بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ تَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن استهزائِهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ضِمْنِ الاستعجالِ، وعِدَةٌ ضِمْنيةٌ بأنَّه يُصيبُهم مثْلُ ما أصاب المُستهزئينَ بالرُّسلِ السَّالفةِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ [502] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/118)، ((تفسير البيضاوي)) (4/52)، ((تفسير أبي حيان)) (7/432)، ((تفسير أبي السعود)) (6/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/73). .
- قولُه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فيه التَّصديرُ بالقسَمِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ مَضمونِه. وتَنوينُ الرُّسلِ للتَّفخيمِ والتَّكثيرِ [503] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/68). .
- قولُه: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُدِّمَ قولُه: بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ على فاعلِهِ الَّذي هو قولُه تعالى: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ لُحوقِ الشَّرِّ بهم [504] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/68). .
- ومَا في قولِه: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ إمَّا موصولةٌ مُفيدةٌ للتَّهويلِ، والضَّميرُ المجرورُ عائدٌ إليها، والجارُّ مُتعلِّقٌ بالفِعْلِ، وتَقديمُه عليه لرِعايةِ الفواصلِ، أي: فأحاطَ بهم الذي كانوا يَستهزئونَ به حيثُ أُهْلِكوا لأجْلِه. وإمَّا مَصدريَّةٌ؛ فالضَّميرُ المجرورُ راجعٌ حينئذٍ إلى جِنْسِ الرَّسولِ المدلولِ عليه بالجَمْعِ، ولعلَّ إيثارَه على الجمْعِ للتَّنبيهِ على أنَّه يَحِيقُ بهم جَزاءُ استهزائِهم بكلِّ واحدٍ واحدٍ منهم عليهم السَّلامُ، لا جزاءُ استهزائِهم بكلِّهم من حيثُ هو كلٌّ فقطْ، أي: فنزَلَ بهم جَزاءُ استهزائِهم -على وَضْعِ السَّببِ مَوضِعَ المسبَّبِ؛ إيذانًا بكَمالِ المُلابَسةِ بينهما-، أو عينُ استهزائِهم إنْ أُرِيدَ بذلك العذابُ الأُخرويُّ، بِناءً على تَجسُّمِ الأعمالِ يومَ القيامةِ [505] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/68). .
2- قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ
- الاستفهامُ في قولِه: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ استفهامُ تَقريعٍ وتَبْكيتٍ وتَوبيخٍ، أي: لا يَكْلَؤُهم منه أحدٌ؛ فكيف تَجْهَلون ذلك؟! تَنبيهًا لهم إذا نَسُوا نِعَمَه [506] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/433)، ((تفسير أبي السعود)) (6/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/73). .
- وذِكْرُ اللَّيلِ والنَّهارِ لاستيعابِ الأزمنةِ؛ كأنَّه قيل: مَن يَكْلَؤُكم في جَميعِ الأوقاتِ [507] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/74). ؟ وقيل: إنما ذُكِر اللَّيلُ والنَّهارُ؛ لأنَّ لكُلِّ واحدٍ مِن الوَقتَينِ آفاتٍ تختَصُّ به [508] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/147). ، وتَقديمُ اللَّيلِ؛ لِمَا أنَّ الدَّواهِيَ أكثَرُ فيه وُقوعًا، وأشدُّ وَقْعًا [509] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/74). .
- وفي لَفْظِ الرَّحْمَنِ تَنبيهٌ على أنْ لا كالِئَ غيرُ رَحمتِه العامَّةِ [510] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/52)، ((تفسير أبي السعود)) (6/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/73). . وقيل: خَصَّ هاهنا اسمَ (الرَّحمنِ) بالذِّكرِ؛ تلقينًا للجَوابِ، حتى يقولَ العاقِلُ: أنت الكالئُ يا إلهَنا لكلِّ الخلائِقِ برَحمتِك [511] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/146). .
- قولُه: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ فيه إضرابٌ بـ (بَلْ)، وهو ارتقاءٌ مِن التَّقريعِ المَجْعولِ للإصلاحِ إلى التَّأْييسِ مِن صَلاحِهم بأنَّهم عن ذِكْرِ ربِّهم مُعرِضونَ. وفي تَعليقِ الإعراضِ بذِكْرِه تعالى، وإيرادِ اسمِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَميرِهم المُنبئِ عن كَونِهم تحتَ مَلكوتِه وتَدبيرِه وتَربيتِه تعالى: دَلالةٌ على كَونِهم في الغايةِ القاصيةِ مِنَ الضَّلالةِ والغَيِّ [512] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/74). .
- قولُه: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ فيه الْتِفاتٌ؛ حيث أعرَضَ عنهم من طَريقِ الخطابِ إلى طَريقِ الغَيبةِ؛ لأنَّ ما وُجِّهَ إليهم مِن إنكارِ أنْ يَكلَأَهم أحدٌ مِن عَذابِ اللهِ جعَلَهم أحرياءَ بالإعراضِ عنهم [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/75). .
3- قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ
- قولُه: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا (أَمْ) مُنقطِعةٌ وما فيها من مَعْنى (بلْ) للإضرابِ، والانتقالِ عمَّا قبْلَه إلى تَوبيخِهم باعتمادِهم على آلهتِهم، وإسنادِهم الحِفْظَ إليها، والهمزةُ لإنكارِ أنْ يكونَ لهم آلِهَةٌ تَقدِرُ على ذلك. وفي تَوجيهِ الإنكارِ والنَّفيِ إلى وُجودِ الآلهةِ الموصوفةِ بما ذُكِرَ منَ المنْعِ: دَلالةٌ على سُقوطِها عن مَرْتبةِ الوُجودِ فضْلًا عن رُتْبةِ المنْعِ [514] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/1588)، ((تفسير البيضاوي)) (4/52)، ((تفسير أبي حيان)) (7/433)، ((تفسير أبي السعود)) (6/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/74). . وإنَّما خُولِفَ في هذا الإضرابِ بأنْ أتى بـ(أَمْ) المُتضمِّنةِ للهمزةِ و(بَلْ)؛ ليُؤْذِنَ بالاهتمامِ، وأنَّ الجُملةَ مُستطردةٌ بينَ الإضرابينِ بـ(بَلْ) [515] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/352). .
- قولُه: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه من الإنكارِ، ومُوضِّحٌ لبُطلانِ اعتقادِهم [516] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/69). . وضَميرُ يَسْتَطِيعُونَ عائدٌ إلى آَلِهَةٌ، أُجْرِيَ عليهم ضَميرُ العُقلاءِ؛ مُجاراةً لِمَا يُجْرِيه العرَبُ في كَلامِهم [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/74). .
4- قوله تعالى: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ
- قولُه:
أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فيه تَقريعٌ على إحالتِهم نصْرَ المُسلِمينَ، وعَدِّهم تأْخيرَ الوعْدِ به دَليلًا على تَكذيبِ وُقوعِه حتَّى قالوا:
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء: 38] ؛ تَهكُّمًا وتَكذيبًا
[518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/76). .
- ولمَّا أنذَرَهم بما سيَحُلُّ بهم في قولِه تعالى:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إلى قولِه تعالى:
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنبياء: 39- 41] ، فرَّعَ على ذلك كلِّه بقولِه:
أَفَلَا يَرَوْنَ ... استفهامًا تَعجُّبيًّا مِن عدَمِ اهتدائِهم إلى أماراتِ اقتِرانِ الوعْدِ بالموعودِ، استِدلالًا على قُرْبِه بحُصولِ أماراتِه
[519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/76). . وقيل: الفاءُ في
أَفَلَا يَرَوْنَ لعطْفِ الجُملةِ على مُقدَّرٍ، وفي
أَفَهُمُ على المذكورِ، والهمزةُ الثَّانيةُ مُكرَّرةٌ مُقْحمةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ لتَأْكيدِ التَّقريرِ على سَبيلِ التَّعكيسِ، أي: أفلا يَنظُرون كيف نَغلِبُهم ونَنقُصُ من أطْرافِ أرْضِهم، فهم الغالِبونَ أمْ نحنُ
[520] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/352). ؟!
- وفائدةُ قولِه:
نَأْتِي الْأَرْضَ تَصويرُ ما كان اللهُ يُجْرِيه على أيدي المُسلِمينَ، وأنَّ عساكِرَهم وسراياهم كانت تَغْزو أرضَ المُشرِكينَ وتأْتيها غالِبةً عليها، ناقِصةً مِن أطْرافِها
[521] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/119)، ((تفسير البيضاوي)) (4/52)، ((تفسير أبي حيان)) (7/434)، ((تفسير أبي السعود)) (6/70). .
- وأسنَدَ سُبحانه الضَّميرَ إلى نفْسِه
نَأْتِي؛ تَعظيمًا للمُسلِمين الَّذين أجْرَى على أيديهم الانتصارَ العظيمَ، وافتتاحَ البلادِ والأمصارِ؛ فأصْلُه: تأْتي جُيوشُ المُسلِمين، ولكنَّه أسنَدَ الإتيانَ إلى نفْسِه؛ تَنويهًا بقدْرِ المُجاهِدين، وتَعظيمًا لِما أتَوا به من جلائلِ الأعمالِ، وناهِيكَ بمَن يَعمَلُ عمَلًا يَنسِبُه اللهُ إلى نفْسِه
[522] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/321). .
- قولُه: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ هذه الجُملةُ مُفرَّعةٌ على جُملةِ التَّعجُّبِ من عدَمِ اهتدائِهم إلى هذه الحالةِ. والاستفهامُ إنكاريٌّ، أي: فكيف يَحْسَبون أنَّهم غَلَبوا المُسلِمين، وتمكَّنوا مِن الحُجَّةِ عليهم؟! أو كأنَّه قِيلَ: أبَعْدَ ظُهورِ ما ذُكِرَ ورُؤيتِهم له يُتَوهَّمُ غلَبتُهم؟! وفيه تَقريعٌ وتوبيخٌ؛ حيث لم يَعْتَبِروا بما يَجْري عليهم [523] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/434)، ((تفسير أبي السعود)) (6/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/77). .
- واختيارُ الجُملةِ الاسميَّةِ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ دونَ الفعليَّةِ؛ لدَلالةِ الاسميَّةِ بتَعريفِ جُزأَيها على القصْرِ، أي: ما هم الغالِبونَ، بلِ المُسلِمون الغالِبونَ؛ إذ لو كان المُشرِكون الغالبينَ لَمَا كان عدَدُهم في تَناقُصٍ، ولَمَا خلَتْ بلْدتُهم من عدَدِ كثيرٍ منهم [524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/77). .
5- قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ
- قولُه:
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ استئنافٌ ابتِدائيٌّ، مقصودٌ منه الإتيانُ على جَميعِ ما تقدَّمَ مِن استعجالِهم بالوعْدِ، تَهكُّمًا بقولِه تعالى:
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/77). [الأنبياء: 38] . وقد عُقِّبَ به أمْرُ اللهِ رسولَه أنْ يُخاطِبَهم بتَعريفِ كُنْهِ دَعوتِه، وهي قَصْرُه على الإنذارِ بما سيَحُلُّ بهم في الدُّنيا والآخرةِ؛ إنذارًا مِن طَريقِ الوحيِ المُنزَّلِ عليه مِن اللهِ تعالى وهو القُرآنُ؛ فالكلامُ قصْرُ مَوصوفٍ على صِفةٍ، وقَصْرُه على المُتعلِّقِ بتلك الصِّفةِ تبَعًا لمُتعلِّقِه؛ فهو قائمٌ مَقامَ قَصْرينِ
[526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/78). .
- ولمَّا أُرِيدَ أنْ ينتقلَ مِن عذابِ الاستئصالِ إلى عَذابِ النَّارِ، وهو قولُه:
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ... الآيةَ، وُسِّطَ بينهما ما هو مُهِمٌّ بشأْنِه مِن حديثِ الوحيِ، وهو قولُه تعالى:
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ تَوكيدًا؛ لِيُتَخلَّصَ منه إليه
[527] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/353). .
- وقولُه:
وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ إمَّا تتمَّةُ الكلامِ المُلقَّنِ، تَذييلٌ له بطَريقِ الاعتراضِ، قد أُمِرَ عليه السَّلامُ بأنْ يقولَه لهم؛ تَوبيخًا وتَقريعًا وتَسجيلًا عليهم بكَمالِ الجَهلِ والعِنادِ، واللَّامُ في
الصُّمُّ للجِنْسِ المُنتظِمِ للمُخاطَبينَ انتظامًا أوَّلِيًّا أو للعهْدِ. وإمَّا مِن جِهَتِه تعالى؛ كأنَّه قِيلَ: قُلْ لَهُم ذلك وأنت بمَعزِلٍ مِن إسماعِهم
[528] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/78). .
- قولُه:
وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ؛ قال:
إِذَا مَا يُنْذَرُونَ مع أنَّ الصُّمَّ لا يَسْمَعون دُعاءَ المُبشِّرِ، كما لا يَسْمعونَ دُعاءَ المُنذِرِ؛ إذِ اللَّامُ في
الصُّمُّ إشارةٌ إلى هؤلاء المُنذَرينَ كائنةٌ للعهْدِ لا للجِنْسِ -على قولٍ-، والأصْلُ: (ولا يَسْمعون إذا ما يُنْذَرونَ)؛ فوضَعَ الظَّاهِرَ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ للدَّلالةِ على تَصامِّهم وسَدِّهم أسماعَهم إذا أُنْذِروا، أي: هم على هذه الصِّفةِ مِن الجُرأةِ والجَسارةِ على التَّصامِّ مِن آياتِ الإنذارِ
[529] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/119)، ((تفسير البيضاوي)) (4/52)، ((تفسير أبي حيان)) (7/434)، ((تفسير أبي السعود)) (6/70)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/321). .
- والتَّعريفُ في
الصُّمُّ للاستغراقِ -على القولِ بأنَّ اللامَ للجنسِ-، ودخَلَ في عُمومِه المُشرِكونَ المُعرِضون عن القُرآنِ، وهم المقصودُ مِن سَوقِ التَّذييلِ؛ ليَكونَ دُخولُهم في الحُكْمِ بطَريقةِ الاستدلالِ بالعُمومِ على الخُصوصِ، وتَقييدُ عدَمِ السَّماعِ بوقْتِ الإعراضِ عندَ سَماعِ الإنذارِ لتَفظيعِ إعراضِهم عنِ الإنذارِ؛ لأنَّه إعراضٌ يُفْضي بهم إلى الهَلاكِ، فهو أفظَعُ من عدَمِ سَماعِ البِشارةِ أو التَّحديثِ، ولأنَّ التَّذييلَ مَسوقٌ عَقِبَ إنذاراتٍ كثيرةٍ. واخْتِيرَ لفْظُ الدُّعاءِ؛ لأنَّه المُطابِقُ للغرَضِ؛ إذ كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ داعيًا كما قال:
أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/78، 79). [يوسف: 108] .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا:
وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ [الأنبياء: 45] ، وفي سُورةِ (النَّملِ) و(الرُّومِ) قال:
لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] ،
[الروم: 52] ؛ فخُتِمَتِ الأُولى بقولِه:
إِذَا مَا يُنْذَرُونَ، وخُتِمَتْ آيتَا (النَّملِ) و(الرُّومِ) بقولِه:
إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛
ووجْهُه: أنَّ آيةَ (الأنبياءِ) قد تقدَّمَها أمْرُ النَّبيِّ عليه السَّلام بخِطابِ حاضِرِيه، وإنْذارِهم بما أُوحِيَ إليه، وإعلامِهم بأنَّ إنْذارَه إيَّاهم لا يُجْدي عليهم؛ تَسليةً له عليه السَّلامُ، وإعْلامًا بما سبَقَ لهم أزَلًا، فقال تعالى:
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ، ثمَّ قال لهم:
وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ [الأنبياء: 45] ؛ فأعْلَمَهم بإعلامِ اللهِ تعالى بأنَّهم صُمُّوا عن سَماعِه، ومُنِعوا ثَمرتَه من الإجابةِ لِمَا سبَقَ عليهم، فقيل:
إِذَا مَا يُنْذَرُونَ، أي: أنَّهم وقْتَ إنْذارِهم مَمنوعونَ عن السَّمعِ، كما ورَدَ قبْلَ آيتيِ (النَّملِ) و(الرُّومِ) قولُه تعالى:
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [الروم: 52] ؛ إلْحاقًا لحالِ المُخاطَبينَ بهم في عدَمِ الجَدْوى عليهم، ناسَبَ ذلك قولُه:
إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛ فوضَحَ التَّناسُبُ في نِظامِ هذه الآياتِ، وأنَّ العكْسَ لا يُناسِبُ
[531] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/347، 348). .
6- قولُه تعالى:
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ بَيانٌ لسُرعةِ تأثُّرِهم من مَجِيءِ نفْسِ العذابِ إثْرَ بَيانِ عدَمِ تأثُّرِهم من مَجِيءِ خبَرِه على نهْجِ التَّوكيدِ القَسَميِّ
[532] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/70). ، وأكَّدَ الشَّرطَ بلامِ القسَمِ؛ لتَحقيقِ وُقوعِ الجَزاءِ
[533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/79). .
- قولُه:
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ في المَسِّ والنَّفحةِ ثلاثُ مُبالَغاتٍ؛
الأُولى: ذِكْرُ المَسِّ وإسنادُه إلى النَّفحةِ دونَ فِعْلٍ آخَرَ، والمَسُّ أقَلُّ شَيءٍ، بل هو شَيءٌ رَقيقٌ جِدًّا؛ فكيف إذا انثالَ
[534] انثال: أي: صُبَّ واستُفرِغَ. يُنظر: ((مشارق الأنوار على صحاح الآثار)) للقاضي عياض (2/4). عليهم؟!
الثَّانيةُ: ما في النَّفحةِ من معنى القِلَّةِ والنَّزارةِ، وتَنكيرُها.
الثَّالثةُ: بِناءُ المرَّةِ مِن النَّفحِ، فمصدَرُ المرَّةِ يأْتي على (فَعْلَةٍ)، أي: نَفحةٌ واحدةٌ لا ثانِيَ لها تَكْفي لتَشتيتِ أمْرِهم، وتَوهينِ كِيانِهم، وتَصدُّعِ صُفوفِهم؛ فكيف إذا عُزِّزَت بثانيةٍ أو ثالثةٍ
[535] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/119)، ((تفسير البيضاوي)) (4/53)، ((تفسير أبي حيان)) (7/435)، ((تفسير أبي السعود)) (6/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/80)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/322). ؟!
7- قوله تعالى:
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ- قولُه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يجوزُ أنْ تكونَ الواوُ عاطفةً هذه الجُملةَ على جُملةِ: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا؛ لِمُناسَبةِ قولِهم: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، ولبَيانِ أنَّهم مُجازونَ على جَميعِ ما أسْلَفوهُ من الكُفْرِ وتَكذيبِ الرَّسولِ، بَيانًا بطَريقِ ذِكْرِ العُمومِ بعْدَ الخُصوصِ في المُجازينَ، فشابَهَ التَّذييلَ؛ من أجْلِ عُمومِ قولِه تعالى: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وفي المُجازَى عليه؛ من أجْلِ قولِه: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا. ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ للحالِ مِن رَبِّكَ في مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ، وتكونَ نونُ المُتكلِّمِ المُعظِّمِ الْتِفاتًا لمُناسَبةِ الجزاءِ للأعمالِ؛ ولذلك فرَّعَ عليه قولَه تعالى: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [536] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/80، 81). .
- في قولِه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ وُصِفَتِ الموازينُ بالقِسْطِ مُبالَغةً، كأنَّها في أنفُسِها قِسْطٌ. أو على حَذْفِ المُضافِ، أي: ذواتِ القِسْطِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مَفعولًا لأجْلِه، أي: لأجْلِ القِسْطِ [537] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/120)، ((تفسير البيضاوي)) (4/53)، ((تفسير أبي حيان)) (7/435)، ((تفسير أبي السعود)) (6/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/84). .
- قولُه: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا فُرِّعَ على وَضْعِ الموازينِ تَفريعَ العِلَّةِ على المعلولِ، أو المعلولِ على العِلَّةِ. والظُّلمُ: ضِدُّ العدْلِ، ولذلك فُرِّعَ نَفْيُه على إثباتِ وَضْعِ العدْلِ. ووُقوعُ لفظةِ شَيْئًا في سِياقِ النَّفيِ دَلَّ على تأْكيدِ العُمومِ، أي: شيئًا مِن الظُّلمِ، ووُقوعُه في سِياقِ النَّفيِ دَلَّ على تأْكيدِ العُمومِ مِن فِعْلِ تُظْلَمُ الواقعِ أيضًا في سِياقِ النَّفيِ، أي: لا تُظْلَمُ بنَقْصٍ من خيرٍ اسْتحقَّتْه، ولا بزيادةِ شَيءٍ لم تَستحِقَّه. وهذه الجُملةُ كلمةٌ جامعةٌ لمَعانٍ عِدَّةٍ مع إيجازِ لفْظِها؛ فنُفِيَ جِنْسُ الظُّلمِ، ونُفِيَ عن كلِّ نفْسٍ، فأفاد أنْ لا بَقاءَ لظُلْمٍ بدونِ جَزاءٍ [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/85). .
- قولُه: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ فيه توعُّدٌ، وهو إشارةٌ إلى ضَبْطِ أعمالِهم مِن الحسابِ، وهو العَدُّ والإحصاءُ. وقيل: هو كِنايةٌ عن المُجازاةِ [539] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/436). .
- وضَميرُ الجمْعِ في قولِه: حَاسِبِينَ مُراعًى فيه ضَميرُ العَظمةِ من قولِه تعالى: بِنَا، والباءُ مَزيدةٌ للتَّوكيدِ [540] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/87). .