موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: النَّومُ على طَهارةٍ


يُستَحَبُّ الوضوءُ قبلَ النومِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أتَيتَ مَضجَعَك فتَوضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ، ثُمَّ اضطَجِعْ على شِقِّك الأيمَنِ، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أسلَمتُ وَجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجَأتُ ظَهري إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجَأَ ولا مَنجا مِنك إلَّا إليك، اللهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الذي أنزَلتَ، وبنَبيِّك الذي أرسَلتَ، فإن مُتَّ مِن ليلتِك فأنتَ على الفِطرةِ، واجعَلْهنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ به. قال: فرَدَّدتُها على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا بَلغتُ: اللهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الذي أنزَلتَ، قُلتُ: ورَسولِك، قال: لا، ونَبيِّك الذي أرسَلتَ)) [38] أخرجه البخاري (247) واللفظ له، ومسلم (2710). .
قال ابنُ المُلقِّنِ: (قَولُه: «فتَوضَّأْ» هو للنَّدبِ؛ لأنَّ النَّومَ وفاةٌ، ورُبَّما يَكونُ مَوتًا، فقد تُقبَضُ رُوحُه في نَومِه، فيَكونُ خَتمُ عَمَلِه بالوُضوءِ؛ فيَنبَغي أن يُحافِظَ على ذلك ولا يُفَوِّتَه.
وفيه سِرٌّ آخَرُ، وهو أنَّه أصدَقُ لرُؤياه، وأبعَدُ مِن لَعِبِ الشَّيطانِ به في مَنامِه وتَرويعِه إيَّاه، وما أحسَنَ هذه الخاتِمةَ والدُّعاءَ عَقِبَها الذي هو أفضَلُ الأعمالِ! ولذلك كان ابنُ عُمَرَ يَجعَلُ آخِرَ عَمَلِه الوُضوءَ والدُّعاءَ، فإذا تَكَلَّمَ بَعدَ ذلك استَأنَفها، ثُمَّ يَنامُ على ذلك؛ اقتِداءً بالشَّارِعِ في قَولِه: «واجعَلْهنَّ آخِرَ ما تَكَلَّمُ به».
وهذا الوُضوءُ يَتَأكَّدُ في حَقِّ الجُنُبِ أيضًا عِندَ نَومِه، ولعَلَّه يَنشَطُ للغُسلِ) [39] ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (4/ 535). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: «فتَوضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ» الأمرُ فيه للنَّدبِ، وله فوائِدُ، مِنها أن يَبيتَ على طَهارةٍ لئَلَّا يَبغَتَه المَوتُ، فيَكونُ على هَيئةٍ كامِلةٍ، ويُؤخَذُ مِنه النَّدبُ إلى الاستِعدادِ للمَوتِ بطَهارةِ القَلبِ؛ لأنَّه أَولى مِن طَهارةِ البَدَنِ.... ويَتَأكَّدُ ذلك في حَقِّ المُحدِثِ، ولا سيَّما الجُنُبِ، وهو أنشَطُ للعَودِ، وقد يَكونُ مُنَشِّطًا للغُسلِ، فيَبيتُ على طَهارةٍ كامِلةٍ.
ومِنها أن يَكونَ أصدَقَ لرُؤياه، وأبعَدَ مِن تَلعُّبِ الشَّيطانِ به) [40] ((فتح الباري)) (11/ 110). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (بَيَّن ابنُ عبَّاسٍ مَعنى المَبيتِ على الطَّهارةِ، ذَكَرَ عَبدُ الرَّزَّاقِ عن أبي بَكرِ بنِ عَيَّاشٍ قال: أخبَرَني أبو يَحيى أنَّه سَمِعَ مُجاهدًا يَقولُ: قال لي ابنُ عبَّاسٍ: لا تَنامَنَّ إلَّا على وُضوءٍ، فإنَّ الرُّوحَ تُبعَثُ على ما قُبِضَت عليه. وهذا مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فإن مُتَّ مُتَّ على الفِطرةِ». وذَكَرَ عنِ الأعمَشِ أنَّه بال، ثُمَّ تَيَمَّمَ بالجِدارِ، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن يُدرِكَني المَوتُ قَبلَ أن أتَوضَّأَ. وعنِ الحَكَمِ بنِ عُتَيبةَ أنَّه سَأله رَجُلٌ: أيَنامُ الرَّجُلُ على غَيرِ وُضوءٍ؟ قال: يُكرَهُ ذلك وإنَّا لنَفعَلُه. ورَوى مَعمَرٌ عن سَعيدٍ الجُرَيريِّ عن أبي السليلِ عن أبي [مرايةَ] العِجليِّ، قال: مَن أوى إلى فِراشِه طاهرًا أو نامَ ذاكِرًا كان فِراشُه مَسجِدًا، وكان في صَلاةٍ أو ذِكرٍ حتَّى يَستَيقِظَ. وقال طاوُسٌ: مَن باتَ على طُهرٍ وذِكرٍ كان فِراشُه له مَسجِدًا حتَّى يُصبحَ. ومِثلُ هذا لا يُدرَكُ بالرَّأيِ، وإنَّما يُؤخَذُ بالتَّوقيفِ). ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 83). .
2- عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما مِن مُسلمٍ يَبيتُ على ذِكرٍ طاهِرًا، فيتعارُّ [41] قال الخَطَّابيُّ: (يتعارُّ: مَعناه يَستَيقِظُ مِنَ النَّومِ، وأصلُ التَّعارِّ السَّهَرُ والتَّقَلُّبُ على الفِراشِ، ويُقالُ: إنَّ التَّعارَّ لا يَكونُ إلَّا مَعَ كَلامٍ وصَوتٍ، وهو مَأخوذٌ مِن عَرارِ الظَّليمِ). ((معالم السنن)) (4/ 143). وقال التُّورِبِشتيُّ: (تَعارَّ يتعارُّ يُستَعمَلُ في انتِباهٍ مَعَه صَوتٌ، يُقالُ: تَعارَّ الرَّجُلُ: إذا هَبَّ مِن نَومِه مَعَ صَوتٍ، ويُحتَمَلُ أنَّه أُخِذ مِن عِرارِ الظَّليمِ، وهو صَوتُه، يُقالُ: عارَّ الظَّليمُ يُعارُّ، ويَقولُ بَعضُهم: عرَّ الظَّليمُ يَعِرُّ عِرارًا، كَما قالوا: زَمَرَ النَّعامُ يَزمِرُ زِمَارًا. وأرى استِعمالَ هذا اللَّفظِ في هذا المَوضِعِ دونَ الهبوبِ والانتِباهِ والاستيقاظِ وما في مَعناه لزيادةِ مَعنًى، وهو أرادَ أن يُخبرَ بأنَّ مَن هَبَّ مِن نَومِه ذاكِرًا للهِ تعالى مَعَ الهبوبِ فسَأل اللهَ خَيرًا أعطاه إيَّاه. فأوجَزَ في اللَّفظِ وأعرَضَ في المَعنى، فأتى مِن جَوامِعِ الكَلمِ التي أوتيَها بقَولِه: «تَعارَّ» ليَدُلَّ على المَعنَيَينِ، وأراه مِثلَ قَولِه سُبحانَه يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء: 107]؛ فإنَّ مَعنى خَرَّ: سَقَطَ على اجتِماعِ أمرَينِ: السُّقوطِ، وحُصولِ الصَّوتِ مِنهم بالتَّسبيحِ، وكذلك في قَولِه: «تَعارَّ» تَنبيهٌ على الجَمعِ بَينَ الانتِباهِ والذِّكرِ، وإنَّما يوجَدُ ذلك عِندَ مَن تَعوَّد الذِّكرَ فاستَأنَسَ به وغَلبَ عليه حتَّى صارَ حَديثَ نَفسِه في نَومِه ويَقَظَتِه، وللَّهِ قائِلُه: يَهيمُ فُؤادي ما حَيِيتُ بذِكرِها ولو أنَّني [قد متُّ جاوبها] الصَّدى واللَّهَ أعلمُ بالصَّوابِ). ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (1/ 311). مِنَ اللَّيلِ، فيَسألُ اللَّهَ خَيرًا مِنَ الدُّنيا والآخِرةِ إلَّا أعطاه إيَّاه)) [42] أخرجه أبو داود (5042) واللفظ له، وابن ماجه (3881)، وأحمد (22114). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5042)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22114)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/83). .
فائِدةٌ في وُضوءِ الجنبِ قبلَ أنْ ينامَ:
يُسَنُّ للجُنُبِ أن يَتَوضَّأَ إذا أرادَ أن يَنامَ قَبلَ أن يَغتَسِلَ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ سَأل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيَرقُدُ أحَدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال: نَعَمْ، إذا تَوضَّأ أحَدُكُم فليَرقُدْ وهو جُنُبٌ)) [43] أخرجه البخاري (287) واللفظ له، ومسلم (306). .
وفي رِوايةٍ: ((ذَكَر عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه تُصيبُه الجَنابةُ مِنَ اللَّيلِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَوضَّأْ واغسِلْ ذَكَرك، ثُمَّ نَمْ)) [44] أخرجها البخاري (290). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أرادَ أن يَنامَ وهو جُنُبٌ غَسَل فَرجَه، وتَوضَّأَ للصَّلاةِ)) [45] أخرجه البخاري (288) واللفظ له، ومسلم (305). .
وفي رِوايةٍ عن أبي سَلَمةَ، قال: سَألتُ عائِشةَ: ((أكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرقُدُ وهو جُنُبٌ؟ قالت: نَعَم، ويَتَوضَّأُ)) [46] أخرجها البخاري (286). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ أبي قَيسٍ، قال: ((سَألتُ عائِشةَ عن وِترِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فذَكَرَ الحَديثَ، قُلتُ: كَيف كان يَصنَعُ في الجَنابةِ؟ أكان يَغتَسِلُ قَبلَ أن يَنامَ، أم يَنامُ قَبلَ أن يَغتَسِلَ؟ قالت: كُلُّ ذلك قد كان يَفعَلُ؛ رُبَّما اغتَسَل فنامَ، ورُبَّما تَوضَّأ فنامَ، قُلتُ: الحَمدُ للهِ الذي جَعَل في الأمرِ سَعةً)) [47] أخرجه مسلم (307). .

انظر أيضا: