موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: ذِكرُ اللهِ عِندَ الاستيقاظِ


مِن السُّنَّةِ أن يَذكُرَ المسلمُ ربَّه عَزَّ وجَلَّ عِندَ استيقاظِه، فيَكونَ الله سبحانَه أوَّلَ مَذكورٍ له، كَما كان آخِرَ مَذكورٍ له قَبلَ نَومِه [236] قال الغَزاليُّ: (إذا استَيقَظتَ مِنَ النَّومِ فاجتَهِدْ أن تَستَيقِظَ قَبلَ طُلوعِ الفجرِ، وليَكُنْ أوَّلَ ما يَجري على قَلبِك ولسانِك ذِكرُ اللهِ تعالى). ((بداية الهداية)) (ص: 29). وقال ابنُ القَيِّمِ في وَصفِ حالِ السَّابقينَ المُقَرَّبينَ وقُلوبِهم: (... فإذا استَيقَظَ هذا القَلبُ مِن مَنامِه صَعِدَ إلى اللهِ بهَمِّه وحُبِّه وأشواقِه مُشتاقًا إليه طالبًا له مُحتاجًا إليه عاكِفًا عليه، فحالُه كَحالِ المُحِبِّ الذي غابَ عن مَحبوبِه الذي لا غِنى له عنه، ولا بُدَّ له مِنه، وضَرورتُه إليه أعظَمُ مِن ضَرورَتِه إلى النَّفَسِ والطَّعامِ والشَّرابِ، فإذا نامَ غابَ عنه، فإذا استَيقَظَ عادَ إلى الحَنينِ إليه، وإلى الشَّوقِ الشَّديدِ والحُبِّ المُقلقِ؛ فحَبيبُه آخِرُ خَطَراتِه عِندَ مَنامِه وأوَّلُها عِندَ استيقاظِه، كَما قال بَعضُ المُحِبِّينَ لمَحبوبِه: وآخِرُ شَيءٍ أنتَ في كُلِّ هَجعةٍ وأوَّلُ شَيءٍ أنتَ عِند هُبوبي فقد أفصَحَ هذا المُحِبُّ عن حَقيقةِ المَحَبَّةِ وشُروطِها، فإذا كان هذا في مَحَبَّةِ مَخلوقٍ لمَخلوقٍ، فما الظَّنُّ بمَحَبَّةِ المَحبوبِ الأعلى؟! فأُفٍّ لقَلبٍ لا يَصلُحُ لهذا ولا يُصَدِّقُ به، لقد صُرِف عنه خَيرُ الدُّنيا والآخِرةِ! فإذا استَيقَظَ أحَدُهم وقد بَدَرَ إلى قَلبِه هذا الشَّأنُ، فأوَّلُ ما يَجري على لسانِه ذِكرُ مَحبوبِه والتَّوجُّهُ إليه، واستِعطافُه والتَّمَلُّقُ بَينَ يَدَيه، والاستِعانةُ به أن لا يُخَلِّيَ بَينَه وبَينَ نَفسِه، وألَّا يَكِلَه إليها فيَكِلَه إلى ضَيعةٍ وعَجزٍ وذَنَبٍ وخَطيئةٍ، بَل يَكلَؤه كِلاءةَ الوليدِ الذى لا يَملِكُ لنَفسِه ضُرًّا ولا نَفعًا ولا مَوتًا ولا حَياةً ولا نُشورًا، فأوَّلُ ما يَبدَأُ به: الحَمدُ للهِ الذي أحيانا بَعدَ ما أماتَنا وإليه النُّشورُ، مُتَدَبِّرًا لمَعناها مِن ذِكرِ نِعمةِ اللهِ عليه بأن أحياه بَعدَ نَومِه الذي هو أخو المَوتِ، وأعادَه إلى حالِه سَويًّا سَليمًا مَحفوظًا مِمَّا لا يَعلَمُه ولا يَخطُرُ ببالِه مِنَ المُؤذياتِ والمُهلِكاتِ التي هو غَرَضٌ وهَدَفٌ لسِهامِها، كُلُّها تَقصِدُه بالهَلاكِ أوِ الأذى، والتي مِن بَعضِها أرواحُ شَياطينِ الإنسِ والجِنِّ، فإنَّها تَلتَقي برُوحِه إذا نامَ فتَقصِدُ إهلاكَه وأذاه، فلولا أنَّ اللَّهَ سُبحانَه يَدفعُ عنه لما سَلِمَ. هذا وكَم يَلقى الرُّوحَ في تلك الغَيبةِ مِن أنواعِ الأذى والمَخاوِفِ والمَكارِهِ والتَّفزيعاتِ ومُحارَبةِ الأعداءِ، والتَّشويشِ والتَّخبيطِ بسَبَبِ مُلابَسَتِها لتلك الأرواحِ، فمِنَ النَّاسِ مَن يَشعُرُ بذلك لرِقَّةِ روحِه ولطافتِها، ويَجِدُ آثارَ ذلك فيها إذا استَيقَظَ مِنَ الوحشةِ والخَوفِ والفزَعِ والوَجَعِ الرُّوحيِّ الذي رُبَّما غَلبَ حتَّى سَرى إلى البَدَنِ، ومِنَ النَّاسِ مَن تَكونُ رُوحُه أغلَظَ وأكثَفَ وأقسى مِن أن تَشعُرَ بذلك، فهيَ مُثخَنةٌ بالجِراحِ مُزمَنةٌ بالأمراضِ، ولكِن لمَوتِها لا تُحِسُّ بذلك. هذا، وكَم مِن مُريدٍ لإهلاكِ جِسمِه مِنَ الهَوامِّ وغَيرِها، وقد حَفِظَه مِنه، فهيَ في أجحارِها مَحبوسةٌ عنه لو خُلِّيَت وطَبْعَها لأهلكَته، فمَن ذا الذي كَلأه وحَرَسَه وقد غابَ عنه حِسُّه وعِلمُه وسَمعُه وبَصَرُه؟! فلو جاءَه البَلاءُ مِن أيِّ مَكانٍ جاءَ لم يَشعُرْ به؛ ولهذا ذَكَّرَ سُبحانَه عِبادَه هذه النِّعمةَ وعَدَّها عليهم مِن جُملةِ نِعَمِه، فقال: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 42] . فإذا تَصَوَّرَ العَبدُ ذلك فقال: "الحَمدُ للَّهِ" كان حَمدُه أبلغَ وأكمَلَ مِن حَمدِ الغافِلِ عن ذلك، ثُمَّ يُفكِّرُ في أنَّ الذي أعادَه بَعدَ هذه الإماتةِ حَيًّا سَليمًا قادِرٌ على أن يُعيدَه بَعدَ مَوتَتِه الكُبرى حَيًّا كَما كان؛ ولهذا يَقولُ بَعدَها: "وإليه النُّشورُ"). ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 209، 210). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يعقِدُ الشَّيطانُ على قافيةِ رَأسِ أحَدِكم إذا هو نام ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضرِبُ كُلَّ عُقدةٍ: عليك ليلٌ طَويلٌ فارقُدْ، فإن استَيقَظَ فذَكرَ اللهَ انحَلَّت عُقدةٌ، فإن تَوضَّأ انحَلَّت عُقدةٌ، فإن صَلَّى انحَلَّت عُقدةٌ، فأصبَحَ نَشيطًا طَيِّبَ النَّفسِ، وإلَّا أصبَحَ خَبيثَ النَّفسِ كَسلانَ)) [237] أخرجه البخاري (1142) واللفظُ له، ومسلم (2275). .
2- عن حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أخَذَ مَضجَعَه مِنَ اللَّيلِ وَضَع يَدَه تَحتَ خَدِّه، ثُمَّ يَقولُ: اللهُمَّ باسمِك أموتُ وأحيا. وإذا استَيقَظَ قال: الحَمدُ للهِ الذي أحيانا بَعدَ ما أماتَنا وإليه النُّشورُ)) [238] أخرجه البخاري (6314). .
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أخَذَ مَضجَعَه مِنَ اللَّيلِ قال: اللهُمَّ باسمِك أموتُ وأحيا. فإذا استَيقَظَ قال: الحَمدُ للهِ الذي أحيانا بَعدَ ما أماتَنا وإليه النُّشورُ)) [239] أخرجه البخاري (6325). .
وعنِ البَراءِ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا أخَذَ مَضجَعَه قال: اللهُمَّ باسمِك أحيا، وباسمِك أموتُ. وإذا استَيقَظَ قال: الحَمدُ للهِ الذي أحيانا بَعدَما أماتَنا وإليه النُّشورُ)) [240] أخرجه مسلم (2711). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قامَ أحَدُكُم عن فِراشِه ثُمَّ رَجَعَ إليه فليَنفُضْه بصَنِفةِ [241] صَنِفةُ الإزارِ: طَرَفُه مِن جانِبِ هُدْبِه. وقيل: مِن جانِبِ حاشيَتِه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 267). إزارِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ فإنَّه لا يَدري ما خَلَفَه عليه [242] خَلَفَه عليه: المُرادُ: ما يَكونُ قد دَبَّ على فِراشِه بَعدَ مُفارَقَتِه له، يقالُ: خَلَف فُلانٌ فُلانًا: إذا قامَ مَقامَه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 267). بَعدُ، فإذا اضطَجَعَ فليَقُلْ: باسمِك رَبِّي وضَعتُ جَنبي، وبك أرفعُه، فإن أمسَكتَ نَفسي فارحَمْها، وإن أرسَلتَها فاحفَظْها بما تَحفَظُ به عِبادَك الصَّالحينَ، فإذا استَيقَظَ فليَقُلِ: الحَمدُ للهِ الذي عافاني في جَسَدي، ورَدَّ عليَّ رُوحي، وأَذِنَ لي بذِكرِه)) [243] أخرجه الترمذي (3401) واللفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10636، 10660) مفرَّقًا، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (ص689). حسَّنه الترمذيُّ، وابنُ حجرٍ في ((نتائج الأفكار)) (1/112) وقال: وأصلُ شَطرِه الأوَّلِ صحيحٌ، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3401). وأصلُه في ((صحيح البخاري)) (7393) مُختَصَرًا، عن أبي هرَيرةَ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا جاءَ أحَدُكُم فِراشَه فليَنفُضْه بصَنِفةِ ثَوبِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وليَقُلْ: باسمِكَ رَبِّ وضَعتُ جَنبي، وبكَ أرفعُه، إن أمسَكتَ نَفسي فاغفِرْ لها، وإن أرسَلتَها فاحفَظْها بما تَحفظُ به عِبادَكَ الصَّالحينَ)). .

انظر أيضا: