موسوعة الآداب الشرعية

حادي عشرَ: تَوديعُ الأهلِ والأصحابِ والجيرانِ


يُستَحَبُّ أن يودِّعَ المُسافِرُ أهلَه وأقارِبَه وأصحابَه وجيرانَه، ويودِّعوه بما ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1917] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/ 385)، ((الإيضاح)) للنووي (ص: 52). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: ((بَعَثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَعثٍ... قال: ثُمَّ أتَيناه نودِّعُه حينَ أرَدنا الخُروجَ)) [1918] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم (2954). وأخرجه البخاري مَوصولًا (3016) دونَ ذِكرِ التَّوديعِ، ولفظُه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: ((بَعَثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَعثٍ فقال: إن وجَدتُم فُلانًا وفُلانًا فأحرِقوهما بالنَّارِ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ أرَدنا الخُروجَ: إنِّي أمَرتُكُم أن تُحرِقوا فُلانًا وفُلانًا، وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بها إلَّا اللهُ، فإن وجَدتُموهما فاقتُلوهما)). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه مَشروعيَّةُ تَوديعِ المُسافِرِ لأكابرِ أهلِ بَلَدِه، وتَوديعِ أصحابِه له أيضًا) [1919] ((فتح الباري)) (6/ 151). وقال ابنُ المُلقِّنِ: (مِنَ الشَّأنِ المَعلومِ في البُعوثِ والأسفارِ البَعيدةِ تَوديعُ الرُّؤَساءِ والأئِمَّةِ، ومَن يُرجى بَرَكةُ دَعوتِه واستِصحابُ فَضلِه). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (18/ 59). .
2- عن قَزعةَ، قال: قال لي ابنُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: ((هَلُمَّ أودِّعْك كَما ودَّعَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أستَودِعُ اللَّهَ دينَك وأمانَتَك وخَواتيمَ عَمَلِك [1920] قال الخطَّابيُّ: (الأمانةُ هاهنا أهلُه ومَن يَخلُفُه منهم، ومالُه الذي يودِّعُه ويستحفِظُه أمينَه ووكيلَه ومَن في معناهما، وجرى ذِكرُ الدِّينِ مع الودائِعِ؛ لأنَّ السَّفَرَ مَوضِعُ خوفٍ وخَطَرٍ، وقد تصيبُه فيه المشقَّةُ والتَّعَبُ، فيكونُ سببًا لإهمالِ بعضِ الأمورِ المتعَلِّقةِ بالدِّينِ؛ فدعا له بالمعونةِ والتَّوفيقِ). ((معالم السنن)) (2/ 258، 259). وقال المظهَريُّ: (الاستيداعُ: طَلبُ حِفظِ الوديعةِ مِن أحَدٍ، يَعني: أسألُ اللَّهَ أن يَحفظَ دينَك وأمانَتَك وآخِرَ عَمَلِك حتَّى يَختِمَ عَمَلَك بالخَيرِ، أي: حتَّى تَموتَ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ). ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 226). وقال الطِّيبيُّ: (لا يَخلو الرَّجُلُ في سَفَرِه مِنَ الاشتِغالِ بما يَحتاجُ فيه إلى الأخذِ والإعطاءِ والمُعاشَرةِ مَعَ النَّاسِ، فدَعا له بحِفظِ الأمانةِ، والاجتِنابِ عنِ الخيانةِ، ثُمَّ إذا انقَلبَ إلى أهلِه يَكونُ مَأمونَ العاقِبةِ عَمَّا يسوءُه في الدِّينِ والدُّنيا). ((الكاشف عن حقائق السنن)) (6/ 1901، 1902). وقال المُناويُّ: («وخَواتيمَ عَمَلِك» أي: عَمَلَك الصَّالحَ الذي جَعَلتَه آخِرَ عَمَلِك في الإقامةِ؛ فإنَّه يُسَنُّ للمُسافِرِ أن يَختِمَ إقامَتَه بعَمَلٍ صالِحٍ، كتَوبةٍ وقُربةٍ وخُروجٍ عنِ المَظالمِ، وصَلاةٍ وصَدَقةٍ وصِلةِ رَحِمٍ...، ووصيَّةٍ واستِبراءٍ ذِمَّةٍ ونَحوِها، فيُندَبُ لكُلِّ مَن يودِّعُ أحَدًا مِنَ المُؤمِنينَ أن يُفارِقَه على هذه الكَلماتِ، وأن يُكَرِّرَها بإخلاصٍ وتَوجُّهٍ تامٍّ، فإذا ولَّى المُسافِرُ قال المُقيمُ: «اللهُمَّ اطوِ له البَعيدَ، وهَوِّنْ عليه السَّفَرَ»). ((فيض القدير)) (1/ 502). [1921] أخرجه أبو داود (2600) واللَّفظُ له، وأحمد (4781). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2600)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2600). .
وفي رِوايةٍ عن قَزعةَ، قال: كُنتُ عِندَ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، فأرَدت الانصِرافَ، فقال: ((كَما أنتَ حتَّى أودِّعَك كَما ودَّعَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: وأخَذَ بيَدي فصافحَني، ثُمَّ قال: أستَودِعُ اللَّهَ دينَك وأمانَتَك، وخَواتِمَ عَمَلِك)) [1922] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10270)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (5940) واللفظ له. صَحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (5940). .
وعن قَزعةَ، عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أخبَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ لُقمانَ الحَكيمَ عليه السَّلامُ كان يَقولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إذا استُودِعَ شَيئًا حَفِظَه)) [1923] أخرجه أحمد (5606)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10274). صَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5606). .
وعن مُجاهدٍ، قال: خَرَجتُ إلى العِراقِ أنا ورَجُلٌ مَعي، فشَيَّعَنا عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، فلمَّا أرادَ أن يُفارِقَنا، قال: إنَّه ليسَ مَعي شَيءٌ أُعطيكُما، ولكِن سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إذا استُودِعَ اللَّهُ شَيئًا حَفِظَه، وإنِّي أستَودِعُ اللَّهَ دينَكُما وأمانَتَكُما، وخَواتيمَ عَمَلِكُما)) [1924] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10269)، وابن حبان (2693) واللفظ له، والطبراني (12/428) (13571). صَحَّحه ابنُ حبان، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/113)، وصَحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/49)، وقوَّاه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (2693). .
وعنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، قال: كُنتُ عِندَ ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، فجاءَه رَجُلٌ فقال: أرَدتُ سَفرًا. فقال عَبدُ اللَّهِ: ((انتَظِرْ حتَّى أودِّعَك كَما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يودِّعُنا: أستَودِعُ اللَّهَ دينَك وأمانَتَك وخَواتيمَ عَمَلِك)) [1925] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (8754) باختلاف يسير، وابن خزيمة (2531)، والحاكم (1617) واللَّفظُ لهما. صَحَّحه ابنُ خُزَيمة، والحاكِمُ على شَرطِ الشَّيخَينِ، والألباني على شرط الشيخين في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/49). .
وعن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أشخَصَ [1926] شَخَص مِن بَلدٍ إلى بَلدٍ، أي: ذَهَب، وأشخَصَه غَيرُه. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 162). السَّرايا [1927] السَّرايا: جمعُ سَريَّةٍ، وهيَ طائِفةٌ مِنَ العَسكَرِ تُنفَذُ في الغَزوِ، وهيَ دونَ الجَيشِ، قيل: سُمِّيَت بذلك لأنَّها تَسري باللَّيلِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 281)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (3/ 456). يَقولُ للشَّاخِصِ: أستَودِعُ اللَّهَ دينَك وأمانَتَك وخَواتيمَ عَمَلِك)) [1928] أخرجه ابن ماجه (2826) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10267). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2826). .
وفي رِوايةٍ: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا ودَّعَ رَجُلًا أخَذَ بيَدِه، فلا يَدَعُها حتَّى يَكونَ الرَّجُلُ هو يَدَعُ يَدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَقولُ: أستَودِعُ اللَّهَ دينَك وأمانَتَك وآخِرَ عَمَلِك)) [1929] أخرجها الترمذي (3442) واللَّفظُ له، والبَزَّار (5952). صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3442). .
3- عن عَبدِ اللهِ الخَطميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أرادَ أن يَستَودِعَ الجَيشَ قال: أستَودِعُ اللَّهَ دينَكُم وأمانَتَكُم وخَواتيمَ أعمالِكُم)) [1930] أخرجه أبو داود (2601) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10268)، والحاكم (2478). صَحَّحه النووي في ((المجموع)) (4/388)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2601)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2601)، وحَسَّنه ابنُ حَجَرٍ في ((المَطالب العالية)) (3/381). .
4- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ودَّعني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أسَتودِعُك اللَّهَ الذي لا تَضيعُ ودائِعُه)) [1931] أخرجه ابن ماجه (2825) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10269)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (5941). حَسَّنه ابنُ حَجَرٍ كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/114)، وحَسَّن إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/315)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/103)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (5941). .
وفي رِوايةٍ عن موسى بنِ وَردانَ، قال: قال أبو هرَيرةَ لرَجُلٍ: تَعالَ أوَدِّعْك كَما ودَّعَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو كَما ودَّعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((استَودَعتُك اللَّهَ الذي لا يُضِيعُ ودائِعَه)) [1932] أخرجها أحمد (9230). صَحَّحها لغيرها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9230). .
وفي روايةٍ: ((مَن أرادَ أنْ يُسافِرَ، فليقُلْ لِمَن يُخلِّفُ)) [1933] أخرجها الطبراني في ((الدعاء)) (823) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه حسن إسنادها الألباني في ((الكلم الطيب)) (168). .
ب- مِنَ الآثارِ
عنِ الشَّعبيِّ، قال: (بَلغَ ابنُ عُمَرَ وهو بمالٍ له أنَّ الحُسَينَ بنَ عليٍّ قد توجَّه إلى العِراقِ، فلحِقَه على مَسيرةِ يَومَينِ أو ثَلاثةٍ، فقال: إلى أينَ؟ فقال: هذه كُتُبُ أهلِ العِراقِ وبَيعَتُهم، فقال: لا تَفعَلْ، فأبى، فقال له ابنُ عُمَرَ: إنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخَيَّرَه بَينَ الدُّنيا والآخِرةِ، فاختارَ الآخِرةَ ولم يُرِدِ الدُّنيا، وإنَّك بَضعةٌ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كذلك يُريدُ مِنكُم، فأبى، فاعتَنَقَه ابنُ عُمَرَ، وقال: أسَتودِعُك اللَّهَ، والسَّلامُ) [1934] أخرجه ابن حبان (6968) واللفظ له، والطبراني (13/69) (13699) مختصرًا، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/470). حَسَّنه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1886)، وحسن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/23). وذهب إلى تصحيحه ابن حبان .
فوائِدُ:
1- قال ابنُ عبدِ البَرّ: (قال الشَّعبيُّ: السُّنَّةُ إذا قدِمَ رَجُلٌ مِن سَفَرٍ أن يَأتيَه إخوانُه فيُسَلِّموا عليه، وإذا خَرَجَ إلى سَفَرٍ أن يَأتيَهم فيودِّعَهم ويَغتَنِمَ دُعاءَهم.
ودَّعَ شُعبةُ بنُ الحَجَّاجِ رَجُلًا خارِجًا إلى الحَجِّ، فقال له: أمَا إنَّك إن لم تَعُدَّ الحِلمَ ذُلًّا، ولا السَّفَهَ شَرَفًا، سَلِمَ حَجُّك...
قالت أعرابيَّةٌ لابنٍ لها وقد ودَّعَته وهو يُريدُ سَفرًا: امضِ مُصاحَبًا مَكلوءًا، لا أشمَت اللَّهُ بك عَدوًّا، ولا أرى مُحِبِّيك فيك سوءًا.
ودَّعَ أعرابيٌّ رَجُلًا، فقال: كَبَت اللَّهُ لك كُلَّ عَدوٍّ إلَّا نَفسَك، وجَعَل خَيرَ عَمَلِك ما وَليَ أجَلَك) [1935] ((بهجة المجالس)) (1/ 246، 255). .
2- قال الخَطيبُ البَغداديُّ في الرِّحلةِ في طَلَبِ الحَديثِ: (يَنبَغي للطَّالِبِ ألَّا يَخرُجَ إلَّا بَعدَ تَوديعِه إخوانَه، ووصاتِه إيَّاهم بالدُّعاءِ له...
عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: «مِنَ السُّنَّةِ إذا أرادَ الرَّجُلُ السَّفرَ أن يَأتيَ إخوانَه فيُسَلِّمَ عليهم، وإذا جاءَ مِن سَفَرٍ يَأتيه إخوانُه فيُسَلِّمونَ عليه» [1936] أخرجه الخطيب في ((الجامع)) (1721). .
عن حَمدونَ بنِ أحمَدَ السِّمسارِ، قال: سَمِعتُ يَحيى بنَ مَعينٍ يَقولُ: «مَن أرادَ الخُروجَ إلى مَكانٍ فجاءَنا فسَلَّمَ علينا، فإذا قدِمَ وجَبَ علينا أن نَذهَبَ فنُسَلِّمَ عليه، وإلَّا فالطُّرُقاتُ بَينَنا وبَينَه») [1937] ((الجامع لأخلاق الراوي)) (2/ 238). .

انظر أيضا: