاصِمٍ، بل يكونُ حَسنَ الخُلقِ، واسِعَ الحِلمِ، مُجامِلًا لكُلِّ أحدٍ، صبورًا على ما ينالُه مِن أذى الخَلقِ؛ امتِثالًا لأمرِ اللهِ، ورجاءً لثوابِه) [2235] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 57، 58). .
2- قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن مَسروقٍ، قال: كُنَّا جُلوسًا مَعَ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو يُحَدِّثُنا، إذ قال: ((لم يكُنْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاحِشًا ولا مُتَفحِّشًا، وإنَّه كان يَقولُ: إنَّ خيارَكُم أحاسِنُكُم أخلاقًا)) [2236] أخرجه البخاري (6035) واللفظ له، ومسلم (2321). .
2- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما شَيءٌ أثقَلَ في ميزانِ المُؤمِنِ يَومَ القيامةِ مِن خُلُقٍ حَسَنٍ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى ليُبغِضُ الفاحِشَ البَذيءَ)) [2237] أخرجه من طرق: أبو داود (4799)، وأحمد (27555) مختصرًا، والترمذي (2002) واللفظ له. صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (481)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2002)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1041)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27555)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكُم والفُحشَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفاحِشَ والمُتَفحِّشَ، وإيَّاكُم والظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ هيَ الظُّلُماتُ يَومَ القيامةِ، وإيَّاكُم والشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ دَعا مَن كان قَبلَكُم فسَفَكوا دِماءَهم، وقَطَعوا أرحامَهم)) [2238] أخرجه أحمد (9569)، وابن حبان (5177) واللفظ له، والحاكم (28). صَحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط مسلم، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2217)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9570). .
4-وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قيل: يا رسولَ اللهِ ادعُ على المُشرِكين، قال: ((إنِّي لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنَّما بُعِثتُ رحمةً)) [2239] أخرجه مسلم (2599). .
5- عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: ((أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أناسٌ من اليهودِ، فقالوا: السَّامُ [2240] قَولُ: (السَّامُ عليكم) فيه تأويلانِ: أحَدُهما: السَّآمةُ، يعني: المَلَلَ، يقال: سآمةٌ وسآمٌ. والتَّأويلُ الثَّاني: الموتُ، وعليه يدُلُّ: (وعليكم)؛ إذ هو سبيلُ الكُلِّ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 320)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (5/ 433). عليك يا أبا القاسِمِ. قال: وعليكم. قالت عائشةُ: قُلتُ: بل عليكم السَّامُ والذَّامُ [2241] الذَّامُ: العَيبُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 151). ! فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عائشةُ، لا تكوني فاحِشةً. فقالت: ما سمعتَ ما قالوا؟ فقال: أوَليسَ قد ردَدْتُ عليهم الذي قالوا؟! قُلتُ: وعليكم)) [2242] أخرجه البخاري (6024)، ومسلم (2165) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ: ((ففطِنَت بهم عائِشةُ فسَبَّتهم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَهْ [2243] مَهْ: بفَتحِ ميمٍ وسُكونِ هاءٍ: اسمُ فِعلٍ بمعنى اكفُفْ وامتَنِعْ عن ذلك. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). يا عائِشةُ! فإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفُحشَ والتَّفحُّشَ. فأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة: 8] إلى آخِرِ الآيةِ)) [2244] أخرجها مسلم (2165). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (في الحَديثِ: أنَّ أهلَ الكِتابِ كانوا يَقولونَ: السَّامُ عليكُم، يَعنونَ بالسَّامِ المَوتَ، فلم يَصلُحْ أن يُقالَ لهم في جَوابِ هذا: وعليكُمُ السَّلامُ، ولم يَحسُنْ في بابِ حُسنِ الخُلُقِ أن يُقالَ: وعليكُمُ السَّامُ؛ لأنَّهم كانوا يُمَجمِجون [2245] مَجمَجَ الرَّجُلُ في خَبَرِه: إذا لم يُبَيِّنْه. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 340). الكَلامَ به، فلا يَبينُ لكُلِّ أحَدٍ، فلا يَصلُحُ أن يُقابَلَ المُمَجمَجُ بالمُصَرَّحِ، فكَأنَّه قال: وعليكُم، أي: ما قُلتُم. وقد جاءَ في حَديثٍ: «إنَّه يُستَجابُ لنا فيهم، ولا يُستَجابُ لهم فينا» [2246] أخرجه البخاري (6030) باختلاف يسير؛ ولفظه: عن عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ يَهُودَ أتَوُا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالوا: السَّامُ علَيْكُم، فَقالَتْ عَائِشَةُ: علَيْكُم، ولَعَنَكُمُ اللَّهُ، وغَضِبَ اللَّهُ علَيْكُم. قالَ: مَهْلًا يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ قالَتْ: أوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟ قالَ: أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قُلتُ؟ رَدَدْتُ عليهم، فيُسْتَجَابُ لي فيهم، ولَا يُسْتَجَابُ لهمْ فِيَّ)). [2247] ((كشف المشكل)) (3/ 196). .
6- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((لم يكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سبَّابًا ولا فحَّاشًا ولا لعَّانًا، كان يقولُ لأحَدِنا عِندَ المَعتِبةِ: ما له، تَرِبَ جَبينُه [2248] تَرِبَ جَبينُه: كَلِمةٌ تقولُها العَرَبُ جَرَت على ألسِنَتِهم، وهي من التُّرابِ، أي: سَقَط جبينُه للأرضِ، وهو كقولِهم: رَغِم أنفُه، ولكِنْ لا يرادُ معنى قولِه: تَرِبَ جَبينُه، بل هو نظيرُ: تَرِبَت يمينُك، أي: إنَّها كَلِمةٌ تجري على اللِّسانِ ولا يرادُ حقيقتُها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 453). ؟!)) [2249] أخرجه البخاري (6031). .
فائِدةٌ:
قال المُناويُّ: (خَفضُ الجَناحِ ولِينُ الكَلِمةِ وتَركُ الإغلاظِ: مِن أسبابِ الأُلفةِ واجتِماعِ الكَلِمةِ وانتِظامِ الأمرِ؛ ولهذا قيل: مَن لانَت كَلِمتُه وجَبَت مَحَبَّتُه، وحَسُنَت أُحدوثَتُه، وظَمِئت القُلوبُ إلى لقائِه وتَنافسَت في مَودَّتِه) [2250] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 57، 58). .

انظر أيضا: