ثاني عشرَ: الاعتِدالُ في النَّومِ وعدمُ الإكثارِ منه
يَنبَغي أن يَعتَدِلَ المَرءُ في نَومِه، فيَنامَ بقَدرِ حاجَتِه، مِن غَيرِ إفراطٍ أو تَفريطٍ.
مِن أضرارِ كثرةِ النَّومِ1- قال الغَزاليُّ: (لا تَستَجلِبِ النَّومَ تَكَلُّفًا بتَمهيدِ الفُرُشِ الوطيئةِ؛ فإنَّ النَّومَ تَعطيلٌ لحَياةٍ، إلَّا إذا كانت وَبالًا عليك؛ فنَومُك سَلامةٌ لدينِك.
واعلَمْ أنَّ اللَّيلَ والنَّهارَ أربَعٌ وعِشرونَ ساعةً؛ فلا يَكُنْ نَومُك باللَّيلِ والنَّهارِ أكثَرَ مِن ثَماني ساعاتٍ، فيَكفيك إن عِشتَ مَثَلًا سِتِّينَ سَنةً أن تُضيعَ مِنها عِشرينَ سَنةً، وهو ثُلثُ عُمرِك!)
[106] ((بداية الهداية)) (ص: 43). .
وقال أيضًا: (مَن شَبعَ شَرِبَ كَثيرًا، ومَن كَثُرَ شُربُه كَثُرَ نَومُه، ولأجلِ ذلك كان بَعضُ الشُّيوخِ يَقولُ عِندَ حُضورِ الطَّعامِ: مَعاشِرَ المُريدينَ، لا تَأكُلوا كَثيرًا فتَشرَبوا كَثيرًا فتَرقُدوا كَثيرًا؛ فتَخسَروا كَثيرًا...
وفي كَثرةِ النَّومِ ضَياعُ العُمرِ، وفَوتُ التَّهَجُّدِ، وبَلادةُ الطَّبعِ، وقَساوةُ القَلبِ، والعُمرُ أنفَسُ الجَواهِرِ، وهو رَأسُ مالِ العَبدِ، فيه يَتَّجِرُ، والنَّومُ مَوتٌ؛ فتَكثيرُه يَنقُصُ العُمرَ، ثُمَّ فضيلةُ التَّهَجُّدِ لا تَخفى، وفي النَّومِ فَواتُها، ومَهما غَلبَ النَّومُ فإن تَهَجَّدَ لم يَجِدْ حَلاوةَ العِبادةِ)
[107] ((إحياء علوم الدين)) (3/ 86). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ في ضَرَرِ كَثرةِ النَّومِ وهو يَتَحَدَّثُ عن مُفسِداتِ القَلبِ:
(المُفسِدُ الخامِسُ: كَثرةُ النَّومِ؛ فإنَّه يُميتُ القَلبَ، ويُثقِلُ البَدَنَ، ويُضيعُ الوقتَ، ويورِثُ كَثرةَ الغَفلةِ والكَسَلَ، ومِنه المَكروهُ جِدًّا، ومِنه الضَّارُّ غَيرُ النَّافِعِ للبَدَنِ، وأنفَعُ النَّومِ ما كان عِندَ شِدَّةِ الحاجةِ إليه، ونَومُ أوَّلِ اللَّيلِ أحمَدُ وأنفَعُ مِن آخِرِه، ونَومُ وَسَطِ النَّهارِ أنفَعُ مِن طَرَفَيه
[108] عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كانوا يُجَمِّعونَ ثُمَّ يَقيلونَ). أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1240). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (940). وعن خُبَيبِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عن عَمَّتِه أنيسةَ -وكانت قد حَجَّت مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قالت: (كان رِجالُنا يُجَمِّعونَ مَعَ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه، ثُمَّ يَرجِعونَ وأردَيتُهم على رؤوسِهم، يَتبَعونَ فيءَ الحيطانِ، ثُمَّ يَقيلونَ بَعدَها). أخرجه ابنُ سَعد في ((الطبقات الكبرى)) (10819)، ومسدد كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (2/311) واللفظ له. صحَّح إسنادَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (2/311)، وابن حجر في ((المطالب العالية)) (1/287). وعنِ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ، قال: (كان عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه يَمُرُّ بنا نِصفَ النَّهارِ أو قَريبًا مِنه فيَقولُ: قوموا فقيلوا، فما بَقيَ فللشَّيطانِ). أخرجه البخاريُّ في ((الأدب المفرد)) (1239). حسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (939). ، وكُلَّما قَرُبَ النَّومُ مِنَ الطَّرَفينِ قَلَّ نَفعُه، وكَثُرَ ضَرَرُه، ولا سيَّما نَومِ العَصرِ، والنَّومِ أوَّلِ النَّهارِ إلَّا لسَهرانَ
[109] عن خوَّاتِ بنِ جُبَيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (نَومُ أوَّلِ النَّهارِ خُرقٌ، وأوسَطُه خُلُقٌ، وآخِرُه حُمقٌ). أخرجه ابنُ أبي شيبة (27212)، والحاكمُ (8007)، والبيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) (4407). صحَّح إسنادَه ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (11/72)، والألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (942). .
ومِنَ المَكروهِ عِندَهمُ النَّومُ بَينَ صَلاةِ الصُّبحِ وطُلوعِ الشَّمسِ؛ فإنَّه وَقتُ غَنيمةٍ، وللسَّيرِ ذلك الوَقتَ عِندَ السَّالِكينَ مَزيَّةٌ عَظيمةٌ، حتَّى لو ساروا طولَ لَيلِهم لم يَسمَحوا بالقُعودِ عنِ السَّيرِ ذلك الوَقتَ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ؛ فإنَّه أوَّلُ النَّهارِ ومِفتاحُه، ووقتُ نُزولِ الأرزاقِ، وحُصولِ القَسْمِ، وحُلولِ البَرَكةِ، ومِنه يَنشَأُ النَّهارُ، ويَنسَحِبُ حُكمُ جَميعِه على حُكمِ تلك الحِصَّةِ؛ فيَنبَغي أن يَكونَ نَومُها كنَومِ المُضطَرِّ
[110] عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: (كان عَبدُ اللَّهِ إذا صَلَّى الفَجرَ لم يَدَعْ أحَدًا مِن أهلِه صَغيرًا ولا كَبيرًا يُطرِقُ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ). أخرجه ابن أبي شَيبة (26909). وقال ابنُ مُفلِحٍ: (رَأى عَبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ ابنًا له نائِمًا نَومةَ الضُّحى فقال له: قُمْ، أتَنامُ في السَّاعةِ التي تُقَسَّمُ فيها الأرزاقُ؟! وذلك؛ لأنَّه وقتُ طَلَبِ الرِّزقِ والسَّعيِ فيه شَرعًا وعُرفًا عِندَ العُقَلاءِ). ((الآداب الشرعية)) (3/ 161). .
وبالجُملةِ، فأعدَلُ النَّومِ وأنفَعُه نَومُ نِصفِ اللَّيلِ الأوَّلِ، وسُدسِه الأخيرِ، وهو مِقدارُ ثَمانِي ساعاتٍ
[111] قال القاسِميُّ في أدَبِ النَّومِ: (يَجتَنِبُ النَّومَ في مَحَلٍّ غَيرِ مَسقوفٍ؛ لأنَّه يَكونُ عُرضةً للتَّغَيُّراتِ الجَوِّيَّةِ... ولا بَأسَ بالقَيلولةِ في النَّهارِ الطَّويلِ، أو طَلبِ الجِسمِ لها مُطلَقًا، ومُدَّةُ النَّومِ مِن سِتِّ ساعاتٍ إلى ثَمانٍ، والزِّيادةُ عليها تورِثُ العَقلَ خُمودًا). ((جوامع الآداب)) (ص: 157). ، وهذا أعدَلُ النَّومِ عِندَ الأطِبَّاءِ، وما زادَ عليه أو نَقَصَ مِنه أثَّر عِندَهم في الطَّبيعةِ انحِرافًا بحَسَبِه.
ومِنَ النَّومِ الذي لا يَنفعُ أيضًا النَّومُ أوَّلَ اللَّيلِ عَقيبَ غُروبِ الشَّمسِ، حتَّى تَذهَبَ فَحمةُ العِشاءِ
[112] قال ابنُ الجَوزيِّ: (فَحمةُ العِشاءِ، بفتحِ الحاءِ وسُكونِها: شَدَّةُ سَواد اللَّيل وظُلمَتُه، وإنَّما يَكونُ ذلك في أوَّل اللَّيل). ((كشف المشكل)) (3/ 19). ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكرَهُه
[113] عن أبي بَرزةَ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَكرَهُ النَّومَ قَبلَ العِشاءِ والحَديثَ بَعدَها)). أخرجه البخاري (568) واللَّفظُ له، ومسلم (647). ؛ فهو مَكروهٌ شَرعًا وطَبعًا.
وكَما أنَّ كَثرةَ النَّومِ مُورِثةٌ لهذه الآفاتِ فمُدافعَتُه وهَجرُه مورِثٌ لآفاتٍ أُخرى عِظامٍ: مِن سوءِ المِزاجِ ويُبسِه، وانحِرافِ النَّفسِ، وجَفافِ الرُّطوباتِ المُعينةِ على الفَهمِ والعَمَلِ، ويورِثُ أمراضًا مُتلِفةً لا يَنتَفِعُ صاحِبُها بقَلبِه ولا بَدَنِه مَعَها، وما قامَ الوُجودُ إلَّا بالعَدلِ، فمَنِ اعتَصَمَ به فقد أخَذَ بحَظِّه مِن مَجامِعِ الخَيرِ)
[114] ((مدارج السالكين)) (1/ 456، 457). .