موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: الأكلُ مِمَّا يَليه


يُستَحَبُّ أن يَأكُلَ مِمَّا يَليه إذا كان الطَّعامُ نَوعًا واحِدًا [1412] قال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (يُستَحَبُّ افتِتاحُ الأكلِ بـ "باسمِ اللهِ"، وخَتمُه بـ"الحَمدُ للهِ"، وأن يَأكُلَ بيَمينِه مِمَّا يَليه، إذا كان الطَّعامُ نَوعًا واحِدًا). ((فصول الآداب)) (ص: 47). وقال ابنُ هُبَيرةَ: (... استِحبابُ ألَّا يَأكُلَ الإنسانُ إلَّا ما يَليه، وهذا إذا كان الطَّعامُ كُلُّه شَيئًا واحِدًا كالثَّريدِ ونَحوِه، وأمَّا إذا كان أنواعًا مُختَلفةً جازَ له أن يَمُدَّ يَدَه إلى غَيرِ ناحيَتِه). ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (5/ 26). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
عن عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: كُنْتُ غُلامًا في حَجرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانت يَدي تَطيشُ في الصَّحفةِ، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((يا غُلامُ، سَمِّ اللهَ، وكُلْ بيَمينِك، وكُلْ مِمَّا يَليك)) [1413] أخرجه البخاري (5376) واللفظ له، ومسلم (2022). .
ب- مِنَ الإجماعِ
نُقِل الإجماعُ على أنَّ الأكلَ مِمَّا يَلي الآكِلَ سُنَّةٌ [1414] قال عِياضٌ عنِ الأكلِ مِمَّا يَليه: (سُنَّةٌ مُتَّفَقٌ عليها؛ لأنَّ كُلَّ آكلٍ جاءَ ما يَليه مِنَ الطَّعامِ فإدخالُ غَيرِه يَدَه عليه وتَركُه ما أمامَه قَبيحٌ، ومُشارَكَتُه له فيما فيه حَوزةٌ بغَيرِ إذنِه، مَعَ ما في ذلك مِن تَقَزُّزِ النُّفوسِ بما خاضَت فيه الأيدي، واختَلَفت فيه أصابعُ الغَيرِ، وليسَ كُلُّ أحَدٍ يستَحسِنُ ذلك مِنهم، لا سيَّما في الطَّعامِ الرَّطبِ والأمراقِ وأشباهِها، ولِما فيه مِنَ الجَشَعِ والحِرصِ على الطَّعامِ، وإيثارِ النَّفسِ على المُؤاكِلِ، وكُلُّ هذا مَذمومٌ، ولأنَّه إذا كان نَوعًا واحِدًا فلا فائِدةَ في ذلك إلَّا سوءَ الأدَبِ وشَرَهَهم بذلك، بخِلافِ إذا اختَلف أجناسُ الطَّعامِ؛ فقد أباحَ العُلماءُ اختِلافَ الأيدي في الطَّبَقِ والصَّحفةِ وشِبهِها لطَلَبِ كُلِّ نَفسٍ ما تَشتَهيه مِن ذلك، بخِلافِ إذا كان جِنسًا واحِدًا). ((إكمال المعلم)) (6/ 488). .
فائِدةٌ:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ خَيَّاطًا دَعا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لطَعامٍ صَنَعه، قال أنَسُ بنُ مالِكٍ: فذَهَبتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ذلك الطَّعامِ، فقَرَّب إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُبزًا ومَرَقًا، فيه دُبَّاءٌ وقَديدٌ، فرَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِن حَوالَيِ القَصعةِ، قال: فلم أزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِن يَومِئِذٍ)) [1415] أخرجه البخاري (2093) واللَّفظُ له، ومسلم (2041). .
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (في هذا الحَديثِ إباحةُ إجالةِ اليَدِ في الصَّحفةِ، وهذا عِندَ أهلِ العِلمِ على وجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّ ذلك لا يَحسُنُ ولا يَجمُلُ إلَّا بالرَّئيسِ ورَبِّ البَيتِ. والآخَرُ: أنَّ المَرَقَ والإدامَ وسائِرَ الطَّعامِ إذا كان فيه نَوعانِ أو أنواعٌ فلا بَأسَ أن تَجولَ اليَدُ فيه للتَّخَيُّرِ مِمَّا وُضِعَ في المائِدةِ والصَّحفةِ مِن صُنوفِ الطَّعامِ؛ لأنَّه لذلك قُدِّمَ ليَأكُلَ كُلَّ ما أرادَ، وهذا كُلُّه مَأخوذٌ مِن هذا الحَديثِ؛ ألَا تَرى أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالت يَدُه في الصَّحفةِ يَتبَعُ الدُّبَّاءَ، فكذلك سائِرُ الرُّؤَساءِ، ولمَّا كان في الصَّحفةِ نَوعانِ -وهما اللَّحمُ والدُّبَّاءُ- حَسُنَ بالآكِلِ أن تَجولَ يَدُه فيما اشتَهى مِن ذلك بدَليلِ هذا الحَديثِ، ولا يَجوزُ ذلك على غَيرِ هَذَينِ الوجهَينِ؛ لقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ: "سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمينِك، وكُلْ مِمَّا يَليك"، وإنَّما أمرَه أن يَأكُلَ مِمَّا يَليه؛ لأنَّ الطَّعامَ كُلَّه كان نَوعًا واحِدًا، واللَّهُ أعلمُ، كذلك فسَّرَه أهلُ العِلمِ) [1416] ((التَّمهيد)) (1/ 276، 277). وقال ابنُ بَطَّالٍ في شَرحِ الحديثِ: (قال المُهَلَّبُ: فيه جَوازُ أكلِ الشَّريفِ طَعامَ الخَيَّاطِ والصَّانِعِ، وإجابَتِه إلى دَعوتِه. وفيه: مُؤاكَلةُ الخَدَمِ. وفيه: أنَّ المُؤاكِلَ لأهلِه وخَدَمِه مُباحٌ له أن يَتبَعَ شَهوتَه حَيثُ رَآها إذا عَلمَ أنَّ ذلك لا يُكرَهُ مِنه، وإذا لم يَعلَمْ ذلك فلا يَأكُلْ إلَّا مِمَّا يَليه، وقد سُئِل مالِكٌ عن هذه المَسألةِ، فأجابَ بهذا الجَوابِ). ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 224). .
وفي رِوايةٍ لحَديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((دَعا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ، فانطَلقتُ مَعَه، فجيءَ بمَرقةٍ فيها دُبَّاءٌ، فجَعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلُ مِن ذلك الدُّبَّاءِ ويُعجِبُه، قال: فلمَّا رَأيتُ ذلك جَعَلتُ أُلقيه إليه ولا أطعَمُه. قال أنَسٌ: فما زِلتُ بَعدُ يُعجِبُني الدُّبَّاءُ)) [1417] أخرجها البخاري (5420)، ومسلم (2041) واللَّفظُ له. .
قال عياضٌ: (الدُّبَّاءُ -بالمَدِّ وضَمِّ الدَّالِ-: القَرعُ المَأكولُ.
وقَولُه: «جَعَلتُ أُلقيه إليه ولا أطعَمُه»: فيه جَوازُ مُناوَلةِ مَن على المائِدةِ ما بَينَ أيديهم بَعضِهم بَعضًا مِمَّا بَينَ أيديهم؛ لأنَّ جَميعَه لهم، وإنَّما يُكرَهُ مِن ذلك أن يَتَناوَلَ مَن على مائِدةٍ لمَن على مائِدةٍ أُخرى، وقاله ابنُ المُبارَكِ، وكذلك أن يَتَناوَلَ إنسانٌ ما أمامَ غَيرَه لآخَرَ؛ لأنَّه يجمَعُ سوءَ الأدَبِ، وعِلَّةَ الأكلِ مِمَّا بَينَ يَدَي غَيرِه، وأنَسٌ هنا لم يَكُنْ مَعَه غَيرُ النَّبيِّ عليه السَّلامُ، وكان الطَّعامُ بَينَ أيديهما مَعًا لا غَيرُ، فإنَّما ناوَل أنَسٌ ما بَينَ يَدَي نَفسِه، وغَيرُ ذلك كان بَينَ يَدَيِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ.
قال الإمامُ [1418] يَعني: المازَريَّ. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) (3/ 118). : وتَتبُّعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدُّبَّاءَ يُحتَمَلُ أن يَكونَ مِن بابِ الطَّعامِ المُختَلِفِ، أو لأنَّه كان يَأكُلُ مَعَ مَن يَعلَمُ سُرورَه بذلك ولا يَستَثقِلُه.
قال القاضي عِياضٌ: أو لأنَّ الطَّعامَ إنَّما كان عُمِل للنَّبيِّ عليه السَّلامُ، فكان جَميعُه له؛ لأنَّ حُكمَ الزَّمنِ والرَّجُلِ المُعَظَّمِ عِندَهم جَوازُ ذلك، وهو نَحوُ ما تَقدَّمَ مِن أنَّ ذلك لا يُستَقذَرُ مِنه ولا يُكرَهُ، بَل يُتَودَّدُ له بذلك ويُستَحَبُّ مِنه، ويُحابى به وإن لم يَتَناوَلْه هو بنَفسِه...
وفي طَبخِ القَديدِ بالدُّبَّاءِ جَوازُ استِعمالِ ذلك، وطَبخِ اللَّحمِ والقَديدِ مَعَ غَيرِه مِنَ الخُضَرِ وغَيرِها لتَكثيرِ الطَّعام وتطييبِه، وليسَ مِن بابِ إدامَينِ ولا مِنَ السَّرَفِ، وقد جاءَ في الخَبَرِ الآخَرِ: «نُكثِّرُ به طَعامَنا» [1419] أخرجه ابن ماجه (3304)، وأحمد (19101) من حديثِ جابِرِ بنِ طارِقٍ الأحمَسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ ابنِ ماجه: ((دَخَلتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِه وعِندَه هذا الدُّبَّاءُ، فقُلتُ: أيُّ شَيءٍ هذا؟ قال: هذا القَرعُ هو الدُّبَّاءُ نُكَثِّرُ به طَعامَنا)). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3304)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (204)، وصحَّح إسناده البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (4/310)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19101). ...) [1420] ((إكمال المعلم)) (6/ 522، 523). .

انظر أيضا: