أولًا: الحرصُ على الإهداءِ وعَدَمُ احتِقارِ ما يُهدي
يُستَحَبُّ الإهداءُ إلى الجيرانِ والأقارِبِ والإخوانِ وغَيرِهم، ولا يَمتَنِعُ المُهدي مِنَ الإهداءِ لقِلَّتِه أو عَدَمِ نَفاسَتِه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يا نِساءَ المُسلِماتِ، لا تَحقِرَنَّ جارةٌ لجارَتِها، ولو فِرسِنَ [2502] أصلُ الفِرسِنِ للإبِلِ، وهو مَوضِعُ الحافِرِ مِنَ الفرَسِ، ويُقالُ لمَوضِعِ ذلك مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ: الظِّلفُ. وقال الأصمَعيُّ: الفِرسِنُ ما دونُ الرُّسغِ مَن يَديِ البَعيرِ، وهي مُؤَنَّثةٌ، والجَمعُ الفَراسِنُ. وقال ابنُ السِّكِّيتِ: إنَّما الفِرسِنُ للبَعيرِ، فاستُعيرَ للشَّاةِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2177)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 87). شاةٍ)) [2503] أخرجه البخاري (2566)، ومسلم (1030). .
في الحَديثِ الحَضُّ على التَّهادي والمتاحَفةِ ولو باليَسيرِ؛ لِما فيه مِنِ استِجلابِ المَودَّةِ، وإذهابِ الشَّحناءِ، واصطِفاءِ الجيرةِ، ولِما فيه مِنَ التَّعاوُنِ على أمرِ العيشةِ، وأيضًا فإنَّ الهَديَّةَ إذا كانت يَسيرةً فهيَ أدَلُّ على المَودَّةِ، وأسقَطُ للمَئونةِ، وأسهَلُ على المَهديِّ لاطِّراحِ التَّكليفِ، وإنَّما أشارَ النَّبيُّ عليه السَّلامُ بفِرسِنِ الشَّاةِ إلى القَليلِ مِنَ الهَديَّةِ، لا إلى إعطاءِ الفِرسِنِ؛ لأنَّه لا فائِدةَ فيه
[2504] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 85) و(9/ 222). .
فعلى المَرءِ ألَّا يَحقِرَ قَليلَ المَعروفِ؛ فإنَّه لا يَحقِرُه إلَّا قَليلُ العِلمِ؛ فإنَّه إذا نَظَرَ إلى ما يَتَقَبَّلُ اللهُ تعالى مِنه لم يَسُغْ له احتِقارُ شَيءٍ يَتَقَبَّلُه اللهُ تعالى
[2505] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (6/ 271). .
وقال النَّوويُّ: (هذا النَّهيُ عنِ الاحتِقارِ نَهيٌ للمُعطيةِ المُهديةِ
[2506] قال عِياضٌ: (يُحتَمَلُ أن يَكونَ النَّهيُ عن الاحتِقارِ للمُعطاةِ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ ذلك للمُعطيةِ، وأن تَصِلَ جارَتَها بما أمكنَها، ولا يَمنَعَها إن لم تَجِدِ الكثيرَ أن تَصِلَ بالقَليلِ، وهذا الوَجهُ هو الظَّاهرُ مِن تَأويلِ مالكٍ في إدخالِ الحَديثِ في "الموطَّأ" في بابِ التَّرغيبِ في الصَّدَقةِ)). ((إكمال المعلم)) (3/ 561). ويُنظر: ((موطأ مالك)) (2/ 996). ، ومَعناه: لا تَمتَنِعْ جارةٌ مِنَ الصَّدَقةِ والهَديَّةِ لجارَتِها؛ لاستِقلالِها واحتِقارِها المَوجودَ عِندَها، بَل تَجودُ بما تيَسَّرَ وإن كان قَليلًا كفِرسِنِ شاةٍ، وهو خيرٌ مِنَ العَدَمِ، وقد قال اللهُ تعالى:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهْ [الزلزلة: 7] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اتَّقَوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرةٍ"
[2507] أخرجه البخاري (1417)، ومسلم (1016) من حديثِ عَديِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه. [2508] ((شرح مسلم)) (7/ 120). .
فوائِدُ:1- قال ابنُ حِبَّانَ: (إنِّي لأستَحِبُّ للنَّاسِ بَعْثَ الهَدايا إلى الإخوانِ بَينَهم؛ إذِ الهَديَّةُ تورِثُ المَحَبَّةَ وتُذهِبُ الضَّغينةَ.
عنِ اللَّيثِ، قال: سَمِعتُ عَبدَ المَلِكِ بنَ رفاعةَ الفَهميَّ يَقولُ: الهَديَّةُ هو السِّحرُ الظَّاهِرُ.
والبَشَرُ مَجبولونَ على مَحَبَّةِ الإحسانِ وكَراهيةِ الأذى، واتِّخاذِ المُحسِنِ إليهم حَبيبًا، واتِّخاذِ المُسيءِ إليهم عَدوًّا؛ فالعاقِلُ يَستَعمِلُ مَعَ أهلِ زَمانِه لُزومَ بَعثِ الهَدايا بما قدَرَ عليه لاستِجلابِ مَحَبَّتِهم إيَّاه، ويُفارِقُ تَركَه مَخافةَ بُغضِهم.
عن ابنِ سِيرينَ، قال: كانوا يَتَهادَونَ الدَّراهِمَ في الجَوالِقاتِ والأطباقِ!
الواجِبُ على العاقِلِ أن يَستَعمِلَ الأشياءَ على ما يوجِبُ الوقتُ، ويَرضى بنَفاذِ القَضاءِ ولا يَتَمَنَّى ضِدَّ ما رُزِقَ، وإن كان عِندَه الشَّيءُ التَّافِه لا يَجِبُ أن يَمتَنِعَ مِن بَذلِه لاستِحقارِه واستِقلالِه؛ لأنَّ أهونَ ما فيه لُزومُ البُخلِ والمَنعِ، ومَن حَقَّرَ شَيئًا مَنعَه، بَل يَكونُ عِندَه الكَثرةُ والقِلَّةُ في الحالةِ سيَّيَنِ؛ لأنَّ ما يورِثُ الكَثير مِنَ الخِصالِ أورَثَ الصَّغير بقَدرِه مِنَ الفِعالِ.
حَدَّثَنا عَمرُو بنُ مُحَمَّدٍ الأنصاريُّ، حَدَّثَنا الغَلابيُّ، حَدَّثَنا إبراهيمُ بنُ عُمَرَ بنِ حَبيبٍ، عنِ الأصمَعيِّ، قال: دَخَلنا على كَهمَسٍ العابدِ، فجاءَ بإحدى عَشرةَ بُسرةً
[2509] البُسرُ: ثَمَرُ النَّخلِ قَبلَ أن يُرطِبَ، فالبُسرُ أوَّلُه طَلعٌ، ثمَّ خلالٌ، ثمَّ بَلَحٌ، ثمَّ بُسرٌ، ثمَّ رُطَبٌ، ثمَّ تَمرٌ. الواحِدةُ بُسرةٌ، وأبسَرَ النَّخلُ: صار ما عليه بُسرًا. يُنظر: ((العين)) للخليل (7/ 250)، ((الصحاح)) للجوهري (2/ 589)، ((المحكم)) لابن سيده (8/ 488)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 56). حَمراءَ، فقال: هذا الجَهدَ مِن أخيكُم. واللهُ المُستَعانُ)
[2510] يُنظر: ((روضة العقلاء)) (ص: 242-244). .
2- قال ابنُ عبدِ البَرّ: (في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأُسوةُ الحَسَنةُ؛ كان يُهدي إلى أصحابِه وغَيرِهم، وكان يَقبَلُ الهَديَّةَ ويُثيبُ عليها، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لو أُهديَ إليَّ كُراعٌ لقَبِلتُ، ولو دُعِيتُ إلى ذِراعٍ لأجَبتُ!»
[2511] أخرجه البخاري (2568) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لو دُعيتُ إلى ذِراعٍ أو كُراعٍ لأجَبتُ، ولو أُهديَ إليَّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لقَبلتُ)). .
فالهَديَّةُ بما وصَفْنا سُنَّةٌ، إلَّا أنَّها غَيرُ واجِبةٍ؛ لأنَّ العِلَّةَ فيها استِجلابُ المَودَّةِ وسَلُّ سَخيمةِ الصَّدرِ ووَجدِه وحِقدِه وغِلِّه؛ لتَعودَ العَداوةُ مَحَبَّةً، والبِغضةُ مَودَّةً. وهذا مِمَّا تَكادُ الفِطرةُ تَشهَدُ به؛ لأنَّ النُّفوسَ جُبِلَت عليه)
[2512] ((الاستذكار)) (8/ 293). ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (21/ 18، 19). وقال القُرطُبيُّ: (الهَديَّةُ مَندوبٌ إليها، وهيَ مِمَّا تورِثُ المَودَّةَ وتُذهِبُ العَداوةَ... وعلى الجُملةِ فقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقبَلُ الهَديَّةَ، وفيه الأُسوةُ الحَسَنةُ. ومِن فَضلِ الهَديَّةِ مَعَ اتِّباعِ السُّنَّةِ أنَّها تُزيلُ حَزازاتِ النُّفوسِ، وتَكسِبُ المَهديَّ والمُهدى إليه رَنَّةً في اللِّقاءِ والجُلوسِ). ((الجامع لأحكام القرآن)) (13/ 199). .
3- قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (بَعَثَ أبو العَتاهيةِ إلى الفَضلِ بنِ الرَّبيعِ بنَعلٍ، وكَتَب مَعَها:
نَعلٌ بَعَثتُ بها لتَلبَسَها
تَمشي بها قَدَمٌ إلى المَجدِ
لو كان يَحسُنُ أن أُشَرِّكَها
خَدِّي جَعَلتُ شِراكَها خَدِّي
أهدى الطَّائيُّ إلى الحَسَنِ بنِ وَهبٍ قَلَمًا، وكَتَب إليه:
قد بَعَثْنا إليك أكرَمَك اللـ
ـهُ بشَيءٍ فكُنْ له ذا قَبولِ
لا تَقِسْه إلى نَدى كَفِّك الغَمْ
رِ ولا نَيلِك الكَثيرِ الجَزيلِ
واغتَفِرْ قِلَّةَ الهَديَّةِ مِنِّي
إنَّ جَهْدَ المُقِلِّ غَيرُ قَليلِ
أولَمَ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ المَوصِليُّ وَليمةً، فأهدى إليه إخوانُه هَدايا، وأهدى إليه إبراهيمُ بنُ المَهديِّ جِرابَ مِلحٍ وجِرابَ أُشنانٍ
[2513] الأُشنانُ: شَجَرٌ مِنَ الفصيلةِ الرَّمراميةِ يَنبُتُ في الأرضِ الرَّمليَّةِ، يُستَعمَلُ هو أو رَمادُه في غَسلِ الثِّيابِ والأيدي. يُنظر: ((المُعجَم الوسيط)) (1/ 19). مُطَيَّبٍ، وكَتَبَ إليه رُقعةً: فِداك أخوك عِندَه، لولا أنَّ البِضاعةَ تَقصُرُ لجُزتُ السَّابقينَ إلى بِرِّك، وكَرِهتُ أن تُطوى صَحيفةُ البِرِّ ولا حَظَّ لي فيها؛ فوجَّهتُ إليك بالمُبتَدَأِ به ليُمْنِه وبَرَكَتِه، والمَختومِ به لطِيبِه ونَظافتِه: جِرابِ مِلحٍ، وجِرابِ أُشنانٍ! هَديَّةُ مَن لا يَحتَشِمُ إلى مَن لا يَغتَنِمُ، وكَتَب أسفَلَ الرُّقعةِ:
هَديَّتي تَقصُرُ عن همَّتي
وهمَّتي تَعلو على مالي
وخالِصُ الوُدِّ ومَحضُ الهَوى
أحسَنُ ما يُهديه أمثالي)
[2514] ((بهجة المجالس)) (1/ 283، 284). ويُنظر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 43، 46). .
4- بَعَثَ النَّضرُ بنُ الحارِثِ إلى صَديقٍ له يَسكُنُ عَبَّادانِ بنَعلينِ مَخصوفتَينِ، وكَتَب إليه: بَعَثتُ إليك بهما وأنا أعلمُ أنَّ بك عنهما غِنًى، ولكِنِّي أحبَبتُ أن تَعلمَ أنَّك مِنِّي على ذُكرٍ
[2515] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 42). .
5- مِنَ اللَّطائِفِ قَولُ بَعضِهم:
جاءَت سُليمانَ يَومَ العَرضِ هُدهُدةٌ
أهَدَت إليه جَرادًا كان في فيها
وأنشَدَت بلسانِ الحالِ قائِلةً
إنَّ الهَدايا على مِقدارِ مُهديها
لو كان يُهدى إلى الإنسانِ قيمَتُه
فأنتَ قيمَتُك الدُّنيا وما فيها
[2516] ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (11/ 529). .
6- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((ما غِرتُ على امرَأةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرتُ على خَديجةَ، هَلكَت قَبلَ أن يَتَزَوَّجَني؛ لِما كُنتُ أسمَعُه يَذكُرُها، وأمَرَه اللهُ أن يُبَشِّرَها ببَيتٍ مِن قَصَبٍ، وإن كان ليَذبَحُ الشَّاةَ فيُهدي في خَلائِلِها [2517] خَلائِلها: جَمعُ خَليلةٍ، أي: صَديقةٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 136). مِنها ما يَسَعُهنَّ [2518] ما يَسَعُهنَّ، أي: ما يَكفيهنَّ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 136). ) [2519] أخرجه البخاري (3816) ومسلم (2435). .
وفي الحَديثِ مِنَ الإشعارِ باستِمرارِ حُبِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لخَديجةَ حتَّى كان يَتَعاهَدُ صَواحِباتِها
[2520] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 136). .
وأنَّ إكرامَ صَديقِ الإنسانِ بَعدَ مَوتِه يُعتَبَرُ إكرامًا له، وبِرًّا به، سَواءٌ كان مِنَ الوالدَينِ، أو مِنَ الأزواجِ، أو مِنَ الأصدِقاءِ، أو مِنَ الأقارِب
[2521] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 220). .