موسوعة الآداب الشرعية

ثاني عشرَ: عدمُ الشُّربِ في آنيةِ الذَّهبِ والفِضَّةِ


لا يجوزُ الشُّربُ في أواني الذَّهَبِ والفِضَّةِ [1726] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/10)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/183)، ((المجموع)) للنووي (1/246)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/51). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [1727] قال الشَّوْكانيُّ: (وقد نَقَل الإجماعَ أيضًا ابنُ المنذِرِ على تحريمِ الشُّربِ في آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، إلَّا عن معاويةَ بنِ قُرَّةَ). ((نيل الأوطار)) (1/90). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّه لا يجوزُ لمسلمٍ أن يشرَبَ ولا يأكُلَ في آنيةِ الفضَّةِ، وآنيةُ الذَّهَبِ عندَهم كذلك أو أشَدُّ؛ لأنَّه قد جاء فيها مِثلُ ما جاء في آنيةِ الفضَّةِ). ((الاستذكار)) (8/350). وقال النَّوويُّ: (أجمع المُسلِمونَ على تحريمِ الأكلِ والشُّربِ في إناءِ الذَّهَبِ وإناءِ الفضَّةِ، على الرَّجُلِ وعلى المرأةِ). ((شرح مسلم)) (14/29). وقال أيضًا: (وهذان نصَّانِ في تحريمِ الأكلِ، وإجماعُ مَن قَبلَ داودَ حُجَّةٌ عليه، قال أصحابُنا: أجمعَت الأمَّةُ على تحريم الأكلِ والشُّربِ وغيرِهما من الاستعمالِ في إناءِ ذهبٍ أو فضَّةٍ، إلَّا ما حُكِيَ عن داودَ، وإلَّا قولَ الشَّافعيِّ في القديمِ). ((المجموع)) (1/250). وقال ابنُ تيميَّةَ: (كما في آنيةِ الذَّهَبِ والفضَّةِ؛ فإنَّهم اتَّفَقوا على أنَّ استعمالَ ذلك حرامٌ على الزَّوجينِ: الذَّكَرِ والأنثى). ((مجموع الفتاوى)) (21/84). وقال الشَّوكانيُّ: (والحديثُ يدلُّ على تحريمِ الأكلِ والشُّربِ في آنيةِ الذَّهَبِ والفضَّةِ؛ أمَّا الشُّربُ فبالإجماعِ، وأمَّا الأكلُ فأجازه داودُ، والحديثُ يَرُدُّ عليه، ولعلَّه لم يَبلُغْه). ((نيل الأوطار)) (1/90). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ:
1- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى ((أنَّهم كانوا عند حُذيفةَ فاستسقى، فسقاه مجوسيٌّ، فلمَّا وضَع القَدَحَ في يدِه رماه به، وقال: لولا أنِّي نهيتُه غيرَ مرةٍ ولا مرَّتين! كأنَّه يقولُ: لم أفعَلْ هذا، ولكنِّي سمعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: لا تَلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تَشرَبوا في آنِيةِ الذَّهبِ والفِضَّة، ولا تأكلوا في صِحافِها؛ فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولنا في الآخِرةِ)) [1728] أخرجه البخاري (5426) واللفظ له، ومسلم (2067). .
2- عن أمِّ سَلمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الذي يَشرَبُ في إناءِ الفِضَّةِ إنَّما يُجرجِرُ في بَطنِه نارَ جَهنَّمَ)) [1729] أخرجه البخاري (5634). .
وفي روايةٍ: ((مَن شَرِبَ في إناءٍ من ذَهبٍ أو فِضَّةٍ فإنَّما يُجرجِرُ في بطنِه نارًا من جَهنَّمَ)) [1730] أخرجها مسلم (2065). .
3- عن البَراءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أمَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَبعٍ، ونهانا عن سَبعٍ: أمَرَنا باتِّباعِ الجَنائِزِ، وعيادةِ المريضِ، وإجابةِ الدَّاعي، ونصرِ المَظلومِ، وإبرارِ القَسَمِ، وردِّ السَّلامِ، وتَشميتِ العاطِسِ، ونهانا عن آنيةِ الفِضَّةِ، وخاتَمِ الذَّهَبِ، والحريرِ، والدِّيباجِ، والقَسِّيِّ، والإستَبرقِ)) [1731] أخرجه البخاري (1239) واللفظ له، ومسلم (2066). .
فائدةٌ في حكمِ الشِّبَعِ:
1- عن مُجاهِدٍ ((أنَّ أبا هرَيرةَ كان يَقولُ: أللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنْ كُنْتُ لأعتَمِدُ بكَبِدي على الأرضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كنتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجُوعِ، ولقد قعَدْتُ يومًا على طريقِهم الذي يخرُجون منه، فمرَّ أبو بكرٍ فسألتُه عن آيةٍ من كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ بي عُمَرُ فسألتُه عن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ أبو القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتبسَّم حينَ رآني، وعرَف ما في نفسي وما في وجهي، ثُمَّ قال: يا أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ، ومضى فتبِعْتُه، فدخل فاستأذن فأَذِنَ لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَحٍ، فقال: مِنْ أين هذا اللَّبنُ؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، قال: أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ إلى أهلِ الصُّفَّةِ فادْعُهم لي، قال: وأهلُ الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ لا يأوُون إلى أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صَدَقةٌ بعث بها إليهم ولم يتناوَلْ منها شيئًا، وإذا أتته هَدِيَّةٌ أرسَلَ إليهم وأصاب منها وأَشركَهم فيها، فساءني ذلك، فقلتُ: وما هذا اللَّبَنُ في أهلِ الصُّفَّةِ؟! كُنتُ أَحقَّ أن أُصيبَ من هذا اللَّبَنِ شَربةً أتقوَّى بها! فإذا جاء أمرَني فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلُغَني من هذا اللَّبَنِ؟! ولم يَكُنْ من طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذِنَ لهم، وأخذوا مجالِسَهم من البيتِ، قال: أبا هِرٍّ، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: خُذْ فأعطِهم، قال: فأخذتُ القَدَحَ فجعَلْتُ أُعطيه الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَروَى، ثُمَّ يرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فأُعطي الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَرْوَى، ثُمَّ يرُدُّ عليَّ القَدَحَ، حتى انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد رَوِيَ القومُ كُلُّهم، فأخذ القَدَحَ فوضَعه على يَدِه، فنظر إليَّ فتبسَّم! فقال: يا أبا هِرٍّ! قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: بَقِيتُ أنا وأنت، قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: اقعُدْ فاشرَبْ، فقعَدْتُ فشَرِبتُ، فما زال يقولُ: اشرَبْ، حتى قُلتُ: لا والذي بعثَك بالحقِّ ما أجِدُ له مَسلَكًا! قال: فأَرِني، فأعطيتُه القَدَحَ، فحَمِد اللهَ وسَمَّى وشَرِبَ الفَضْلةَ)) [1732] أخرجه البخاري (6452). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه جَوازُ الشِّبَعِ ولو بَلغَ أقصى غايَتِه؛ أخذًا مِن قَولِ أبي هرَيرةَ: "لا أجِدُ له مَسلَكًا"، وتَقريرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك خِلافًا لمَن قال بتَحريمِه، وإذا كان ذلك في اللَّبَنِ مَعَ رِقَّتِه ونُفوذِه، فكَيف بما فوقَه مِنَ الأغذيةِ الكَثيفةِ؟)، ثُمَّ ذَكَرَ ابنُ حَجَرٍ بَعضَ الأحاديثِ في الزَّجرِ عنِ الشِّبَعِ -ومِنها حَديثُ المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكلاتٌ يُقِمنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه)) [1733] أخرجه الترمذي (2380) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) من حديثِ المِقدامِ بن مَعديكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). -، ثُمَّ قال: (ويُمكِنُ الجَمعُ بأن يُحمَلَ الزَّجرُ على مَن يَتَّخِذُ الشِّبَعَ عادةً؛ لِما يَتَرَتَّبُ على ذلك مِنَ الكَسَلِ عنِ العِبادةِ وغَيرِها، ويُحمَلُ الجَوازُ على مَن وقَعَ له ذلك نادِرًا، ولا سيَّما بَعدَ شِدَّةِ جوعٍ، واستِبعادِ حُصولِ شَيءٍ بَعدَه عن قُربٍ) [1734] ((فتح الباري)) (11/ 288، 289). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ أو لَيلةٍ، فإذا هو بأبي بَكرٍ وعُمرَ، فقال: ما أخرَجَكما من بُيوتِكما هذه السَّاعةَ؟ قالا: الجوعُ، يا رَسولَ الله! قال: وأنا، والذي نَفسي بيدِه لأخرَجَني الذي أخرَجَكما! قُوموا، فقاموا مَعَه، فأتى رَجُلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بَيتِه، فلَمَّا رَأتْه المَرأةُ قالت: مَرحَبًا وأهلًا! فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أينَ فُلانٌ؟ قالت: ذَهَبَ يَستَعذِبُ لَنا من الماءِ [1735] أي: يطلب الماء العذب. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 306). ، إذ جاءَ الأنصاريُّ فنَظَرَ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبَيه، ثُمَّ قال: الحَمدُ للهِ، ما أحَدٌ اليَومَ أكرَمَ أضيافًا مِنِّي! قال: فانطَلَقَ فجاءَهم بعِذقٍ [1736] العِذقُ بكَسرِ العَينِ: الكِباسةُ، وهيَ: العُرجونُ. والعَذقُ بفتحِ العَينِ: النَّخلةُ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 306). فيه بُسْرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلوا من هذه، وأخذَ المُديةَ [1737] المُديةُ: السِّكِّينُ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 306). ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إيَّاكَ والحَلُوبَ [1738] أي الشَّاةُ التي تَحلُبُ لبَنًا كَثيرًا. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 306). ، فذَبَحَ لهم، فأكَلوا من الشَّاةِ، ومن ذلك العِذْقِ، وشَرِبوا، فلَمَّا أنْ شَبِعوا ورَوُوا قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ وعُمرَ: والذي نَفسي بيدِه، لتُسألُنَّ عن هذا النَّعيمِ يَومَ القيامةِ، أخرَجَكم من بُيوتِكمِ الجوعُ، ثُمَّ لَم تَرجِعوا حَتَّى أصابَكم هذا النَّعيمُ)) [1739] أخرجه مسلم (2038). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (وقَولُه: «حتَّى شَبِعوا ورَوُوا» دَليلٌ على جَواز الشِّبَعِ مِنَ الحَلالِ.
وما جاءَ مِمَّا يَدُلُّ على كَراهةِ الشِّبَعِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعنِ السَّلَفِ: إنَّما ذلك في الشِّبَعِ المُثقِلِ للمَعِدةِ، المُبطِئِ بصاحِبِه عنِ الصَّلواتِ والأذكارِ، المُضِرِّ للإنسانِ بالتُّخَمِ وغَيرِها؛ الذي يُفضي بصاحِبِه إلى البَطَرِ والأشَرِ، والنَّومِ والكَسَلِ. فهذا هو المَكروهُ. وقد يَلحَقُ بالمُحَرَّمِ إذا كَثُرَت آفاتُه، وعَمَّت بليَّاتُه.
والقِسطاسُ المُستَقيمُ ما قاله مَن عليه الصَّلاةُ والتَّسليمُ: «ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكلاتٌ يُقِمنَ صُلبَه؛ فإن كان ولا بُدَّ فثُلثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه» [1740] أخرجه الترمذي (2380) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) من حديثِ المِقدامِ بن مَعديكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). [1741] ((المفهم)) (5/ 306، 307). .

انظر أيضا: