بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
- في قولِه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ طَريقةُ القولِ بالمُوجَبِ [418] القولُ بالموجَبِ في اصطلاحِ الأصوليين: هو تسليمُ ما جعَله المستدلُّ موجِبًا لعِلَّته مع استبقاءِ الخِلافِ، ومعنى ذلك: أن يسلِّمَ الخصمُ الدليلَ الذى استدلَّ به المستدلُّ، إلَّا أنَّه يقولُ: هذا الدليلُ ليس فى محلِّ النزاعِ، إنَّما هو في غيرِه؛ فيبقَى الخلافُ بينهما، ومنه قولُه تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] ؛ فإنَّ الله سلَّم لهم أنَّ الأعزَّ قادرٌ على إخراجِ الأعزِّ، ولكن صرَّح بأنَّ ذلك لا ينفعُهم؛ لأنَّهم الأذل. يُنظر: ((تشنيف المسامع بجمع الجوامع)) للزركشي (4/361)، (( البحر المحيط)) للزركشي (5/297)، ((غايه الوصول شرح لب الأصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 131)، ((المنهاج)) للباجي (ص: ١٧٣)، ((شرح مراقي السعود)) للشنقيطي (2/535). وقال بهاء الدين السبكي: ( مِن البديعِ المعنوي ما يسمَّى القولَ بالموجبِ، وهو قريبٌ مِن القولِ بالموجبِ المذكورِ فى الأصولِ والجدلِ، وهو تسليمُ الدليلِ مع بقاءِ النِّزاعِ). ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) (2/278). ، أي: إنَّك تَموتُ كما قالوا، ولكنَّهم لا يرَونَ ذلك وهم بحالِ مَن يَزْعمون أنَّهم مُخلَّدون، فأَيْقنوا بأنَّهم يتربَّصونَ بك رَيْبَ المَنونِ من فرَطِ غُرورِهم؛ فالتَّفريعُ بقولِه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كان على ما في الجُملةِ الأُولى من القولِ بالمُوجَبِ، أي: ما هم بخالدينَ حتَّى يُوقِنوا أنَّهم يرَونَ موتَك. وفي الإنكارِ الَّذي هو في مَعنى النَّفيِ: إنذارٌ لهم بأنَّهم لا يَرى موتَه منهم أحدٌ. والاستفهامُ في قولِه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ؛ لمَّا كان تَمنِّيهم موتَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتربُّصُهم به رَيْبَ المَنونِ يَقْتضي أنَّ الَّذين تَمنَّوا ذلك وتربَّصوا به كأنَّهم واثِقونَ بأنَّهم يَموتونَ بعْدَه، فتَتِمُّ شَماتَتُهم، أو كأنَّهم لا يَموتونَ أبدًا، فلا يَشمَتْ بهم أحدٌ؛ وُجِّهَ إليهم استفهامُ الإنكارِ على طَريقةِ التَّعريضِ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ مَن يزعُمُ أنَّهم خالِدونَ، والمرادُ إنكارُ شَماتَتِهم بمَوتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ الشَّماتةَ بما يَعْتريه أيضًا ممَّا لا يَنْبغي أنْ تَصدُرَ عن العاقلِ، كأنَّه قيل: أفإِنْ مِتَّ فهم الخالِدونَ حتَّى يَشْمتوا بمَوتِك [419] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/62، 63). ؟!
- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ تَذييلٌ؛ فإنَّ معنى الآيةِ مُستوفًى في الإخبارِ بأنَّه سُبحانه لم يَجعَلْ لبَشرٍ قبْلَ نَبيِّه الخُلْدَ، ثمَّ ذيَّلَ ذلك الإخبارَ بما أخرَجَه مُخْرَجَ تَجاهُلِ العارفِ [420] تَجاهُل العارِف: له عِدَّةُ تعريفاتٍ، وتَرجِعُ كلُّها إلى: سَوْق المعلومِ مَساقَ غيرِه لنُكتةٍ؛ فمِن تعريفاتِه أنَّه: سؤالُ المتكلِّم عمَّا يَعلمُه حقيقةً تجاهلًا؛ لنُكتةٍ بلاغيَّة. ومنها أنَّه: إخراجُ ما يَعرِفُ صِحَّتَه مَخرجَ ما يَشُكُّ فيه؛ ليَزيدَ بذلك تأكيدًا. وقيل: هو إخراجُ الكلامِ مخرجَ الشكِّ في اللفظِ دون الحقيقةِ؛ لضربٍ مِن المسامحةِ وحسْم العنادِ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/94)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/242، 243). ، وهو قولُه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، ثمَّ ذيَّلَ هذا التَّذييلَ بما أخرَجه مُخْرَجَ المثَلِ السَّائرِ، حيث قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [421] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/311). .
2- قولُه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ استئنافٌ مَسوقٌ للتَّدليلِ على عدَمِ الخُلودِ [422] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/308). ؛ فمَضمونُ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ مُؤكِّدٌ لمَضمونِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، ووجْهُ إعادتِها اختلافُ القصْدِ؛ فإنَّ الأُولى للرَّدِّ على المُشرِكينَ، وهذه لتَعليمِ المُؤمِنين [423] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- قولُه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الخِطابُ إمَّا للنَّاسِ كافَّةً بطَريقِ التَّلوينِ، أو للكَفرةِ بطَريقِ الالْتِفاتِ [424] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- وتَقديمُ المَجْرورِ في
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ، وإفادةِ تَقوِّي الخبَرِ، وليست للقصْرِ
[425] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/65). . وقَدَّم الشَّرَّ؛ لأنَّ الابتلاءَ به أكثرُ، ولأنَّ العربَ تُقدِّمُ الأقلَّ والأردأَ
[426] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/428). .
3- قولُه تعالى:
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتَقريرِ مَوقفِهم من النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
[427] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/308). .
- والقصْرُ المُستفادُ من قولِه:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا هو قَصْرُ مُعامَلتِهم معه عليه السَّلامُ على اتِّخاذِهم إيَّاهُ هُزوًا، لا على معنى قَصْرِ اتِّخاذِهم على كونِه هُزوًا؛ كأنَّه قيل: ما يَفْعلون بك إلَّا اتِّخاذَك هُزوًا
[428] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- وفيه إخبارٌ بالمصدرِ
هُزُوًا؛ للمُبالَغةِ، أو هو مَصدرٌ بمعنى المفعولِ
[429] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/65، 66). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا:
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا، وقال في سُورةِ (الفُرقانِ):
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الفرقان: 41] ، فأظهَرَ الفاعِلينَ في:
رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وأضْمَرَهم في سُورةِ (الفُرقانِ)؛ ووجْهُه: أَنَّ آيةَ سورةِ (الأنبياءِ) ليس فى الآيةِ التى تقدَّمَتْها ذِكرُ الكفَّارِ؛ فصرَّح باسمِهم، وأما فى سورةِ (الفرقان) فقد سَبَق ذكرُ الكفَّار، فخُصَّ الإِظهارُ بآيةِ سورةِ (الأنبياءِ)، والكنايةُ يآيةِ سورةِ (الفرقان)
[430] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/320). ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 901، 902)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 178)، (ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/346، 347). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا قولُه:
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ، وفي سُورةِ (الفرقانِ):
أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان: 41- 42] ، فاختلَفَ التَّعقيبُ في الآيتينِ؛ ووجْهُه: أنَّه لمَّا تقدَّمَ في سُورةِ (الأنبياءِ) قولُه تعالى:
أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: 21] ، وقولُه:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، وقولُه:
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً [الأنبياء: 24] ؛ فتكرَّرَ ذِكْرُ مُرتكَبِهم في اتِّخاذِهم مَعبوداتٍ لا تُغْني عنهم، ناسَبَهُ قولُهم:
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 36] . أمَّا آيةُ (الفُرْقانِ) فقد تقدَّمَها قولُه:
مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 7] ، فأنْكَروا كونَ الرَّسولِ منَ البشَرِ؛ فجَرى مع ذلك وناسَبَهُ قولُهم:
أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] ؛ تَعجُّبًا واستبعادًا أنْ يكونَ الرُّسلُ منَ البشَرِ، وقد رَدَّ ذلك عليهم بقولِه:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ [الفرقان: 20] ؛ فوضَحَ التَّناسُبُ فيها
[431] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/347). .
- قولُه:
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ استفهامٌ فيه إنْكارٌ وتعجيبٌ
[432] قال الشنقيطي بعد أن ذكَر القولَ بأنَّ الاستفهامَ للإنكارِ والتعجيبِ: (والذي يظهرُ لي أنهم يريدون بالاستفهامِ المذكورِ التحقيرَ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما تدلُّ عليه قرينةُ قولِه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا. وقد تقرَّر في فنِّ المعاني أنَّ مِن الأغراضِ التي تؤدَّى بالاستفهامِ التحقيرَ). ((أضواء البيان)) (4/148). ، واسمُ الإشارةِ (هذا) مُسْتعمَلٌ في التَّحقيرِ بقَرينةِ الاستهزاءِ
[433] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/66). .
- وأيضًا قولُه:
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ جُملةٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ فهي في معنى قَولٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ لأنَّ الاستهزاءَ يكونُ بالكلامِ
[434] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/66). .
- وضَميرُ الفصْلِ في قولِه:
هُمْ كَافِرُونَ يجوزُ أنْ يُفيدَ الحصْرَ، أي: هم كافِرونَ بالقُرآنِ دونَ غَيرِهم ممَّن أسلَمَ مِن أهْلِ مكَّةَ وغَيرِهم منَ العرَبِ؛ لإفادةِ أنَّ هؤلاء باقونَ على كُفْرِهم مع توفُّرِ الآياتِ والنُّذُرِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الفصْلُ لمُجرَّدِ التَّأكيدِ؛ تَحقيقًا لدَوامِ كُفْرِهم مع ظُهورِ ما شأْنُه أنْ يُقلِعَهم عن الكُفْرِ
[435] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/67). .
- وفي تَكريرِ (هم) وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ -
بِذِكْرِ- على عامِلِه: شأْنٌ في الإنكارِ، وتَوبيخٌ عظيمٌ
[436] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/345). .
- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، وذلك في حِذْفِ مَفعولِ
يَذْكُرُ، والذِّكْرُ يكونُ بالخيرِ والشَّرِّ؛ فإذا دلَّتِ الحالُ على أحَدِهما، أُطْلِقَ ولم يُقيَّدْ، كقولِك للرَّجلِ: سمِعْتُ فُلانًا يذكُرُك؛ فإنْ كان الذَّاكِرُ صَديقًا فهو ثَناءٌ، وإنْ كان عدُوًّا فذَمٌّ. ومِن جِهَةٍ ثانيةٍ لم يَقُولوا: أهذا الَّذي يَذكُرُ آلِهَتَكم بكلِّ سُوءٍ؛ لأنَّهم استَفْظعوا حِكايةَ ما يقولُه النَّبيُّ مِن القدْحِ في آلِهَتِهم، رمْيًا بأنَّها لا تَسمَعُ ولا تُبْصِرُ، ولا تَنفَعُ ولا تضُرُّ، وحاشَوْها مِن نَقْلِ ذَمِّها تَفصيلًا وتَصريحًا، فنَقَلوه إجْمالًا وتلْميحًا، بلْ أوْمَؤوا إليه بالإشارةِ المذكورةِ، فسُبحانَ مَن أضَلَّهم حتَّى تأدَّبُوا مع الأوثانِ، وأساؤوا الأدَبَ على الرَّحمنِ
[437] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - مع حاشية ابن المنير)) (3/116)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/345)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/66)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/312). !
4- قولُه تعالى:
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ قدَّمَ أوَّلًا ذَمَّ الإنسانَ على إفراطِ العَجلةِ وأنَّه مَطبوعٌ عليها، ثمَّ نهاهُم وزجَرَهم، كأنَّه قال: ليس ببِدْعٍ ولا يَبعُدُ منكم أنْ تَستعجِلوا؛ فإنَّكم مَجْبولون على ذلك، وهو طبْعُكم وسَجِيَّتُكم
[438] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/117)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430). .
- قولُه: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ يُرادُ بالإنسانِ هنا اسْمُ الجنْسِ؛ جُعِلَ لفَرْطِ استعجالِه وقِلَّةِ صَبْرِه كأنَّه مَخلوقٌ منه؛ تَنزيلًا لِما طُبِعَ عليه من الأخلاقِ مَنزِلةَ ما طُبِعَ منه من الأركانِ؛ إيذانًا بغايةِ لُزومِه له وعدَمِ انفكاكِه عنه [439] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/117)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي حيان)) (7/430)، ((تفسير أبي السعود)) (6/67). ، وكأنَّه سبحانه نبَّه بهذا على أنَّ تركَ الاستعجالِ حالةٌ شريفةٌ عاليةٌ مرغوبٌ فيها؛ لأنَّ العائقَ كلَّما كان أشدَّ، كانت القدرةُ على مخالفتِه أكملَ [440] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/144). .
- وجُملةُ:
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مُعترِضةٌ بين جُملةِ
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وبين جُملةِ
سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي، جُعِلَتْ مُقدِّمةً لجُملةِ
سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/67). ، وهي مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للرَّدِّ على استعجالِهم العذابَ
[442] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/309). .
- قولُه:
سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء: 36] وبين جُملةِ
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [الأنبياء: 38] ؛ لأنَّ قولَه تعالى:
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء: 36] يُثِيرُ في نُفوسِ المُسلِمينَ تَساؤُلًا عن مَدى إمهالِ المُشرِكينَ، فكان قولُه تعالى:
سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ استئنافًا بَيانيًّا جاء مُعترِضًا بينَ الجُمَلِ الَّتي تَحْكي أقوالَ المُشرِكينَ وما تفرَّعَ عليها
[443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/67)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/309). .
- قولُه: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فيه تَلْوينٌ للخِطابِ وصَرْفٌ له عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المُستعجِلينَ بطَريقِ التَّهديدِ والوعيدِ [444] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/67). .
- قولُه: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ تفريعٌ على قوله: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي؛ فتَفرَّع على هذا الوعدِ نهيٌ عن طَلبِ التعجيلِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/68). .
5- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الواوُ استئنافيَّةٌ، والجُملةُ مُستأْنفةٌ مَسوقةٌ لإيرادِ نمَطٍ مِن استعجالِهم المذمومِ [446] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/309). .
- والاستفهامُ في قولِه: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ قالوهُ استِعجالًا لمَجيئِه بطَريقِ الاستهزاءِ والإنكارِ، واستبطاءً منهم للموعودِ [447] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/431)، ((تفسير أبي السعود)) (6/67)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/69). .
- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ حُذِفَ جَوابُ الشَّرطِ؛ ثِقَةً بدَلالةِ ما قبلَه عليه؛ كأنَّه قِيلَ: فلْيأتِنا بسُرعةٍ إنْ كنتُمْ صادِقينَ [448] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/67). .
6- قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
- قولُه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ شِدَّةِ هَوْلِ ما يَستعجِلونَه، وفَظاعةِ ما فيه من العذابِ. وإيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ في الشَّرطِ -وإنْ كان المعنى على المُضِيِّ- لإفادةِ استمرارِ عدَمِ العِلْمِ. ووضْعُ الموصولِ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ بما في حَيِّزِ الصِّلةِ على عِلَّةِ استعجالِهم [449] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/67). .
- وحُذِفَ جوابُ (لو) في لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ونُكتَتُه: تَهويلُ جِنْسِه، فتَذهَبُ نَفْسُ السَّامِعِ كلَّ مَذْهَبٍ [450] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/431)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/70). .
- وضَميرُ يَكُفُّونَ قيل: إذا كان عائِدًا إلى الملائكةِ، أي: حين لا يُمسِكُ الملائكةُ اللَّفحَ بالنَّارِ عن وُجوهِ المُشرِكينَ، فذِكْرُ الوُجوهِ والأدبارِ للتَّنكيلِ بهم وتَخويفِهم؛ لأنَّ الوُجوهَ أعَزُّ الأعضاءِ على النَّاسِ، ولأنَّ الأدبارَ يأْنَفُ النَّاسُ مِن ضَرْبِها؛ لأنَّ ضربَها إهانةٌ وخِزْيٌ. وإذا كان الضَّميرُ عائدًا إلى الَّذين كَفَروا، أي: حين لا يَستطيعونَ أنْ يدفَعوا النَّارَ عن وُجوهِهم بأيديهم ولا عن ظُهورِهم. فذِكْرُ الظُّهورِ بعْدَ ذِكْرِ الوُجوهِ على هذا الاحتمالِ احتراسٌ لدَفْعِ تَوهُّمِ أنَّهم قد يَكفُّونَها عنْ ظُهورِهم إنْ لم تَشتغِلْ أيديهم بكَفِّها عن وُجوهِهم [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/70، 71). .
- وفي قولِه: عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ خَصَّ الوجوهَ والظُّهورَ بالذِّكرِ بمعنى القُدَّامِ والخلْفِ؛ لكونِهما أشهَرَ الجوانبِ، واستلزامِ الإحاطةِ بهما الإحاطةَ بالكلِّ، بحيث لا يَقدِرون على دَفْعِها بأنفُسِهم من جانبٍ من جَوانبِهم [452] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/432)، ((تفسير أبي السعود)) (6/68). . وقيل: لأنَّ مسَّ العذابِ لهما أعظمُ موقعًا، ولكثرةِ ما يُستعملُ ذكرُهما في دفعِ المضرةِ عن النفْسِ [453] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/146). .
- قولُه: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ مفعولُ يَعْلَمُ، وهو عبارةٌ عن الوقْتِ الموعودِ الَّذي كانوا يَستعجِلونَه، وإضافتُه إلى الجُملةِ الجاريةِ مَجرى الصِّفةِ الَّتي حَقُّها أنْ تكونَ مَعلومةَ الانتسابِ إلى الموصوفِ عندَ المُخاطَبِ أيضًا مع إنكارِ الكَفرةِ لذلك؛ للإيذانِ بأنَّه مِنَ الظُّهورِ بحيثُ لا حاجةَ له إلى الإخبارِ به، وإنَّما حَقُّه الانتظامُ في سِلْكِ المُسلَّماتِ المفروغِ عنها. ويجوزُ أنْ يكونَ يَعْلَمُ مَتروكَ المفعولِ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللَّازمِ، أي: لو كان لهم عِلْمٌ لَما فَعَلوهُ. وقولُه تعالى: حِينَ ... إلخ، استئنافٌ مُقرِّرٌ لجَهْلِهم، ومَبيِّنٌ لاستمرارِه إلى ذلك الوقْتِ؛ كأنَّه قِيلَ: حين يَرَونَ ما يرَوْن يَعْلمون حَقيقةَ الحالِ. أو أنْ يكونَ مفعولُ يَعْلَمُ محذوفًا؛ لدَلالةِ ما قبْلَه، أي: لو يَعلَمُ الَّذين كَفَروا مَجِيءَ الموعودِ الَّذي سَأَلوا عنه واسْتَبطؤوهُ [454] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/118)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51، 52)، ((تفسير أبي حيان)) (7/432)، ((تفسير أبي السعود)) (6/68). .
7- قوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
- قولُه: بَلْ تَأْتِيهِمْ استدراكٌ مُقدَّرٌ قبْلَه نَفْيٌ؛ تَقديرُه: إنَّ الآياتِ لا تأْتي بحسَبِ اقتراحِهم [455] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/432). .
- و(بَل) في قولِه: بَلْ تَأْتِيهِمْ للإضرابِ الانتقاليِّ مِن تَهويلِ ما أُعِدَّ لهم، إلى التَّهديدِ بأنَّ ذلك يَحُلُّ بهم بَغْتةً وفجأَةً، وهو أشَدُّ على النُّفوسِ؛ لعَدمِ التَّهيُّؤِ له، والتَّوطُّنِ عليه [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/71). .
- قولُه: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مُفرَّعٌ على قولِه: فَتَبْهَتُهُمْ؛ فالبَهتُ: الغَلبُ المفاجِئُ المُعْجِز عن المُدافَعةِ [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/72). .