أولًا: غَضُّ البَصَرِ
مِن آدابِ الطَّريقِ: غَضُّ البَصَرِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابقال تعالى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور: 30-31] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إيَّاكُم والجُلوسَ على الطُّرُقاتِ، فقالوا: ما لنا بُدٌّ، إنَّما هي مَجالِسُنا نَتَحَدَّثُ فيها! قال: فإذا أبيتُم إلَّا المَجالِسَ فأعطُوا الطَّريقَ حَقَّها، قالوا: وما حَقُّ الطَّريقِ؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وكفُّ الأذى، ورَدُّ السَّلامِ، وأمرٌ بالمَعروفِ، ونَهيٌ عَنِ المُنكَرِ)) [748] أخرجه البخاري (2465) واللفظ له، ومسلم (2121). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ المَجالِسِ بالصُّعُداتِ [749] الصُّعُداتُ: أي الطُّرُقُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (4/ 86). ، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، لَيَشُقُّ علينا الجُلوسُ في بُيوتِنا! قال: فإن جَلَستُم فأعطُوا المَجالِسَ حَقَّها، قالوا: وما حَقُّها يا رَسولَ اللهِ؟ قال: إدلالُ السَّائِلِ، ورَدُّ السَّلامِ، وغَضُّ الأبصارِ، والأمرُ بالمَعروفِ، والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ)) [750] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1149). صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (876)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1313)، وجود إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (12/305). .
وفي رِوايةٍ:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ الأفنيةِ والصُّعُداتِ [751] قال ابنُ حَجَرٍ: (أمَّا الأفنِيَةُ فهيَ جمعُ فِناءٍ -بكَسرِ الفاءِ والمَدِّ- وقد تُقصَرُ، وهو المَكانُ المُتَّسِعُ أمامَ الدُّورِ... والصُّعُداتُ -بضَمَّتَينِ-: جَمعُ صُعُدٍ -بضَمَّتَينِ أيضًا، وقد يُفتَحُ أوَّلُه- وهو جَمعُ صَعيدٍ، كطَريقٍ وطُرُقاتٍ وزنًا ومَعنًى، والمُرادُ به ما يُرادُ مِنَ الفِناءِ، وزَعَمَ ثَعلبٌ أنَّ المُرادَ بالصُّعُداتِ وَجهُ الأرضِ، ويَلتَحِقُ بما ذُكِرَ ما في مَعناه مِنَ الجُلوسِ في الحَوانيتِ وفي الشَّبابيكِ المُشرِفةِ على المارِّ؛ حَيثُ تَكونُ في غَيرِ العُلوِ). ((فتح الباري)) (5/ 113). أن يُجلَسَ فيها، فقال المُسلِمونَ: لا نَستَطيعُه، لا نُطيقُه، قال: إمَّا لا فأعطُوا حَقَّها، قالوا: وما حَقُّها؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وإرشادُ ابنِ السَّبيلِ، وتَشميتُ العاطِسِ إذا حَمِدَ اللَّهَ، ورَدُّ التَّحيَّةِ)) [752] أخرجها أبو داود (4816)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1014) واللفظ له، وابن حبان (596). صحَّحها ابن حبان، والألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (776)، وصحَّح إسنادَها الحاكم في ((المستدرك)) (7688)، وقواها على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (596). .
3- عن أبي طَلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا قُعودًا بالأفنِيةِ نَتَحَدَّثُ، فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقامَ علينا فقال: ما لكُم ولمَجالِسِ الصُّعُداتِ؟! اجتَنِبوا مَجالِسَ الصُّعُداتِ، فقُلْنا: إنَّما قَعَدنا لغَيرِ ما باسٍ، قَعَدنا نَتَذاكَرُ ونَتَحَدَّثُ، قال: إمَّا لا [753] إمَّا لا: هيَ: (إنْ) الشَّرطيَّةُ المَكسورةُ زيدَت عليها (ما) تَأكيدًا للشَّرطِ، و(لا) عِبارةٌ عنِ الامتِناعِ والإبايةِ، فكَأنَّه قال: إن كان ولا بُدَّ مِن إبايتِكم، ولا غِنى لكُم عن قُعودِكُم فيها، فأعطوا الطَّريقَ حَقَّها، كَما قال في الحَديثِ الآخَرِ: ((إن أبَيتُم إلَّا المَجلسَ فأعطُوا الطَّريقَ حَقَّه))، ومَعناه: افعَلْ كَذا وكَذا إن كُنتَ لا تَفعَلُ كَذا وكَذا، فدَخَلت (ما) صِلةً. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 43)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 533)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 487). فأدُّوا حَقَّها: غَضُّ البَصَرِ، ورَدُّ السَّلامِ، وحُسنُ الكَلامِ)) [754] أخرجه مسلم (2161). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال الطَّبَريُّ وغَيرُه: فيه مِنَ الفِقهِ وُجوبُ غَضِّ البَصَرِ عنِ النَّظَرِ إلى عَورةِ مُؤمِنٍ ومُؤمِنةٍ، وعن جَميعِ المُحَرَّماتِ، وكُلِّ ما تُخشى الفِتنةُ مِنه.
وفيه وُجوبُ رَدِّ السَّلامِ على مَن سَلَّمَ عليه، ولُزومُ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، وكَفِّ الأذى...
قال أبو عَبدِ اللَّهِ بنِ أبى صُفرةَ: وفيه قَطعُ الذَّرائِعِ؛ لأنَّ الجُلوسَ ذَريعةٌ إلى تَسليطِ البَصَرِ، وقِلَّةِ القيامِ بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ؛ فلذلك نُهيَ عنه)
[755] ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 589، 590). .
3- عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن نَظَرِ الفُجاءةِ [756] قال النَّوويُّ: (الفُجاءةُ -بضَمِّ الفاءِ وفتحِ الجيمِ وبالمَدِّ، ويُقالُ: بفتحِ الفاءِ وإسكانِ الجيمِ والقَصرِ، لُغَتانِ- هيَ البَغتةُ، ومَعنى نَظَرِ الفَجأةِ: أن يَقَعَ بَصَرُه على الأجنَبيَّةِ مِن غَيرِ قَصدٍ، فلا إثمَ عَليه في أوَّلِ ذلك، ويَجِبُ عَليه أن يَصرِفَ بَصَرَه في الحالِ، فإن صَرَف في الحالِ فلا إثمَ عليه، وإنِ استَدامَ النَّظَرَ أثِمَ لهذا الحَديثِ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَه بأن يَصرِفَ بَصَرَه مَعَ قَولِه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور: 30] ). ((شرح مسلم)) (14/ 139). فأمَرَني أن أصرِفَ بَصَري)) [757] أخرجه مسلم (2159). .
4- عن بُرَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَليٍّ:
((يا عليُّ، لا تُتبِعِ النَّظرةَ النَّظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى وليسَت لك الآخِرةُ)) [758] أخرجه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد (22991). صحَّحه على شرط مسلم الحاكم في ((المستدرك)) (2788)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2149)، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2149)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ. .
5- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ما رَأيتُ شيئًا أشبَهَ باللَّمَمِ مِمَّا قال أبو هُرَيرةَ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللَّهَ كتَبَ على ابنِ آدَمَ حَظَّه مِنَ الزِّنا، أدرَك ذلك لا مَحالةَ؛ فزِنا العَينينِ النَّظَرُ، وزِنا اللِّسانِ النُّطقُ، والنَّفسُ تَمَنَّى وتَشتَهي، والفَرجُ يُصَدِّقُ ذلك أو يُكذِّبُه)) [759] أخرجه البخاري (6243) واللفظ له، ومسلم (2657). .
فوائِدُ:أهميةُ غضِّ البصرِ1- عن وكيعٍ، قال: (خَرَجنا مَعَ الثَّوريِّ في يَومِ عيدٍ، فقال: إنَّ أوَّلَ ما نَبدَأُ به في يَومِنا هذا غَضُّ البَصَرِ)
[760] أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/23). .
2- قال القُرطُبيُّ -تَبَعًا لابنِ عَطيَّةَ-: (البَصَرُ هو البابُ الأكبَرُ إلى القَلبِ، وأعمَرُ طُرُقِ الحَواسِّ إليه، وبحَسَبِ ذلك كَثُرَ السُّقوطُ مِن جِهَتِه، ووجَبَ التَّحذيرُ مِنه، وغَضُّه واجِبٌ عن جَميعِ المُحَرَّماتِ، وكُلِّ ما يُخشى الفِتنةُ مِن أجلِه)
[761] ((الجامع لأحكام القرآن)) (12/ 223). ويُنظر: ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (4/ 177). .
مما يُستعانُ به على غضِّ البصرِقال رَجُلٌ للجُنَيدِ: (بمَ أستَعينُ على غَضِّ البَصَرِ؟ فقال: بعِلمِك أنَّ نَظَرَ النَّاظِرِ إليك أسبَقُ مِن نَظَرِك إلى المَنظورِ إليه)
[762] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 397). .
مِن آفاتِ إطلاقِ البصرِقال ابنُ مُفلِحٍ: (ليَحذَرِ العاقِلُ إطلاقَ البَصَرِ؛ فإنَّ العَينَ تَرى غَيرَ المَقدورِ عليه على غَيرِ ما هو عليه، ورُبَّما وقَعَ مِن ذلك العِشقُ، فيَهلِكُ البَدَنُ والدِّينُ، فمَنِ ابتُليَ بشَيءٍ مِنه فليَتَفكَّرْ في عُيوبِ النِّساءِ)
[763] ((الفروع)) (8/ 181). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (النَّظَرُ أصلُ عامَّةِ الحَوادِثِ التي تُصيبُ الإنسانَ؛ فالنَّظرةُ تولِّدُ خَطرةً، ثُمَّ تولِّدُ الخَطرةُ فِكرةً، ثُمَّ تولِّدُ الفِكرةُ شَهوةً، ثُمَّ تولِّدُ الشَّهوةُ إرادةً، ثُمَّ تَقوى فتَصيرُ عَزيمةً جازِمةً، فيَقَعُ الفِعلُ ولا بُدَّ، ما لم يَمنَعْ مِنه مانِعٌ، وفي هذا قيل: الصَّبرُ على غَضِّ البَصَرِ أيسَرُ مِنَ الصَّبرِ على ألمِ ما بَعدَه.
قال الشَّاعِرُ:
كُلُّ الحَوادِثِ مَبداها مِنَ النَّظَرِ
ومُعظَمُ النَّارِ مِن مُستَصغَرِ الشَّرَرِ
كَم نَظرةٍ بَلغَت في قَلبِ صاحِبِها
كمَبلَغِ السَّهمِ بَينَ القَوسِ والوَتَرِ
والعَبدُ ما دامَ ذا طَرْفٍ يُقَلِّبُه
في أعيُنِ الغَيرِ مَوقوفٌ على الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقلتَه ما ضَرَّ مُهجَتَه
لا مَرحَبًا بسُرورٍ عادَ بالضَّرَرِ
ومِن آفاتِ النَّظَرِ: أنَّه يورِثُ الحَسَراتِ والزَّفَراتِ والحُرُقاتِ، فيَرى العَبدُ ما ليسَ قادِرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا مِن أعظَمِ العَذابِ؛ أن تَرى ما لا صَبرَ لك عن بَعضِه، ولا قُدرةَ على بَعضِه.
قال الشَّاعِرُ:
وكُنتَ مَتى أرسَلتَ طَرفَك رائِدًا
لقَلبِك يَومًا أتعَبَتك المناظِرُ
رَأيتَ الذي لا كُلُّه أنتَ قادِرٌ
عليه ولا عن بَعضِه أنتَ صابرُ
وهذا البَيتُ يَحتاجُ إلى شَرحٍ، ومُرادُه: أنَّك تَرى ما لا تَصبرُ عن شَيءٍ مِنه ولا تَقدِرُ عليه؛ فإنَّ قَولَه: "لا كُلُّه أنتَ قادِرٌ عليه" نَفيٌ لقُدرَتِه على الكُلِّ الذي لا يَنتَفي إلَّا بنَفيِ القُدرةِ عن كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ.
وكَم مَن أرسَل لحَظاتِه فما قَلعَت إلَّا وهو يَتَشَحَّطُ بَينَهنَّ قَتيلًا! ومِنَ العَجَبِ أنَّ لحظةَ النَّاظِرِ سَهمٌ لا يَصِلُ إلى المَنظورِ إليه حتَّى يَتَبَوَّأَ مَكانًا مِن قَلبِ النَّاظِرِ، ولي مِن قَصيدةٍ:
يا راميًا بسِهامِ اللَّحظِ مُجتَهِدًا
أنتَ القَتيلُ بما تَرمي فلا تُصِبِ
يا باعِثَ الطَّرْفِ يَرتادُ الشِّفاءَ له
احبِسْ رَسولَك لا يَأتيك بالعَطَبِ
وأعجَبُ مِن ذلك أنَّ النَّظرةَ تَجرَحُ القَلبَ جَرحًا، فيَتبَعُها جَرحٌ على جَرحٍ، ثُمَّ لا يَمنَعُه ألمُ الجِراحةِ مِنِ استِدعاءِ تَكرارِها! ولي أيضًا في هذا المَعنى:
ما زِلتَ تُتبِعُ نَظرةً في نَظرةٍ
في إثرِ كُلِّ مَليحةٍ ومَليحِ
وتَظُنُّ ذاكَ دَواءَ جُرحِك وهو في الـ
تحقيقِ تَجريحٌ على تَجريحِ
فذَبَحتَ طَرْفَك باللِّحاظِ وبالبُكا
فالقَلبُ مِنك ذَبيحٌ أيُّ ذَبيحِ
وقد قيل: إنَّ حَبسَ اللَّحَظاتِ أيسَرُ مِن دَوامِ الحَسَراتِ)
[764] ((الداء والدواء)) (ص: 153، 154). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (تَعَمُّدُ النَّظَرِ يورِثُ القَلبَ عَلاقةً يَتَعَذَّبُ بها الإنسانُ، وإن قَويَت حتَّى صارَت غَرامًا وعِشقًا زادَ العَذابُ الأليمُ، سَواءٌ قُدِّرَ أنَّه قادِرٌ على المَحبوبِ أو عاجِزٌ عنه؛ فإن كان عاجِزًا فهو في عَذابٍ أليمٍ مِنَ الحُزنِ والهَمِّ والغَمِّ، وإن كان قادِرًا فهو في عَذابٍ أليمٍ مِن خَوفِ فِراقِه، ومِنَ السَّعيِ في تَأليفِه وأسبابِ رِضاه). ((مجموع الفتاوى)) (14/ 156، 157). .
مِن فوائدِ غضِّ البصرِقال ابنُ القيمِ: (النَّظرةُ سَهمٌ مَسمومٌ مِن سِهامِ إبليسَ، ومَن أطلقَ لحَظاتِه دامَت حَسَراتُه، وفي غَضِّ البَصَرِ عِدَّةُ مَنافِعَ:
أحَدُها: أنَّه امتِثالٌ لأمرِ اللهِ، الذي هو غايةُ سَعادةِ العَبدِ في مَعاشِه ومَعادِه؛ فليسَ للعَبدِ في دُنياه وآخِرَتِه أنفعُ مِنِ امتِثالِ أوامِرِه، وما شَقيَ مَن شَقي في الدُّنيا والآخِرةِ إلَّا بتَضييعِ أوامِرِه.
الثَّانيةُ: أنَّه يَمنَعُ مِن وُصولِ أثَرِ السَّهمِ المَسمومِ -الذي لعَلَّ فيه هَلاكَه- إلى قَلبِه.
الثَّالثةُ: أنَّه يورِثُ القَلبَ أُنسًا باللهِ وجَمعيَّةً عليه؛ فإنَّ إطلاقَ البَصَرِ يُفرِّقُ القَلبَ ويُشَتِّتُه، ويُبعِدُه عنِ اللهِ، وليسَ على القَلبِ شَيءٌ أضَرَّ مِن إطلاقِ البَصَرِ؛ فإنَّه يورِثُ الوَحشةَ بَينَ العَبدِ ورَبِّه.
الرَّابعةُ: أنَّه يُقَوِّي القَلبَ ويُفرِحُه، كَما أنَّ إطلاقَ البَصَرِ يُضعِفُه ويَحزُنُه.
الخامِسةُ: أنَّه يَكسِبُ القَلبَ نورًا، كما أنَّ إطلاقَه يُلبِسُه ظُلمةً؛ ولهذا ذَكَر اللهُ سُبحانَه آيةَ النُّورِ عَقيبَ الأمرِ بغَضِّ البَصَرِ، فقال:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] ، ثُمَّ قال إثرَ ذلك:
اللَّهُ نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِه كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور: 35] ، أي: مَثَلُ نُورِه في قَلبِ عَبدِه المُؤمِنِ الذي امتَثَل أوامِرَه واجتَنَبَ نَواهيَه، وإذا استَنارَ القَلبُ أقبلَت وُفودُ الخَيراتِ إليه مِن كُلِّ ناحيةٍ، كما أنَّه إذا أظلمَ أقبَلَت سَحائِبُ البَلاءِ والشَّرِّ عليه مِن كُلِّ مَكانٍ، فما شِئتَ مِن بدَعٍ وضَلالةٍ، واتِّباعِ هَوًى، واجتِنابِ هُدًى، وإعراضٍ عن أسبابِ السَّعادةِ، واشتِغالٍ بأسبابِ الشَّقاوةِ؛ فإنَّ ذلك إنَّما يَكشِفُه له النُّورُ الذي في القَلبِ، فإذا نَفِد ذلك النُّورُ بَقيَ صاحِبُه كالأعمى الذي يَجوسُ في حَنادِسِ الظَّلامِ.
السَّادِسةُ: أنَّه يورِثُ فِراسةً صادِقةً يُمَيِّزُ بها بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، والصَّادِقِ والكاذِبِ، وكان شاه الكَرمانيُّ يَقولُ: "مَن عَمَر ظاهِرَه باتِّباعِ السُّنَّةِ، وباطِنَه بدَوامِ المُراقَبةِ، وغَضَّ بَصَرَه عنِ المَحارِمِ، وكَفَّ نَفسَه عنِ الشُّبُهاتِ، واغتَذى بالحَلالِ؛ لم تُخطِئْ له فِراسةٌ".
واللهُ سُبحانَه يَجزي العَبدَ على عَمَلِه بما هو مِن جِنسِ عَمَلِه، ومَن تَرَكَ للهِ شَيئًا عَوَّضه اللَّهُ خَيرًا مِنه؛ فإذا غَضَّ بَصَرَه عن مَحارِمِ اللهِ عَوَّضَه اللهُ بأن يُطلِقَ نورَ بَصيرَتِه عِوضًا عن حَبسِ بَصَرِه للهِ، ويَفتَحُ عليه بابَ العِلمِ والإيمانِ، والمَعرِفةِ والفِراسةِ الصَّادِقةِ المُصيبةِ التي إنَّما تُنالُ ببَصيرةِ القَلبِ...
السَّابعةُ: أنَّه يورِثُ القَلبَ ثَباتًا وشَجاعةً وقوَّةً، فيَجمَعُ اللَّهُ له بَينَ سُلطانِ النُّصرةِ والحُجَّةِ، وسُلطانِ القُدرةِ والقوَّةِ، كما في الأثَرِ: "الذي يُخالِفُ هَواه يَفِرُّ الشَّيطانُ مِن ظِلِّه".
وضِدُّ هذا تَجِدُ في المُتَّبعِ لهَواه -مِن ذُلِّ النَّفسِ ووضاعَتِها ومَهانَتِها وخِسَّتِها وحَقارَتِها- ما جَعَله اللهُ سُبحانَه فيمَن عَصاه، كَما قال الحَسَنُ: "إنَّهم وإن طَقطَقَت بهمُ البِغالُ، وهَملَجَت بهمُ البَراذينُ، إنَّ ذُلَّ المَعصيةِ في رِقابِهم! أبى اللهُ إلَّا أن يُذِلَّ مَن عَصاه".
وقد جَعَل اللهُ سُبحانَه العِزَّ قَرينَ طاعَتِه، والذُّلَّ قَرينَ مَعصيَتِه... ومَن أطاعَ اللَّهَ فقد والاه فيما أطاعَه فيه، وله مِنَ العِزِّ بحَسَبِ طاعَتِه، ومَن عَصاه فقد عاداه فيما عَصاه فيه، وله مِنَ الذُّلِّ بحَسَبِ مَعصيَتِه.
الثَّامِنُ: أنَّه يَسُدُّ على الشَّيطانِ مَدخَلَه مِنَ القَلبِ؛ فإنَّه يَدخُلُ مَعَ النَّظرةِ ويَنفُذُ مَعَها إلى القَلبِ أسرَعَ مِن نُفوذِ الهَواءِ في المَكانِ الخالي، فيُمَثِّلُ له صورةَ المَنظورِ إليه ويُزَيِّنُها، ويَجعَلُها صَنَمًا يَعكُفُ عليه القَلبُ، ثُمَّ يَعِدُه ويُمَنِّيه، ويوقِدُ على القَلبِ نارَ الشَّهوةِ، ويُلقي عليها حَطَبَ المَعاصي التي لم يَكُنْ يَتَوصَّلُ إليها بدونِ تلك الصُّورةِ، فيَصيرُ القَلبُ في اللَّهَبِ.
فمِن ذلك اللَّهَبِ تلك الأنفاسُ التي يَجِدُ فيها وَهَجَ النَّارِ، وتلك الزَّفَراتُ والحُرُقاتُ؛ فإنَّ القَلبَ قد أحاطَت به النِّيرانُ بكُلِّ جانِبٍ، فهو في وسَطِها كالشَّاةِ في وسَطِ التَّنُّورِ؛ ولهذا كانت عُقوبةُ أصحابِ الشَّهَواتِ للصُّوَرِ المُحَرَّمةِ: أنْ جُعِل لهم في البَرزَخِ تَنُّورٌ مِنَ النَّارِ، وأُودِعَت أرواحُهم فيه إلى يَومِ حَشرِ أجسادِهم، كما أراها اللَّهُ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَنامِ في الحَديثِ المُتَّفَقِ على صِحَّتِه
[765] لفظُه: عن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يُكثِرُ أن يَقولَ لِأصحابِه: هل رأى أحَدٌ منكم من رُؤيا؟ قال: فيَقُصُّ عليه من شاء اللَّهُ أن يَقُصَّ، وإنَّه قال ذاتَ غَداةٍ: إنَّه أتاني اللَّيلةَ آتيانِ وإنَّهما ابتَعَثاني، وإنَّهما قالا لي: انطَلِقْ، وإنِّي انطَلَقْتُ مَعَهما، وإنَّا أتَينا على رَجُلٍ مُضطَجِعٍ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بصَخرةٍ، وإذا هو يَهوي بالصَّخرةِ لِرأسِه فيَثلَغُ رأسَه فيتدهدَهُ الحَجَرُ هاهنا، فيَتْبعُ الحَجَرَ فيأخُذُه، فلا يَرجِعُ إليه حَتَّى يَصِحَّ رأسُه كما كان، ثُمَّ يَعودُ عليه فيَفعَلُ به مِثلَ ما فَعَل المَرَّةَ الأولى. قال: قُلتُ لَهما: سُبحانَ اللَّهِ! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ. قال: فانطَلَقْنا، فأتَينا على رَجُلٍ مُستَلقٍ لقَفاه، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بكَلُّوبٍ من حَديدٍ، وإذا هو يأتي أحَدَ شِقَّي وَجهِه فيُشَرشِرُ شِدقَه إلى قَفاه، ومَنخِرَه إلى قَفاه، وعَينَه إلى قَفاه، -قال: ورُبَّما قال أبو رَجاءٍ: فيَشُقُّ-. قال: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلى الجانِبِ الآخَرِ فيَفعَلُ به مِثلَ ما فَعَل بالجانِبِ الأوَّلِ، فما يَفرُغُ من ذلك الجانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذلك الجانِبُ كما كان، ثُمَّ يَعودُ عليه فيَفعَلُ مِثلَ ما فَعَل المَرَّةَ الأولى، قال: قُلتُ: سُبحانَ اللَّهِ! ما هذان؟! قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ، فانطَلَقنا، فأتَينا على مِثلِ التَّنُّورِ -قال: فأحسَبُ أنَّه كان يَقولُ- فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، قال: فاطَّلَعْنا فيه، فإذا فيه رِجالٌ ونِساءٌ عُراةٌ، وإذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفَلَ منهم، فإذا أتاهم ذلك اللَّهَبُ ضَوضَوْا. قال: قُلتُ لَهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ، قال: فانطَلَقْنا، فأتَينا على نَهرٍ -حَسِبْتُ أنَّه كانَ يَقولُ- أحمَرَ مِثلِ الدَّمِ، وإذا في النَّهرِ رَجُلٌ سابحٌ يَسبَحُ، وإذا على شَطِّ النَّهرِ رَجُلٌ قَد جَمَعَ عِندَه حِجارةً كَثيرةً، وإذا ذلك السَّابحُ يَسبَحُ ما يَسبَحُ، ثُمَّ يأتي ذلك الذي قد جَمَعَ عِندَه الحِجارةَ، فيَفغَرُ له فاه، فيُلقِمُه حَجَرًا فيَنطَلِقُ يَسبَحُ، ثُمَّ يَرجِعُ إليه، كُلَّما رَجَعَ إليه فغَر له فاه فألقَمَه حَجَرًا! قال: قُلتُ لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ. قال: فانطلَقْنا فأتَينا على رجُلٍ كريهِ المَرآةِ، كأكرَهِ ما أنتَ راءٍ رَجُلًا مَرآةً، وإذا عندَه نارٌ يَحُشُّها ويسعى حولَها، قال: قلتُ لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ، فانطَلَقْنا، فأتَينا على رَوضةٍ مُعتِمةٍ، فيها مِن كُلِّ لونِ الرَّبيعِ، وإذا بينَ ظَهْرَي الرَّوضةِ رَجُلٌ طويلٌ، لا أكاد أرى رأسَه طولًا في السَّماءِ، وإذا حولَ الرَّجُلِ مِن أكثَرِ وِلدانٍ رأيتُهم قَطُّ، قال: قلتُ لهما: ما هذا، ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ، قال: فانطَلَقْنا فانتَهَينا إلى روضةٍ عظيمةٍ، لم أرَ رَوضةً قَطُّ أعظَمَ منها ولا أحسَنَ، قال: قالا لي: ارْقَ فيها، قال: فارتَقَينا فيها، فانتَهَينا إلى مدينةٍ مَبنيَّةٍ بلَبِنٍ ذَهَبٍ ولَبِنٍ فِضَّةٍ، فأتينا بابَ المدينةِ فاستفتَحْنا ففُتِح لنا فدخَلْناها، فتَلَقَّانا فيها رجالٌ شَطرٌ مِن خَلقِهم كأحسَنِ ما أنت راءٍ، وشَطرٌ كأقبَحِ ما أنت راءٍ، قال: قالا لهم: اذهَبوا فقَعوا في ذلك النَّهرِ، قال: وإذا نَهرٌ مُعتَرضٌ يجري كأنَّ ماءَه المحضُ في البياضِ، فذَهَبوا فوقعوا فيه، ثمَّ رَجَعوا إلينا قد ذَهَب ذلك السُّوءُ عنهم، فصاروا في أحسَنِ صورةٍ، قال: قالا لي: هذه جَنَّةُ عَدنٍ، وهذاك مَنزِلُك، قال: فسَمَا بصري صُعُدًا، فإذا قَصرٌ مِثلُ الرَّبابةِ البيضاءِ، قال: قالا لي: هذاك مَنزِلُك، قال: قُلتُ لهما: بارَكَ اللهُ فيكما، ذراني فأدخُلَه، قالا: أمَّا الآنَ فلا، وأنت داخِلُه. قال: قُلتُ لهما: فإنِّي قد رأيتُ مُنذُ اللَّيلةِ عَجَبًا! فما هذا الذي رأيتُ؟ قال: قالا لي: أمَا إنَّا سَنُخبرُك؛ أمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الذي أتَيتَ عليه يُثلَغُ رأسُه بالحَجَرِ، فإنَّه الرَّجُلُ يأخُذُ القُرآنَ فيَرفُضُه ويَنامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتوبةِ، وأمَّا الرَّجُلُ الذي أتَيتَ عليه يُشرشَرُ شِدقُه إلى قَفاه، ومَنخِرُه إلى قَفاه، وعَينُه إلى قَفاه، فإنَّه الرَّجُلُ يَغدو من بَيتِه، فيَكذِبُ الكَذبةَ تَبلُغُ الآفاقَ، وأمَّا الرِّجالُ والنِّساءُ العُراةُ الذينَ في مِثلِ بناءِ التَّنُّورِ، فإنَّهمُ الزُّناةُ والزَّواني...)). أخرجه البخاري (7047). .
التَّاسِعةُ: أنَّه يُفَرِّغُ القَلبَ للفِكرةِ في مَصالِحِه والاشتِغالِ بها، وإطلاقُ البَصَرِ يُنسيه ذلك ويَحولُ بَينَه وبَينَه، فيَنفرِطُ عليه أمرُه، ويَقَعُ في اتِّباعِ هَواه، وفي الغَفلةِ عن ذِكرِ رَبِّه؛ قال تعالى:
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28] . وإطلاقُ النَّظَرِ يوجِبُ هذه الأُمورَ الثَّلاثةَ بحَسَبِه.
العاشِرةُ: أنَّ بَينَ العَينِ والقَلبِ مَنفذًا وطَريقًا يوجِبُ انفِعالَ أحَدِهما عنِ الآخَرِ، وأن يَصلُحَ بصَلاحِه، ويَفسُدَ بفسادِه، فإذا فسَدَ القَلبُ فسَدَ النَّظَرُ، وإذا فسَدَ النَّظَرُ فسَدَ القَلبُ، وكذلك في جانِبِ الصَّلاحِ؛ فإذا خَرِبَتِ العَينُ وفسَدَت خَرِبَ القَلبُ وفسَدَ، وصارَ كالمَزبَلةِ التي هيَ مَحَلُّ النَّجاساتِ والقاذوراتِ والأوساخِ، فلا يَصلُحُ لسُكنى مَعرِفةِ اللهِ ومَحَبَّتِه والإنابةِ إليه، والأُنسِ به والسُّرورِ بقُربِه فيه، وإنَّما يَسكُنُ فيه أضدادُ ذلك.
فهذه إشارةٌ إلى بَعضِ فوائِدِ غَضِّ البَصَرِ تُطلِعُك على ما وراءَها)
[766] ((الداء والدواء)) (ص: 178-180). وذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ فوائِدَ غَضِّ البَصَرِ أيضًا في: ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) (ص: 97-105). .