موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: إطفاءُ النَّارِ وتَغطيةُ الآنيةِ وإغلاقُ الأبوابِ


مما ينبغي قبلَ النومِ: إطفاءُ النَّارِ [4] قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال الطَّبَريُّ: ... مِنَ الحَقِّ على مَن أرادَ المَبيتَ في بَيتٍ ليسَ فيه غَيرُه، وفيه نارٌ أو مِصباحٌ: ألَّا يَبيتَ حتَّى يُطفِئَه أو يُحرِزَه بما يَأمَنُ به إحراقَه وضُرَّه، وكذلك إن كان في البَيتِ جَماعةٌ، فالحَقُّ عليهم إذا أرادوا النَّومَ ألَّا يَنامَ آخِرُهم حتَّى يَفعَلَ ما ذَكَرتُ، لأمرِ النَّبيِّ بذلك، فإن فرَّطَ في ذلك مُفَرِّطٌ فلحِقَه ضَرَرٌ في نَفسٍ أو مالٍ كان لوصيَّةِ النَّبيِّ لأُمَّتِه مُخالفًا، ولأدَبِه تارِكًا...). ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 66). وقال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (مَن أرادَ النَّومَ يُغلِقُ بابَه، ويوكي سِقاءَه، ويُغَطِّي إناءَه، ويُطفِئُ سِراجَه، كذلك رُوِيَ في السُّنَنِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((فصول الآداب)) (ص: 49). ، وإغلاقُ الأبوابِ، وتَغطيةُ الآنيةِ، وإيكاءُ [5] الإيكاءُ: الشَّدُّ، واسمُ السَّيرِ أوِ الخَيطِ الذي يُشَدُّ به السِّقاءُ: الوِكاءُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 299). الأسقِيةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا تَترُكوا النَّارَ في بُيوتِكُم حينَ تَنامونَ)) [6] أخرجه البخاري (6293)، ومسلم (2015). .
قال النَّوويُّ: (هذا عامٌّ تَدخُلُ فيه نارُ السِّراجِ وغَيرُها، وأمَّا القَناديلُ المُعَلَّقةُ في المَساجِدِ وغَيرِها فإن خيف حَريقٌ بسَبَبِها دَخَلت في الأمرِ بالإطفاءِ، وإن أمِنَ ذلك كما هو الغالِبُ فالظَّاهِرُ أنَّه لا بَأسَ بها لانتِفاءِ العِلَّةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَّل الأمرَ بالإطفاءِ بأنَّ الفُوَيسِقةَ تُضرِمُ على أهلِ البَيتِ بَيتَهم، فإذا انتَفتِ العِلَّةُ زال المَنعُ) [7] ((شرح مسلم)) (13/ 187). .
2- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((احتَرَقَ بَيتٌ بالمَدينةِ على أهلِه مِنَ اللَّيلِ، فحُدِّثَ بشَأنِهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: إنَّ هذه النَّارَ إنَّما هيَ عَدوٌّ لكُم [8] قال ابنُ العَرَبيِّ: (مَعناه: أنَّها تُنافي أموالَكُم وأبدانَكُم على الإطلاقِ مُنافاةَ العَدوِّ، ولكِن تَتَّصِلُ مَنفعَتُها بكم بوسائِطَ، فذِكرُ العَداوةِ مَجازٌ لوُجودِ مَعناها فيها). ((المسالك في شرح موطأ مالك)) (7/ 390). ، فإذا نِمتُم فأطفِئوها عنكُم)) [9] أخرجه البخاري (6294) واللفظ له، ومسلم (2016). .
3- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خَمِّروا [10] خَمِّروا: أي: غَطُّوا، والتَّخميرُ: التَّغطيةُ. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بَطَّالٍ (9/ 67). الآنيةَ، وأجيفوا [11] أجيفوا، أي: أغلِقوا، وقيل: رُدُّوا البابَ كَما كان مُغلَقًا، فإنَّه يُفتَحُ بالنَّهارِ للتَّصَرُّفِ، وهما مُتَقارِبانِ. يُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابنِ العَرَبيِّ (7/ 388). الأبوابَ، وأطفِئوا المَصابيحَ؛ فإنَّ الفويسِقةَ [12] قال الخَطَّابيُّ: (الفُوَيسِقةُ هيَ الفأرةُ، وقيل: سُمِّيَت فُوَيسِقةً لخُروجِها مِن جُحرِها على النَّاسِ واغتيالِها إيَّاهم في أموالِهم بالفسادِ. وأصلُ الفِسقِ الخُروجُ، ومِن هذا سُمِّيَ الخارِجُ عنِ الطَّاعةِ فاسِقًا، ويُقالُ: فسَقَتِ الرُّطَبةُ عن قِشرِها: إذا خَرَجَت عنه). ((معالم السنن)) (2/ 185). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (إنَّما سَمَّى الفأرةَ فُوَيسِقةً لأذاها وفسادِها، كما يُفسِدُ الفاسِقُ، قال عليه السَّلامُ: «خَمسُ فواسِقَ يُقتَلنَ في الحِلِّ والحَرَمِ...» الحَديث، فذَكَرَ مِنهنَّ الفأرةَ يُريدُ أنَّهنَّ يَعمَلنَ عَمَلَ الفاسِقِ). ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 66). رُبَّما جَرَّتِ الفتيلةَ فأحرَقَت أهلَ البَيتِ)) [13] أخرجه البخاري (6295) واللفظ له، ومسلم (2012). .
وفي رِوايةٍ: ((إيَّاكُم والسَّمَرَ بَعدَ هدوءِ اللَّيلِ؛ فإنَّ أحَدَكُم لا يَدري ما يَبُثُّ اللهُ مِن خَلقِه، غَلِّقوا الأبوابَ، وأوكوا [14] الإيكاءُ: الشَّدُّ، واسمُ السَّيرِ أوِ الخَيطِ الذي يُشَدُّ به السِّقاءُ: الوِكاءُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 299). السِّقاءَ، وأكفِئوا الإناءَ، وأطفِئوا المَصابيحَ)) [15] أخرجها البخاري في ((الأدب المفرد)) (1230). حسَّنها الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (934)، وقوَّى إسنادَها على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23/130). .
وفي رِوايةٍ أُخرى: ((أطفِئوا المَصابيحَ باللَّيلِ إذا رَقدتُم، وغَلِّقوا الأبوابَ، وأوكوا الأسقيةَ، وخَمِّروا الطَّعامَ والشَّرابَ ولو بعودٍ يَعرُضُه)) [16] أخرجها البخاري (6296). .
وفي رِوايةٍ: ((غَطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ، وأغلِقوا البابَ، وأطفِئوا السِّراجَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَحُلُّ سِقاءً، ولا يَفتَحُ بابًا، ولا يَكشِفُ إناءً، فإن لم يَجِدْ أحَدُكُم إلَّا أن يَعرُضَ على إنائِه عُودًا ويَذكُرَ اسمَ اللهِ، فليَفعَلْ؛ فإنَّ الفُويسِقةَ تُضرِمُ على أهلِ البَيتِ بَيتَهم)) [17] أخرجها مسلم (2012). .
وفي رِوايةٍ: ((إذا كان جُنحُ اللَّيلِ -أو أمسَيتُم- فكُفُّوا صِبيانَكُم؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَنتَشِرُ حينَئِذٍ، فإذا ذَهَبَ ساعةٌ مِنَ اللَّيلِ فخَلُّوهم، وأغلِقوا الأبوابَ، واذكُروا اسمَ اللهِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَفتَحُ بابًا مُغلقًا، وأوكوا قِرَبَكُم، واذكُروا اسمَ اللهِ، وخَمِّروا آنيَتَكُم واذكُروا اسمَ اللهِ، ولو أن تَعرُضوا عليها شَيئًا، وأطفِئوا مَصابيحَكُم)) [18] أخرجها البخاري (5623). .
وفي أُخرى: ((غَطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ؛ فإنَّ في السَّنةِ ليلةً يَنزِلُ فيها وباءٌ، لا يَمُرُّ بإناءٍ ليسَ عليه غِطاءٌ، أو سِقاءٍ ليسَ عليه وِكاءٌ، إلَّا نَزَل فيه مِن ذلك الوَباءِ)) [19] أخرجها مسلم (2014). .
قال النَّوويُّ: (ذَكَرَ العُلَماءُ للأمرِ بالتَّغطيةِ فوائِدَ، مِنها الفائِدَتانِ اللَّتانِ ورَدَتا في هذه الأحاديثِ، وهما صيانَتُه مِنَ الشَّيطانِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَكشِفُ غِطاءً ولا يَحُلُّ سِقاءً، وصيانَتُه مِنَ الوباءِ الذي يَنزِلُ في ليلةٍ مِنَ السَّنةِ، والفائِدةُ الثَّالثةُ: صيانَتُه مِنَ النَّجاسةِ والمُقَذَّراتِ، والرَّابعةُ: صيانَتُه مِنَ الحَشَراتِ والهَوامِّ؛ فرُبَّما وقَعَ شَيءٌ مِنها فيه فشَرِبَه وهو غافِلٌ، أو في اللَّيلِ فيَتَضَرَّرُ به...
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فإنَّ الفُوَيسِقةَ تُضرِمُ على أهلِ البَيتِ بَيتَهم» المُرادُ بالفُوَيسِقةِ الفأرةُ، وتُضرِمُ، أي: تُحرِقُ سَريعًا.
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا كان جُنحُ اللَّيلِ [20] جُنحُ اللَّيلِ هو ظَلامُه، ويُقالُ: أجنَحَ اللَّيلُ، أي: أقبَل ظَلامُه، وأصلُ الجُنوحِ المَيلُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/ 185). -أو أمسَيتُم- فكُفُّوا صِبيانَكُم؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَنتَشِرُ حينَئِذٍ، فإذا ذَهَبَ ساعةٌ مِنَ اللَّيلِ فخَلُّوهم وأغلِقوا البابَ واذكُروا اسمَ اللهِ...» هذا الحَديثُ فيه جُمَلٌ مِن أنواعِ الخَيرِ والأدَبِ الجامِعةِ لمَصالِحِ الآخِرةِ والدُّنيا، فأمَر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذه الآدابِ التي هيَ سَبَبٌ للسَّلامةِ مِن إيذاءِ الشَّيطانِ، وجَعَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ هذه الأسبابَ أسبابًا للسَّلامةِ مِن إيذائِه، فلا يَقدِرُ على كَشفِ إناءٍ ولا حَلِّ سِقاءٍ ولا فَتحِ بابٍ ولا إيذاءِ صَبيٍّ وغَيرِه إذا وُجِدَت هذه الأسبابُ، وهذا كَما جاءَ في الحَديثِ الصَّحيحِ أنَّ العَبدَ إذا سَمَّى عِندَ دُخولِ بَيتِه قال الشَّيطانُ: لا مَبيتَ [21] لفظُه: عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إذا دَخَل الرَّجُلُ بَيتَه فذَكَرَ اللَّهَ عِندَ دُخولِه وعِندَ طَعامِه، قال الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لكُم ولا عَشاءَ، وإذا دَخَل فلم يَذكُرِ اللَّهَ عِندَ دُخولِه قال الشَّيطانُ: أدرَكتُمُ المَبيتَ، وإذا لم يَذكُرِ اللَّهَ عِندَ طَعامِه قال: أدرَكتُمُ المَبيتَ والعَشاءَ)) أخرجه مسلم (2018). ، أي: لا سُلطانَ لنا على المَبيتِ عِندَ هؤلاء، وكذلك إذا قال الرَّجُلُ عِندَ جِماعِ أهلِه: اللهُمَّ جَنِّبْنا الشَّيطانَ وجَنِّبِ الشَّيطانَ ما رَزَقتَنا، كان سَبَبَ سَلامةِ المَولودِ مِن ضَرَرِ الشَّيطانِ [22] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أما لو أنَّ أحَدَهم يَقولُ حينَ يَأتي أهلَه: باسمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبني الشَّيطانَ، وجَنِّبِ الشَّيطانَ ما رَزَقتَنا، ثُمَّ قُدِّرَ بَينَهما في ذلك، أو قُضيَ ولدٌ؛ لم يَضُرَّه شَيطانٌ أبَدًا)). أخرجه البخاري (5165) واللفظ له، ومسلم (1434). ، وكذلك شِبهُ هذا مِمَّا هو مَشهورٌ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ.
وفي هذا الحَديثِ الحَثُّ على ذِكرِ اللهِ تعالى في هذه المَواضِعِ، ويَلحَقُ بها ما في مَعناها...) [23] ((شرح مسلم)) (13/ 183-186). .
ب- مِنَ الآثارِ
عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال عُمَرُ: (إنَّ النَّارَ عَدوٌّ فاحذَروها، فكان ابنُ عُمَرَ يَتبَعُ نيرانَ أهلِه ويُطفِئُها قَبلَ أن يَبيتَ) [24] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1225). صحَّح إسنادَه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (930). .

انظر أيضا: