موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: البَدءُ في الهَديَّةِ بالأقاربِ والأقربِ بابًا مِن الجيرانِ


يُستَحَبُّ أن يُبدَأَ [2522] وذلك عِندِ التَّعارُضِ في أصلِ الاستِحقاقِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 220). في الإهداءِ بالأقاربِ والأقربِ بابًا مِن الجيرانِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن مَيمونةَ بنتِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّها أعتَقَت وليدةً [2523] الوليدةُ: الجاريةُ، وجمعُها ولائِدُ، وقد تُطلَقُ الوليدةُ على الجاريةِ والأَمَةِ وإن كانت كبيرةً. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 433)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 225). في زَمانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذَكَرَت ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: لو أعطيتِها أخوالَكِ كان أعظَمَ لأجرِك)) [2524] أخرجه البخاري (2592)، ومسلم (999) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ: ((لو وصَلتِ بَعضَ أخوالِك كان أعظَمَ لأجرِك)) [2525] أخرجها البخاري (2594). .
والمعنَى أنَّ صِلتَها لبَعضِ أخوالِها كانت أولى وأكثرَ لِلأجرِ، والهديَّةُ فيها معنَى الصِّلَةِ [2526] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (13/ 154). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (دَلَّ هذا الحديثُ على أنَّ صِلةَ الأقاربِ وإغناءَ الفُقَراءِ أفضَلُ مِن العِتقِ والصَّدَقةِ على الأجانِبِ). ((كشف المشكل)) (4/ 433).. .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي جارَينِ، فإلى أيِّهما أُهدي؟ قال: إلى أقرَبِهما مِنكِ بابًا)) [2527] أخرجه البخاري (2259). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (في حَديث مَيمونةَ أنَّ صِلةَ الأقارِبِ أفضَلُ مِنَ العِتقِ، على أنَّ العِتقَ قد جاءَ فيه أنَّ اللَّهَ يُعتِقُ بكُلِّ عُضوٍ مِنه عُضوًا مِنها مِنَ النَّارِ [2528] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن أعتَقَ رَقَبةً مُسلِمةً أعتَقَ اللهُ بكُل عُضوٍ مِنه عُضوًا مِنَ النَّارِ، حتَّى فَرْجَه بفَرْجِه)). أخرجه البخاري (6715) واللَّفظُ له، ومسلم (1509). ، وأنَّ بالعِتقِ تُجازُ العَقَبةُ يَومَ القيامةِ.
وفي حَديثِ عائِشةَ أنَّ أقرَبَ الجيرانِ أَولى بالصِّلةِ والبرِّ والرِّعايةِ، وأنَّ صِلةَ الأقرَبِ مِنهم أفضَلُ مِن صِلةِ الأبعَدِ؛ إذ لا يَقدِرُ على عُمومِ جَميعِهم بالهَديَّةِ، وقد أكَّد اللَّهُ تعالى ذلك في كِتابِه، فقال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36] ، فدَلَّ هذا على تَفضيلِ الأقرَبِ) [2529] ((شرح صحيح البخاري)) (7/ 111). .
وقال أيضًا: (قال المُهَلَّبُ: وإنَّما أمرَ عليه السَّلامُ بالهَديَّةِ إلى مَن قَرُبَ بابُه؛ لأنَّه يَنظُرُ إلى ما يَدخُلُ دارَ جارِه وما يَخرُجُ مِنها، فإذا رَأى ذلك أحَبَّ أن يُشارِكَه فيه، وأنَّه أسرَعُ إجابةً لجارِه عِندَ ما يَنوبُه مِن حاجةٍ إليه في أوقاتِ الغَفلةِ والغِرَّةِ؛ فلذلك بَدَأ به على مَن بَعُدَ بابُه، وإن كانت دارُه أقرَبَ) [2530] ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 383). وقال السَّرَخسيُّ: (لأنَّ اطِّلاعَه واطِّلاعَ أولادِه على ما يَدخُلُ مَنزِلَه مِنَ النِّعمةِ أكثَرُ، فهو بالهَديَّةِ أحَقُّ). ((المبسوط)) (14/ 94). .
فائِدةٌ:
قال ابنُ أبي جَمرةَ في حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها المَذكورِ آنِفًا: (ظاهِرُ الحَديثِ يَدُلُّ على أنَّ أقرَبَ الجيرانِ مِنك بابًا أَولى بالهَديَّةِ مِن غَيرِه، والكَلامُ عليه مِن وُجوهٍ:
مِنها أن يُقالَ: هَل هذا على طَريقِ الاستِحبابِ أوِ الوُجوبِ؟ فالجَوابُ: أمَّا أن يَكونَ على الوُجوبِ فليسَ بظاهرٍ؛ لأنَّ الهَديَّةَ لم يَقُلْ أحَدٌ: إنَّها واجِبةٌ. فإذا كان الفِعلُ في نَفسِه مَندوبًا فتَقديمُ النَّاسِ فيه بَعضِهم على بَعضٍ مِن بابِ المَندوبِ أيضًا؛ فإنَّه لا يَكونُ الفَرعُ أقوى مِنَ الأصلِ.
وفيه دَليلٌ على أنَّ المُستَحَبَّ في الأعمالِ الأخذُ بما هو أعلى، يُؤخَذُ ذلك مِن إرشادِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِما هو الأفضَلُ في التَّرتيبِ بَينَ الجيرانِ، والأعظَمُ حُرمةً. أليسَ أنَّها لو أهدَت لغَيرِ الأقرَبِ بابًا لكانت مَأجورةً في هَديَّتِها؟ فلمَّا كان الأقرَبُ بابًا أعظَمَ حُرمةً كان بالمَعروفِ أَولى، وكان صاحِبُه أكثَرَ أجرًا، وكذلك السُّنَّةُ في غَيرِ ذلك مِن أفعالِ البرِّ...
وفيه دَليلٌ على تَقديمِ العِلمِ قَبلَ العَمَلِ، يُؤخَذُ ذلك مِن سُؤالِها رَضِيَ اللهُ عنها قَبلَ عَمَلِها.
وفيه أيضًا دَليلٌ على أنَّ آكَدَ الجِهاتِ في الجِوارِ جِهةُ الأبوابِ؛ لأنَّ الذي هو أقرَبُ مِنك بابًا هو الذي تَكثُرُ مُشاهَدَتُه لك، ولكُلِّ ما يَرِدُ عليك. وقد يَعلمُ مِن حالِك لكَثرةِ المُلازَمةِ ما لا يَعلمُه غَيرُه، وأنت أيضًا تَعلَمُ مِن حالِه كذلك.
وفيه دَليلٌ على أنَّ النَّدبَ إلى حِفظِ الجارِ الرِّجالُ والنِّساءُ فيه سَواءٌ. يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِها: «إلى أيِّهما أُهدي؟»؛ فإنَّها سَألت عَمَّا يَخُصُّها في ذلك. ولو كانت في ذلك نائِبةً عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقالت: إلى أيِّهما نُهدي؟) [2531] ((بهجة النفوس)) (4/ 168). .

انظر أيضا: