موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: تَحَرِّي الوقتِ المُناسِبِ للهَديَّةِ


يَنبَغي تَحَرِّي الوقتِ المُناسِبِ للإهداءِ، بما يَزيدُ في سُرورِ المُهدى إليه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّاسَ كانوا يَتَحَرَّونَ بهَداياهم يَومَ عائِشةَ، يَبتَغونَ بها -أو يَبتَغونَ بذلك- مَرضاةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [2532] أخرجه البخاري (2574) واللفظ له، ومسلم (2441). .
وفي روايةٍ: ((أنَّ نساءَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُنَّ حِزبَينِ: فحِزبٌ فيه عائشةُ وحفصةُ وصَفِيَّةُ وسَودةُ، والحِزبُ الآخَرُ أمُّ سَلَمةَ وسائِرُ نِساءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [2533] أي: بقيَّتُهنَّ، وهنَّ: زينبُ بِنتُ جَحشٍ الأسديَّةُ، وأمُّ حبيبةَ الأُمَويَّةُ، وجُوَيريةُ بنتُ الحارِثِ الخُزاعيَّةُ، وميمونةُ بنتُ الحارِثِ الهِلاليَّةُ، دونَ زينبَ بنتِ خُزَيمةَ الهِلاليَّةِ أمِّ المساكينِ. قال ابنُ سَعدٍ: ماتت زينبُ بنتُ خُزَيمةَ قبلَ أن يتزوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّ سَلَمةَ، وأسكَنَ أمَّ سَلَمةَ بَيتَها لمَّا دخل بها. يُنظر: ((الطبقات الكبير)) لابن سعد (10/ 89)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 206، 207). ، وكان المُسلِمون قد عَلِموا حُبَّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عائشةَ، فإذا كانت عِندَ أحَدِهم هديَّةٌ يريدُ أن يُهديَها إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخَّرَها، حتى إذا كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتِ عائشةَ بَعَث صاحِبُ الهديَّةِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتِ عائشةَ، فكَلَّم حزبُ أمِّ سَلَمةَ فقُلْنَ لها: كَلِّمي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكَلِّمُ النَّاسَ فيقولُ: من أراد أن يُهديَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَديَّةً فلْيُهدِها حيثُ كان من بيوتِ نسائِه، فكَلَّمَتْه أمُّ سَلَمةَ بما قُلْنَ، فلم يَقُلْ لها شيئًا، فسأَلْنَها فقالت: ما قال لي شيئًا! فقُلنَ لها: فكَلِّميه. قالت: فكَلَّمْتُه حينَ دار إليها أيضًا، فلم يَقُلْ لها شيئًا. فسأَلْنَها فقالت: ما قال لي شيئًا! فقُلْنَ لها: كَلِّميه حتى يُكَلِّمَك. فدار إليها فكلَّمَتْه، فقال لها: لا تُؤذيني في عائشةَ؛ فإنَّ الوَحيَ لم يأتِني وأنا في ثوبِ امرأةٍ إلَّا عائشةَ. قالت: أتوبُ إلى اللهِ مِن أذاك يا رسولَ اللهِ! ثمَّ إنَّهنَّ دَعَونَ فاطمةَ بنتَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأرسَلَت إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تقولُ: إنَّ نساءَك يَنشُدْنَك العَدلَ في بنتِ أبي بَكرٍ. فكلَّمَتْه، فقال: يا بُنيَّةَ، ألا تُحبِّين ما أحِبُّ؟ قالت: بلى. فرجعَت إليهنَّ فأخبَرَتهنَّ، فقُلنَ: ارجِعي إليه، فأبَتْ أن ترجِعَ، فأرسَلْنَ زينبَ بنتَ جَحشٍ [2534] في روايةٍ قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ((فأرسل أزواجُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينبَ بِنتَ جَحشٍ زَوجَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهي التي كانت تُساميني منهنَّ في المَنزِلةِ عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم أَرَ امرأةً قَطُّ خيرًا في الدِّينِ مِن زَينبَ، وأتقى للهِ، وأصدَقَ حَديثًا، وأوصَلَ للرَّحِمِ، وأعظَمَ صَدَقةً، وأشَدَّ ابتذالًا لنَفْسِها في العَمَلِ الذي تَصَدَّقُ به، وتَقَرَّبُ به إلى اللهِ تعالى، ما عدا سَورةً مِن حِدَّةٍ كانت فيها، تُسرِعُ منها الفَيئةَ)). أخرجها مسلم (2442). ، فأتَتْه فأغلَظَت، وقالت: إنَّ نِساءَك يَنشُدْنَك اللهَ العَدلَ في بنتِ ابنِ أبي قُحافةَ، فرَفَعَت صوتَها حتَّى تناوَلَت عائشةَ وهي قاعِدةٌ، فسَبَّتْها! حتَّى إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَنظُرُ إلى عائشةَ، هل تَكَلَّمُ، قال: فتكَلَّمَت عائشةُ تَرُدُّ على زينبَ حتَّى أسكَتَتْها، قالت: فنظَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عائِشةَ، وقال: إنَّها بنتُ أبي بكرٍ!)) [2535] أخرجها البخاري (2581). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (وفيه تَحَرِّي النَّاسِ بالهَدايا أوقاتَ المَسَرَّةِ ومَواضِعَها مِنَ المُهداةِ إليه؛ ليَزيدَ بذلك في سُرورِه) [2536] ((شرح صحيح البخاري)) (7/ 94). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (طَلَبُ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنه العَدلَ بَينَهنَّ وبَينَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ليس على مَعنى أنَّه جارَ عليهنَّ فمَنعَهنَّ حَقًّا هو لهنَّ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنَزَّهٌ عن ذلك، ولأنَّه لم يَكُنِ العَدلُ بَينَهنَّ واجِبًا عليه، لكِن صَدَر ذلك مِنهنَّ بمُقتَضى الغَيرةِ والحِرصِ على أن يَكونَ لهنَّ مِثلُ ما كان لعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها مِن إهداءِ النَّاسِ له إذا كان في بُيوتِهنَّ، فكَأنَّهنَّ أرَدنَ أن يَأمُرَ مَن أرادَ أن يُهديَ له شَيئًا ألَّا يَتَحَرَّى يَومَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ ولذلك قال: «وكان النَّاسُ يَتَحَرَّونَ بهَداياهم يَومَ عائِشةَ».
ويحتملُ أن يُقالَ: إنَّهنَّ طَلبنَ مِنه أن يُسَوِّيَ بَينَهنَّ في الحُبِّ؛ ولذلك قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها: «ألستِ تُحِبِّينَ مَن أُحِبُّ؟ قالت: بَلى. قال: فأحِبِّي هذه» [2537] أخرجه مسلم (2442) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُه: ((أي بُنَيَّةُ، ألستِ تُحِبِّينَ ما أُحِبُّ؟ فقالت: بَلى، قال فأحِبِّي هذه)). ، وكِلا الأمرَينِ لا يَجِبُ العَدلُ فيه بَينَ النِّساءِ؛ أمَّا الهَديَّةُ فلا تُطلَبُ مِنَ المُهدي، فلا يَتَعَيَّنُ لها وقتٌ، وأمَّا الحُبُّ فغَيرُ داخِلٍ تَحتَ قُدرةِ الإنسانِ ولا كَسْبِه) [2538] ((المفهم)) (6/ 324، 325). .

انظر أيضا: