موسوعة الآداب الشرعية

أوَّلًا: النِّيَّةُ والاحتِسابُ في الأكلِ


يَنبَغي أن يَستَحضِرَ المُسلِمُ نيَّةً حَسَنةً عندَ طعامِه [1341] قال زبيدٌ: (أحِبُّ أن يَكونَ لي في كُلِّ شَيءٍ نيَّةٌ، حتَّى في طَعامي وشَرابي). ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (5/ 61). ،كَأن يَنويَ بذلك التَّقَوِّيَ على طاعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الأعمالُ بالنِّيَّةِ، ولكُلِّ امرِئٍ ما نَوى...)) الحَديثَ [1342] أخرجه البخاري (54) واللفظ له، ومسلم (1907). .
وما مِن شَيءٍ مِنَ المُباحاتِ إلَّا ويَحتَمِلُ نيَّةً أو نيَّاتٍ يَصيرُ بها مِن مَحاسِنِ القُرُباتِ، وينالُ بها مَعالي الدَّرَجاتِ، فما أعظَمَ خُسرانَ مَن يَغفُلُ عنها ويَتَعاطاها تَعاطيَ البَهائِمِ المُهمَلةِ عن سَهوٍ وغَفلةٍ [1343] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 371). !ومَتى نَوى المُؤمِنُ بتَناوُلِ شَهَواتِه المُباحةِ التَّقَوِّيَ على الطَّاعةِ كانت شَهَواتُه له طاعةً يُثابُ عليها [1344] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 192). .
2- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((... ولستَ تُنفِقُ نَفقةً تَبتَغي بها وجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ بها، حتَّى اللُّقمةَ تَجعَلُها في في [1345] أي: في فَمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 169). امرأتِك)) [1346] أخرجه البخاري (4409)، ومسلم (1628). .
قال النَّوويُّ: (فيه أنَّ الأعمالَ بالنِّيَّاتِ وأنَّه إنَّما يُثابُ على عَمَلِه بنيَّتِه... وفيه أنَّ المُباحَ إذا قَصَدَ به وَجهَ اللهِ تعالى صارَ طاعةً ويُثابُ عليه، وقد نبَّهَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هذا بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «حتَّى اللُّقمةَ تَجعَلُها في في امرَأتِك»؛ لأنَّ زَوجةَ الإنسانِ هيَ مِن أخَصِّ حُظوظِه الدُّنيَويَّةِ وشَهَواتِه ومَلاذِّه المُباحةِ، وإذا وضَعَ اللُّقمةَ في فيها فإنَّما يَكونُ ذلك في العادةِ عِندَ المُلاعَبةِ والمُلاطَفةِ والتَّلذُّذِ بالمُباحِ، فهذه الحالةُ أبعَدُ الأشياءِ عنِ الطَّاعةِ وأُمورِ الآخِرةِ، ومَعَ هذا فأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه إذا قَصَدَ بهذه اللُّقمةِ وَجهَ اللهِ تعالى حَصَل له الأجرُ بذلك، فغَيرُ هذه الحالةِ أَولى بحُصولِ الأجرِ إذا أرادَ وجهَ اللهِ تعالى، ويَتَضَمَّنُ ذلك أنَّ الإنسانَ إذا فعَل شَيئًا أصلُه على الإباحةِ وقَصَدَ به وَجهَ اللهِ تعالى، يُثابُ عليه، وذلك كالأكلِ بنيَّةِ التَّقَوِّي على طاعةِ اللهِ تعالى، والنَّومِ للاستِراحةِ ليَقومَ إلى العِبادةِ نَشيطًا، والاستِمتاعِ بزَوجَتِه وجاريَتِه ليَكُفَّ نَفسَه وبَصَرَه ونَحوَهما عنِ الحَرامِ، وليَقضيَ حَقَّها، وليُحَصِّلَ وَلَدًا صالحًا) [1347] ((شرح مسلم)) (11/ 77، 78). .
3- عنِ المِقدامِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما أطعَمتَ نَفسَك فهو صَدَقةٌ، وما أطعَمتَ وَلَدَك وزَوجَتَك وخادِمَك فهو صَدَقةٌ)) [1348] أخرجه أحمد (17179)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9185)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (195) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (143)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17179)، وصحَّح إسنادَه ابن كثير في ((التفسير)) (2/264)، وجَوَّده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/106). .
4- عن أبي مَسعودٍ البَدريِّ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ المُسلمَ إذا أنفقَ على أهلِه نَفَقةً وهو يَحتَسِبُها [1349] قال النَّوويُّ: (مَعناه: أرادَ بها وجهَ اللهِ تعالى، فلا يَدخُلُ فيه مَن أنفقَها ذاهلًا، ولكِن يَدخُلُ المُحتَسِبُ، وطَريقُه في الاحتِسابِ: أن يَتَذَكَّرَ أنَّه يَجِبُ عليه الإنفاقُ على الزَّوجةِ وأطفالِ أولادِه والمَملوكِ وغَيرِهم مِمَّن تَجِبُ نَفقَتُه، على حَسَبِ أحوالِهم واختِلافِ العُلَماءِ فيهم، وأنَّ غَيرَهم مِمَّن يُنفِقُ عليه مَندوبٌ إلى الإنفاقِ عليهم، فيُنفِقُ بنيَّةِ أداءِ ما أُمِر به، وقد أُمِرَ بالإحسانِ إليهم، واللهُ أعلَمُ). ((شرح مسلم)) (7/ 88، 89). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (نَفَقةُ المَرءِ على نَفسِه وعيالِه أفضَلُ مِن نَفقَتِه على مَن لا تَلزَمُه نَفقَتُه؛ لأنَّ ذلك واجِبٌ، وما تَقرَّب العِبادُ إلى اللهِ بمِثلِ أداءِ ما افتَرَضَ عليهم ... ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يَفعَلونَ ذلك طَبعًا وعادةً لا يَبتَغونَ به وَجهَ اللهِ تعالى، كما يَفعَلونَ في قَضاءِ الدُّيونِ مِن أثمانِ المَبيعاتِ والقُروضِ وغَيرِ ذلك مِنَ المُعاوَضاتِ والحُقوقِ، وهذه كُلُّها واجِباتٌ، فمَن فعَلها ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ كان له عليها مِنَ الأجرِ أعظَمُ مِن أجرِ المُتَصَدِّقِ نافِلةً. لكِن يَتَصَدَّقُ أحَدُهم بالشَّيءِ اليَسيرِ على المِسكينِ وابنِ السَّبيلِ ونَحوِ ذلك لوَجهِ اللهِ تعالى، فيَجِدُ طَعمَ الإيمانِ والعِبادةِ للَّهِ، ويُعطي في هذه أُلوفًا فلا يَجِدُ في ذلك طَعمَ الإيمانِ والعِبادةِ؛ لأنَّه لم يُنفِقْه ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ. فمِن هذا الوَجهِ صارَ في عُرفِهم أنَّ هذه النَّفقاتِ التي لا بُدَّ مِنها ليسَت عِبادةً، وقد لا يَستَشعِرونَ إيجابَ الشَّارِعِ لها، وإنَّما يَستَشعِرُ أحَدُهم ما في تَركِه مِنَ المَضرَّةِ العاجِلةِ، إمَّا في نَفسِه وإمَّا مِن جِهةِ الخَلقِ؛ فإنَّهم لا يَترُكونَ حُقوقَهم، فهو يَفعَلُها لرَغبَتِهم ورَهبَتِهم، وللعادةِ التي هو عليها، وقد يَفعَلُها مَحَبَّةً للحَقِّ ورَغبةً فيه مِن غَيرِ أن يَرجوَ أحَدًا ولا يَخافَه، ومِن غَيرِ أن يَفعَلَها تَعبُّدًا. وهذا حَسَنٌ لا بَأسَ به؛ فإنَّ مَن فَعَل الحَسَناتِ لأنَّها حَسَناتٌ نَفَعه ذلك، كَما يَنفعُ الحَيَوانَ أكلُه وشُربُه، لكِن لا يَكونُ عِبادةً للهِ. بخِلافِ مَن لا يَفعَلُه إلَّا خَوفًا مِنَ الخَلقِ؛ فإنَّ هذا مَذمومٌ. ولهذا لمَّا قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الرَّجُلُ يُقاتِلُ شُجاعةً ويُقاتِلُ حَميَّةً ويُقاتِلُ ليُريَ مَكانَه، فأيُّ ذلك في سَبيلِ اللهِ؟ فقال: «مَن قاتَل لتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هيَ العُليا فهو في سَبيلِ اللهِ». وهذا يَكونُ في القِتالِ باليَدِ واللِّسانِ وإنفاقِ المالِ، وذلك كُلُّه يَكونُ جِهادًا، لكِن ما ليسَ في سَبيلِ اللهِ مِنه ما لا يُعاقَبُ عليه المَرءُ، ومِنه ما يُعاقَبُ عليه. والمَقصودُ هنا: أنَّ هذه الأُمورَ العاديَّةَ المُباحةَ تُفعَلُ لمَحَبَّةٍ وهَوًى وإرادةٍ، فإن كان ذلك يُستَعانُ بها على عِبادةِ اللهِ كانت طاعةً وعِبادةً، وإن كان ذلك لمُجَرَّدِ العادةِ والطَّبعِ على الوَجهِ الحَقِّ لم يَكُنْ ذلك مَعصيةً ولا إثمًا، وإن لم يَقصِدْ بها صاحِبُها العِبادةَ للَّهِ). ((جواب الاعتراضات المصرية)) (ص: 94 - 96). كانت له صَدَقةً)) [1350] أخرجه مسلم (1002). .

انظر أيضا: