بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
- قولُه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أُسلوبٌ بديعٌ في الافتتاحِ؛ لِمَا فيه من غَرابةِ الأسلوبِ، وإدخالِ الرَّوعِ على المُنذَرينَ؛ فإنَّ المُرادَ بالنَّاسِ مُشْرِكو مكَّةَ -على قولٍ في التفسيرِ-، واقْتَرَبَ فيه مُبالَغةٌ في القُرْبِ، فصِيغَةُ الافتعالِ الموضوعةُ للمُطاوَعةِ مُستعمَلةٌ في تَحقُّقِ الفعلِ، أي: اشتَدَّ قُرْبُ وُقوعِه بهم [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/8). .
- وفي قولِه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أسنَدَ الاقترابَ إلى الحسابِ لا إلى السَّاعةِ، مع استتباعِها له ولسائرِ ما فيها من الأحوالِ والأهوالِ الفظيعةِ؛ لانسياقِ الكلامِ إلى بَيانِ غفْلتِهم عنه، وإعراضِهم عمَّا يُذكِّرُهم ذلك. واللَّامُ في لِلنَّاسِ مُتعلِّقةٌ بالفعْلِ، وتَقديمُها على الفاعلِ؛ للمُسارَعةِ إلى إدخالِ الرَّوعةِ؛ فإنَّ نِسْبةَ الاقترابِ إليهم مِن أوَّلِ الأمْرِ ممَّا يَسوؤُهم ويُورِثُهم رَهْبةً وانزِعاجًا من المُقترِبِ. وفي إسنادِ الاقترابِ المُنْبِئِ عن التَّوجُّهِ نحْوَهم إلى الحسابِ -مع إمكانِ العكْسِ بأنْ يُعتبرَ التَّوجُّهُ والإقبالُ من جِهَتِهم نحْوَه- من تَفخيمِ شأْنِه، وتَهويلِ أمْرِه ما لا يَخْفى؛ لِمَا فيه من تَصويرِه بصُورةِ شَيءٍ مُقبِلٍ عليهم، لا يَزالُ يُطالِبُهم ويُصيبُهم لا مَحالةَ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/53). .
- قولُه: لِلنَّاسِ المُرادُ به المُشرِكونَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فيكونُ هذا من إطلاقِ اسمِ الجنْسِ على بعْضِه للدَّليلِ القائمِ، وهو ما يَتْلوه من صِفاتِ المُشرِكين [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101)، ((تفسير البيضاوي)) (4/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/10). .
- والضَّميرُ في قولِه: حِسَابُهُمْ عائدٌ إلى النَّاسِ؛ فصار قولُه: لِلنَّاسِ مُساوِيًا للضَّميرِ الَّذي أُضِيفَ إليه (حِساب)، فكأنَّه قيل: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ لهم؛ فكان تأْكيدًا لفظيًّا، وأصْلُ النَّظمِ: اقترَبَ للنَّاسِ الحسابُ. وإنَّما نُظِمَ التَّركيبُ على هذا النَّظمِ بأنْ قُدِّمَ ما يدُلُّ على المُضافِ إليه، وعُرِّفَ النَّاسُ تَعريفَ الجنْسِ؛ ليَحصُلَ ضَرْبٌ من الإبهامِ، ثمَّ يقَعَ بعْدَه التَّبيينُ. ولِمَا في تَقديمِ الجارِّ والمجرورِ من الاهتمامِ بأنَّ الاقترابَ للنَّاسِ؛ لِيَعْلمَ السَّامِعُ أنَّ المُرادَ تَهديدُ المُشرِكينَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ لأنَّهم الَّذين يُكنى عنهم بالنَّاسِ كثيرًا في القُرآنِ، وعند التَّقديمِ احتِيجَ إلى تَقديرِ مُضافٍ، فصار مثْلَ: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ الحساب، وحُذِفَ المُضافُ؛ لدَلالةِ مُفسِّرِه عليه، ولمَّا كان الحِسابُ حِسابَ النَّاسِ المذكورينَ، جِيءَ بضَميرِ النَّاسِ؛ ليَعودَ إلى لفْظِ النَّاسِ، فيَحْصُلَ تأكيدٌ آخرُ، وهذا نمَطٌ بديعٌ من نسْجِ الكلامِ [51] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/282، 283)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/9، 10). .
- ودلَّتْ (في) في قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ على الظَّرفيَّةِ الَّتي هي شِدَّةُ تَمكُّنِ الوصْفِ منهم، أي: وهم غافِلونَ أشَدَّ الغَفْلةِ، حتَّى كأنَّهم مُنْغمِسون فيها، أو مَظْروفونَ في مُحيطِها؛ ذلك أنَّ غفْلَتَهم عن يومِ الحسابِ مُتأصِّلةٌ فيهم؛ بسَببِ سابِقِ كُفْرِهم [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/10). .
2- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
- جُملةُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ ... مُبيِّنةٌ لجُملةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لبَيانِ تَمكُّنِ الغَفْلةِ منهم وإعراضِهم، بأنَّهم إذا سَمِعوا في القُرآنِ تَذكيرًا لهم بالنَّظرِ والاستِدلالِ، اشْتَغلوا عنه باللَّعبِ واللَّهوِ، فلمْ يَفْقهوا معانِيَه، وكان حَظُّهم منه سَماعَ ألْفاظِه [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/11). .
- والذِّكرُ: القُرآنُ؛ أُطْلِقَ عليه اسْمُ الذِّكرِ الَّذي هو مصدرٌ؛ لإفادةِ قُوَّةِ وصْفِه بالتَّذكيرِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/11). .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ رَبِّهِمْ لابتداءِ الغايةِ مُتعلِّقةٌ بـ يَأْتِيهِمْ، أو بمَحذوفٍ هو صِفَةٌ لـ ذِكْرٍ، وفي ذلك دَلالةٌ على فضْلِه وشَرفِه، وكَمالِ شَناعةِ ما فَعَلوا به. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لتَشديدِ التَّشنيعِ [55] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا:
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وقال في (الشُّعراءِ):
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: 5] ، فخُصَّتْ هذه السُّورة بقولِه:
مِنْ رَبِّهِمْ بالإضافةِ؛ ووجْهُه: أنَّ هذينِ الاسمينِ العَظيمينِ -(الرَّب) و(الرَّحمن)- توارَدَا في الكتابِ العزيزِ كثيرًا، ثمَّ إنَّ اسْمَه سُبحانه (الرَّحمنَ) يَغلِبُ وُرودُه حيث يُرادُ الإشارةُ إلى العفْوِ والإحسانِ والرِّفقِ بالعبادِ والتَّلطُّفِ والتَّأنيسِ. وأمَّا اسْمُه (الرَّبُّ) فيَعُمُّ وُرودُه طَرفَيِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أمَّا التَّرغيبُ فبَيِّنٌ، وأمَّا التَّرهيبُ فحيث يَرِدُ معنى مِلْكيَّتِه سُبحانه لهم، وانفرادِه بإيجادِهم، وإدرارِ أرزاقِهم، وبَيانِ انفرادِه تعالى بذلك وهم على كُفرِهم. ولمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (الأنبياءِ) مِن الأخبارِ ما طَيُّه وعيدٌ وترهيبٌ معَ تَلطُّفِه سُبحانه بهم بتَذكيرِهم، لم يكُنْ لِيُناسِبَ ذلك وُرودُ اسْمِه (الرَّحمنِ). أمَّا آيةُ (الشُّعراءِ) فمَبْنيَّةٌ على تأْنيسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه أنَّ توقُّفَ قومِه عن الإيمانِ إنَّما هو بقُدرتِه تعالى عليهم، ولو شاء لأراهم آيةً تُبْهِرُهم، ثمَّ رجَعَ الكلامُ إلى تَعنيفِ المُكذِّبينَ، فلمَّا كان بِناءُ الآيةِ على التَّأنيسِ والتَّلطُّفِ بِنَبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه بأنَّ تأْخيرَ العذابِ عنهم إنَّما هو إبقاءٌ منه تعالى؛ ليَسْتجيبَ مَن قُدِّرَ له الإيمانُ منهم، فأشار إلى هذا، وناسبَهُ اسْمُه (الرَّحمنُ)؛ فوضَحَ وُرودُ كلٍّ من الآيتينِ في مَوضعِه على يُناسِبُ
[56] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/345، 346). . وقيل غيرُ ذلك
[57] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 176، 177)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 372). .
- قولُه: مُحْدَثٍ فيه كِنايةٌ عن عدَمِ انتفاعِهم بالذِّكْرِ كلَّما جاءهم، بحيث لا يَزالونَ بحاجةٍ إلى إعادةِ التَّذكيرِ وإحداثِه، مع قطْعِ مَعذرتِهم؛ لأنَّه لو كانوا سَمِعوا ذِكْرًا واحدًا، فلم يَعْبؤوا به، لَانتَحَلوا لأنفُسِهم عُذرًا أنَّهم كانوا ساعتَئذٍ في غَفلةٍ، فلمَّا تكرَّرَ حَدثانُ إتيانِهِ تبيَّنَ لكلِّ مُنصِفٍ أنَّهم مُعرِضون عنه صَدًّا [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/11). .
- وجُملةُ: اسْتَمَعُوهُ حالٌ من ضَميرِ النَّصبِ في يَأْتِيهِمْ، وجُملةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حالٌ لازمةٌ من ضَميرِ الرَّفعِ في اسْتَمَعُوهُ مُقيِّدةٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ؛ لأنَّ جُملةَ اسْتَمَعُوهُ حالٌ باعتبارِ أنَّها مُقيَّدةٌ بحالٍ أُخرى هي المقصودةُ من التَّقييدِ، وإلَّا لصارَ الكلامُ ثَناءً عليهم. وفائدةُ هذا التَّرتيبِ بين الجُملتينِ الحاليَّتينِ: الزِّيادةُ لقطْعِ مَعذرتِهم المُستفادِ من قولِه: مُحْدَثٍ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/12). .
- وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ ذُكِرَ (اللَّعِبُ) مُقَدَّمًا على (اللَّهوِ) في قوله : لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ كما في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحمَّد: 36]؛ تنبيهًا على أنَّ اشتِغالَهم باللَّعِبِ -الذي معناه السُّخريةُ والاستِهزاءُ- معلَّلٌ باللَّهوِ، الذي معناه الذُّهولُ والغَفلةُ؛ فإنَّهم أقدَموا على اللَّعِبِ لِلَهْوِهم وُذهولِهم عن الحقِّ [60] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/120). .
3- قوله تعالى: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
- قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ احتراسٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ، أي: استماعًا لا وعْيَ معه [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/12). ، وأفاد قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أنَّهم ذاهِلونَ غافِلونَ عن ذلك؛ فنَفى آخِرُ الكلامِ ما أثبَتَهُ أوَّلًا على سَبيلِ التَّوكيدِ؛ ليُؤْذِنَ بأنَّهم لمَّا لم يَنْتفِعوا بذلك الاستِماعِ والتَّفطُّنِ، حيث اسْتَهزؤوا بالذِّكْرِ، كأنَّهم لم يَفْطَنوا أصْلًا، وثَبَتوا على رأْسِ غَفلتِهم [62] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/286). .
- قولُه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ... كَلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ جِناياتِهم خاصَّةً إثْرَ حِكايةِ جِناياتِهم المُعتادةِ [63] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). ، ويجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على جُملةِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لأنَّ كِلْتا الجُملتينِ مَسوقةٌ لذِكْرِ أحوالِ تلقِّي المُشركينَ لدَعوةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتَّكذيبِ والبُهتانِ والتَّآمُرِ على رفْضِها [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/12). .
- وفي قولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عبَّرَ بقولِه: وَأَسَرُّوا، مع أنَّ النَّجوى الَّتي هي التَّناجي لا تكونُ إلَّا خُفْيةً ومُسارَّةً؛ وذلك لأنَّهم بالَغوا في إخفاءِ المُسارَّةِ، أو جَعَلوها بحيث لا يَفْطَنُ أحدٌ لتَناجِيهم، ولا يعلَمُ أنَّهم مُتناجُونَ. وعلى وجهِ إبدالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من واوِ وَأَسَرُّوا؛ فيكونُ ذلك إشْعارًا بأنَّهم المَوسومونَ بالظُّلمِ الفاحشِ فيما أسَرُّوا به، ولزيادةِ تَقريرِ أنَّهم المقصودُ من النَّجوى، ولِمَا في الموصولِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإيماءِ إلى سبَبِ تَناجيهم بما ذُكِرَ، وأنَّ سبَبَ ذلك كُفْرُهم وظُلْمُهم أنفُسَهم، وللنِّداءِ على قُبْحِ ما هم مُتَّصِفون به. وعلى وجْهِ أنَّه مُبتدأٌ خبَرُه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فيكونُ قُدِّمَ عليه اهْتِمامًا به، أي: وهؤلاء أسَرُّوا النَّجوى؛ فوضَعَ المُظْهَرَ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ تَسجيلًا على فِعْلِهم بأنَّه ظُلْمٌ [65] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/102)، ((تفسير أبي حيان)) (7/408)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/383)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 372)، ((تفسير أبي السعود)) (6/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/13). .
- قولُه: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مفعولٌ لقولٍ مُضْمَرٍ هو جوابٌ عن سُؤالٍ نشَأَ عمَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا قالوا في نَجْواهم؟ فقيل: قالوا: هَلْ هَذَا... [66] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). ، وهو استفهامٌ معناهُ التَّعجُّبُ والإنكارُ يَقْتضي أنَّهم خاطَبوا مَن قارَبَ أنْ يُصدِّقَ بنُبوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فكيفَ تُؤمِنون بنُبوَّتِه وهو أحدٌ منكم؟! وإنكارُهم وتَعجُّبُهم مِن حيثُ كانوا يَرَون أنَّ اللهَ لا يُرسِلُ إلَّا مَلَكًا [67] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/408)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/13). .
- قولُه: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ استفهامٌ معناه الإنكارُ والتَّوبيخُ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ [68] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/101، 102)، ((تفسير أبي حيان)) (7/408)، ((تفسير أبي السعود)) (6/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). .
- قولُه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: تأْتونَ السِّحرَ وبصَرُكم سليمٌ، وأرادوا به العِلْمَ البَديهيَّ، فعبَّروا عنه بالبصَرِ؛ لأنَّ المُبْصَراتِ لا يَحتاجُ إدراكُها إلى تَفكيرٍ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). . وهذه الجُملةُ حالٌ من فاعلِ (تَأْتُونَ)، مُقرِّرةٌ للإنكارِ، ومُؤكِّدةٌ للاستبعادِ [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/54). .
4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- في قولِه:
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لم يقُلْ: (يَعلَمُ السِّرَّ) مُوافقةً لقولِه:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وإنَّما أُوثِرَ القولُ المُنتظِمُ للسِّرِّ والجهْرِ على السِّرِّ؛ لإثباتِ عِلْمِه تعالى بالسِّرِّ على النَّهجِ البُرهانيِّ، مع ما فيه مِن الإيذانِ بأنَّ عِلْمَه تعالى بالسِّرِّ والجهْرِ على وَتيرةٍ واحدةٍ، لا تفاوُتَ بينهما بالجَلاءِ والخفاءِ قطْعًا كما في عُلومِ الخلْقِ، ولأنَّ القولَ عامٌّ يَشمَلُ السِّرَّ والجهْرَ، فكانَ في الإخبارِ بعلمِه القولَ عِلمُ السِّرِّ وزيادةٌ، وكان آكَدَ في الاطِّلاعِ على نَجواهُم مِن أنْ يقولَ: (يعلَمُ سِرَّهم)، ثمَّ بيَّنَ ذلك بأنَّه السَّميعُ العليمُ؛ فكيف تَخْفى عليه خافيةٌ؟! وقد تُرِكَ هذا الآكَدُ في سُورةِ (الفُرقانِ) في قولِه:
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] ؛ لأنَّه ليس بواجبٍ أنْ يَجِيءَ بالآكَدِ في كلِّ مَوضِعٍ، ولكنْ يَجِيءُ بالوكيدِ تارَةً وبالآكَدِ أُخْرى، كما يَجِيءُ بالحسَنِ في مَوضعٍ وبالأحْسنِ في غيرِه؛ لِيَفْتَنَّ في الكلامِ افْتِنانًا، وتُجْمَعَ الغايةُ وما دُونَها، على أنَّ أُسلوبَ تلك الآيةِ خِلافُ أُسلوبِ هذه، مِن قِبَلِ أنَّه قدَّمَ هاهنا أنَّهم أسَرُّوا النَّجوى، فكأنَّه أراد أنْ يقولَ: إنَّ ربِّي يَعلَمُ ما أسَرُّوهُ، فوضَعَ القولَ مَوضِعَ ذلك للمُبالَغةِ، وهناك في (الفُرقانِ) قصَدَ وصْفَ ذاتِه بأنْ أنزَلَه الَّذي يعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأرضِ، فهو كقولِه:
عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [71] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/103)، ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/409)، ((تفسير أبي السعود)) (6/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/15). [سبأ: 3] . وقيل: لم يقُل: (يعلمُ السِّرَّ)؛ لمراعاةِ العِلمِ بأنَّ الذي قالوه مِن قَبيلِ السِّرِّ، وأنَّ إثباتَ عِلمِه بكلِّ قَولٍ يقتضي إثباتَ عِلمِه بالسِّرِّ وغَيرِه، بناءً على متعارَفِ النَّاسِ، وأمَّا قَولُه في سورة (الفرقان):
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] فلم يتقَدَّمْ قَبلَه ذِكرٌ للإسرارِ، وكان قَولُ الذين كفروا:
إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان: 4] صادِرًا منهم تارةً جهرًا وتارةً سِرًّا، فأعلمهم اللهُ باطِّلاعِه على سِرِّهم، ويُعلَمُ منه أنَّه مطَّلِعٌ على جَهرِهم بطريقةِ الفَحوى
[72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/15). .
- و(أل) في الْقَوْلَ للاستغراقِ، أي: يَعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ من جَهْرٍ أو سِرٍّ؛ وبذلك كان هذا تَذييلًا [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/14). .
- وقولُه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، مُتضمِّنٌ للوعيدِ [74] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/55). .
5- قولُه تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
- قولُه: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ جوابُ شَرْطٍ مَحذوفٍ، يُفصِحُ عنه السِّياقُ؛ كأنَّه قيلَ: وإنْ لم يكُنْ كما قُلْنا، بل كان رَسولًا مِنَ اللهِ تعالى، فلْيأتِنا بآيةٍ. ودخلَتْ لامُ الأمْرِ على فِعْلِ الغائبِ؛ لمَعْنى إبلاغِ الأمْرِ إليه، أي: فقُولوا له: ائتِنَا بآيةٍ [75] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/55). .
- والتَّشبيهُ في قولِه: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ في مَوضعِ الحالِ من ضَميرِ فَلْيَأْتِنَا، أي: حالةُ كونِ هذا البشَرِ حين يأْتي بالآيةِ يُشبِهُ رِسالتُه رِسالةَ الأوَّلينَ، والمُشبَّهُ ذاتٌ والمُشبَّهُ به معنى الرِّسالةِ، وذلك واسعٌ في كَلامِ العربِ، وصِحَّةُ التشبيهِ مِن حيثُ إنَّ الإرسالَ يَتضمَّنُ الإتيانَ بالآيةِ. ويجوزُ أنْ يُحمَلَ النَّظمُ الكريمُ على أنَّه أُرِيدَ كلُّ واحدٍ من الإتيانِ والإرسالِ في كلِّ واحدٍ من طَرفَيِ التَّشبيهِ، لكنَّه تُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ ذِكْرُ الإرسالِ، وتُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ به ذِكْرُ الإتيانِ؛ اكتفاءً بما ذُكِرَ في كلِّ مَوطنٍ عمَّا تُرِكَ في الموطنِ الآخَرِ [76] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/103، 104)، ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/410)، ((تفسير أبي السعود)) (6/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/16، 17). .
- وقيل: التعبيرُ في حقِّه بالإتيانِ، والعدولُ عن الظاهرِ فيما بعدَه إيماءٌ إلى أنَّ ما أتَى به مِن عندِه، وما أتَى به الأوَّلونَ مِن الله؛ ففيه تعريضٌ مناسبٌ لِما قبلَه مِن الافتراءِ [77] يُنظر: ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (6/242). .