موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: ألَّا يُخبرَ بالرُّؤيا الحَسَنةِ إلَّا عالِمًا، أو مُحِبًّا ناصِحًا


يُستَحَبُّ إذا رَأى رُؤيا حَسَنةً ألَّا يُخبرَ بها إلَّا عالِمًا أو مُحِبًّا ناصِحًا [130] قال ابنُ العَرَبيِّ: (إن كانت بُشرى أو شَكَكتَ فيها فلا تُحَدِّثْ بها إلَّا عالِمًا ناصِحًا كَما قال أبو عيسى: العالمُ يَعبُرُها له على الخَيرِ إذا أمكَنَه، والنَّاصِحُ يُرشِدُه إلى ما يَنفعُه ويُعِينُه عليه، ورُوِيَ في آخَرَ: «ولا تُحَدِّثْ بها إلَّا حَبيبًا أو لبيبًا»، أمَّا الحَبيبُ فإذا عَرَف قال، وإن جَهِل سَكَتَ، وأمَّا اللَّبيبُ -وهو العاقِلُ العارِفُ بتَأويلِها- فإنَّه يُنبئُك بما تُعَوِّلُ عليه فيها، وإن ساءَته سَكَتَ عنك وتَرَكَها). ((عارضة الأحوذي)) (9/ 129). وقال ابنُ حَجَرٍ بَعدَ ذِكرِه كَلامَ ابنِ العَرَبيِّ: (والأَولى الجَمعُ بَينَ الرِّوايَتَينِ؛ فإنَّ اللَّبيبَ عُبِّرَ به عنِ العالمِ، والحَبيبَ عُبِّرَ به مِنَ النَّاصِحِ). ((فتح الباري)) (12/ 369). ، ولا يَقُصَّها على مُبغِضٍ أو حاسِدٍ [131] قال النَّوويُّ: (أمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرُّؤيا المَحبوبةِ الحَسَنةِ: «لا تُخبِرْ بها إلَّا مَن تُحِبُّ» فسَبَبُه أنَّه إذا أخبَرَ بها مَن لا يُحِبُّ رُبَّما حَمَله البُغضُ أوِ الحَسَدُ على تَفسيرِها بمَكروهٍ؛ فقد يَقَعُ على تلك الصِّفةِ، وإلَّا فيَحصُلُ له في الحالِ حُزنٌ ونَكَدٌ مِن سوءِ تَفسيرِها. واللَّهُ أعلمُ). ((شرح مسلم)) (15/ 18). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ:
قال تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف: 4-5] .
في الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الرُّؤيا لا تُقَصُّ على غَيرِ شَفيقٍ ولا ناصِحٍ، ولا على امرِئٍ لا يُحسِنُ التَّأويلَ فيها، وفيها الحَثُّ على التَّحَرُّزِ مِمَّا يُخشى ضُرُّه؛ فالإنسانُ مَأمورٌ بالاحتِرازِ، فإن نَفَع فذاكَ، وإلَّا لم يَلُمِ العَبدُ نَفسَه، وفيها دَلالةٌ على جَوازِ تَركِ إظهارِ النِّعمةِ لِمَن يُخشى مِنه حَسَدٌ ومَكرٌ، فليسَ للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمَتِه عنِ الحاسِدِ [132] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (11/ 25، 26). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إذا رَأى أحَدُكُم رُؤيا يُحِبُّها فإنَّما هيَ مِنَ اللهِ، فليَحمَدِ اللَّهَ عليها، وليُحَدِّثْ بها...)) [133] أخرجه البخاريُّ (9685). .
2- عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((الرُّؤيا الصَّالحةُ مِنَ اللهِ، والرُّؤيا السُّوءُ مِنَ الشَّيطانِ... فإن رَأى رُؤيا حَسَنةً فليُبشِرْ، ولا يُخبِرْ إلَّا مَن يُحِبُّ)) [134] أخرجه مسلمٌ (2261). .
وفي رِوايةٍ: ((الرُّؤيا الصَّالحةُ مِنَ اللهِ، فإذا رَأى أحَدُكُم ما يُحِبُّ فلا يُحَدِّثْ بها إلَّا مَن يُحِبُّ)) الحَديثَ [135] أخرجها البخاريُّ (7044)، ومسلمٌ (2261) واللفظُ له. .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الرُّؤيا ثَلاثٌ؛ فرُؤيا حَقٍّ، ورُؤيا يُحَدِّثُ بها الرَّجُلُ نَفسَه، ورُؤيا تَحزينٍ مِنَ الشَّيطانِ، فمَن رَأى ما يَكرَهُ فليَقُمْ فليُصَلِّ، وكان يَقولُ: يُعجِبُني القَيدُ، وأكرَهُ الغُلَّ [136] الغُلُّ بالضَّمِّ، هيَ جامِعةٌ مِن حَديدٍ أو شِبهِه تُجعَلُ في العُنُقِ. يُنظر: ((مطالع الأنوارِ)) لابن قرقول (5/ 149). قال النَّوويُّ: (قال العُلماءُ: إنَّما أحَبَّ القَيدَ؛ لأنَّه في الرِّجلَينِ، وهو كَفٌّ عنِ المَعاصي والشُّرورِ وأنواعِ الباطِلِ، وأمَّا الغُلُّ فمَوضِعُه العُنُقُ، وهو صِفةُ أهلِ النَّارِ، قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا [يس: 8] ، وقال الله تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [غافر: 71] . وأمَّا أهلُ العِبارةِ فنَزَّلوا هاتَينِ اللَّفظَتَينِ مَنازِلَ). ((شرح مسلم)) (15/ 22، 23). ويُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 216)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 21، 22)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 410). ، القَيدُ: ثَباتٌ في الدِّينِ، وكان يَقولُ: مَن رَآني فإنِّي أنا هو؛ فإنَّه ليسَ للشَّيطانِ أن يَتَمَثَّلَ بي، وكان يَقولُ: لا تَقُصَّ الرُّؤيا إلَّا على عالمٍ أو ناصِحٍ)) [137] أخرجه الترمذيُّ (2280) واللفظُ له، والدارميُّ (2193)، والطبرانيُّ في ((المعجم الأوسط)) (7275) مختصرًا. صحَّحه ابنُ الملقنِ في ((شرح البخاري)) (32/126)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2280)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. وأصلُه في صحيح مسلم (2263) ولفظه: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اقْتَرَبَ الزَّمانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيا المُسْلِمِ تَكْذِبُ، وأَصْدَقُكُمْ رُؤْيا أصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، ورُؤْيا المُسْلِمِ جُزْءٌ مِن خَمْسٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، والرُّؤْيا ثَلاثَةٌ: فَرُؤْيا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، ورُؤْيا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطانِ، ورُؤْيا ممَّا يُحَدِّثُ المَرْءُ نَفْسَهُ، فإنْ رَأَى أحَدُكُمْ ما يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، ولا يُحَدِّثْ بها النَّاسَ قالَ: وأُحِبُّ القَيْدَ وأَكْرَهُ الغُلَّ والْقَيْدُ ثَباتٌ في الدِّينِ)). .
4- عن أبي رَزينٍ العُقيليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُؤيا المُؤمِنِ جُزءٌ مِن أربَعينَ جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ، وهيَ على رِجلِ طائرٍ [138] هذا مَثَلٌ، يَعني: الطَّائِرَ إذا كان يَطيرُ في الهَواءِ لا قَرارَ له، يَعني: الرُّؤيا قَبلَ التَّعبيرِ لا يَثبُتُ شَيءٌ مِن تَعبيرِها على الرَّائي، ولا يَلحَقُه مِنها ضَرَرٌ، بَل تَحتَمِلُ تلك الرُّؤيا أشياءَ كَثيرةً، فإذا عُبِّرَت ثَبَتَ للرَّائي حُكمُ تَعبيرِها خَيرًا كان أو شَرًّا. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (5/ 113). ما لم يُحَدِّثْ بها، فإذا حَدَّثَ بها سَقَطَت -وأحسَبُه قال: لا يُحَدِّث بها إلَّا حَبيبًا أو لبيبًا)) [139] أخرجه الترمذيُّ (2278)، وأحمد (16197) واللفظُ له. صحَّحه لغيرِه الألبانيُّ في ((هداية الرواة)) (4545)، وحسَّنه البغويُّ في ((شرح السنة)) (6/299)، وحسَّنه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريجِ ((مسند أحمد)) (16197). .
وفي أُخرى: ((ولا يَقُصَّها إلَّا على حَبيبٍ أو لبيبٍ أو ذي مَودَّةٍ)) [140] أخرجه الطحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (681). حسَّنه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (681). .
وفي رِوايةٍ: ((ولا تَقُصَّها إلَّا على وادٍّ [141] وادٍّ -بتشديدِ الدَّالِ-: اسمُ فاعلٍ مِنَ الوُدِّ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 369). ، أو ذي رأيٍ)) [142] أخرجها أبو داودَ (5020) واللفظُ له، وابنُ ماجه (3914)، وأحمدُ (16182). صحَّحه لغيرِه الألباني في ((هداية الرواة)) (4545)، وحسَّنه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريجِ ((سنن أبي داود)) (5020). .
قال الخَطَّابيُّ: (مَعنى هذا الكَلامِ حُسنُ الارتيادِ لمَوضِعِ الرُّؤيا، واستِعبارُها العالمَ بها المَوثوقَ برَأيِه وأمانَتِه.
وقَولُه: على رِجلِ طائِرٍ، مَثَلٌ ومَعناه: أنَّها لا تَستَقِرُّ قَرارَها ما لم تُعبَرْ.
وقال أبو إسحاقَ الزَّجَّاجُ في قَولِه: «لا يَقُصَّها إلَّا على وادٍّ أو ذي رَأيٍ»: الوادُّ لا يُحِبُّ أن يَستَقبِلَك في تَفسيرِها إلَّا بما تُحِبُّ، وإن لم يَكُنْ عالِمًا بالعِبارةِ، ولم يَعجَلْ لك بما يَغُمُّك، لا أن تَعبيرَه يُزيلُها عَمَّا جَعَله اللهُ عليه.
وأمَّا ذو الرَّأيِ فمَعناه ذو العِلمِ بعِبارَتِها؛ فهو يُخبرُك بحَقيقةِ تَفسيرِها أو بأقرَبِ ما يعلَمُ مِنها، ولعَلَّه أن يَكونَ في تَفسيرِه مَوعِظةٌ تَردَعُك عن قَبيحٍ أنت عليه، أو تَكونَ فيها بُشرى، فتَشكُرَ اللَّهَ على النِّعمةِ فيها) [143] ((معالم السنن)) (4/ 140). .

انظر أيضا: