موسوعة الآداب الشرعية

ثامنَ عشرَ: الذِّكْرُ عِندَ الصُّعودِ والهُبوطِ في السَّفَرِ


يُستَحَبُّ التَّسبيحُ إذا هَبَطَ واديًا، والتَّكبيرُ إذا صعِد مَكانًا عاليًا مُرتَفِعًا، مِن غَيرِ مُبالغةٍ في رَفعِ الصَّوتِ [1986] قال النَّوويُّ: (يُستَحَبُّ للمُسافِرِ أن يُكَبِّرَ إذا صَعِدَ الثَّنايا وشِبهَها، ويُسَبِّحَ إذا هَبَطَ الأوديةَ ونَحوَها، ويُكرَهُ رَفعُ الصَّوتِ بذلك). ((المَجموع)) (4/ 395). وقال السَّخاويُّ: (يُستَحَبُّ التَّكبيرُ إذا صَعِدَ الثَّنيةَ وشِبهَها، والتَّسبيحُ إذا هَبَطَ الأوديةَ ونَحوَها، بخَفضِ صَوتٍ وخُضوعٍ، ورِقَّةٍ واستِكانةٍ وخُشوعٍ). ((الابتِهاج)) (ص: 125). وقال ابنُ رَجَبٍ: (أمَّا النَّهيُ عن رَفعِ الصَّوتِ بالذِّكرِ، فإنَّما المُرادُ به المُبالغةُ في رَفعِ الصَّوتِ؛ فإنَّ أحَدَهم كان يُنادي بأعلى صَوتِه: "لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبَرُ"، فقال لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ارْبَعوا على أنفُسِكُم؛ إنَّكُم لا تُنادونَ أصَمَّ ولا غائِبًا»، وأشارَ إليهم بيَدِه يُسَكِّنُهم ويُخَفِّضُهم). ((فتح الباري)) (7/ 400). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/ 15-24). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أُريدُ أن أُسافِرَ فأوصِني، قال: عليك بتَقوى اللهِ، والتَّكبيرِ على كُلِّ شَرَفٍ [1987] الشَّرَفُ: ما ارتَفَع من الأرضِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 281). . فلمَّا أن ولَّى الرَّجُلُ قال: اللهُمَّ اطوِ له الأرضَ، وهَوِّنْ عليه السَّفَرَ)) [1988] أخرجه الترمذي (3445) واللفظ له، وابن ماجه (2771)، وأحمد (8310). حسنه الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (3/134)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3445). ذهب إلى تصحيحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (4/252)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2692)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2516). .
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كُنَّا إذا صَعِدنا كَبَّرنا، وإذا نَزَلنا سَبَّحنا)) [1989] أخرجه البخاري (2993). .
وفي رِوايةٍ: ((كُنَّا إذا صَعِدنا كَبَّرنا، وإذا تَصَوَّبنا [1990] تَصَوَّبنا، أيِ: انحَدَرنا، والتَّصويبُ: النُّزولُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 136). سَبَّحنا)) [1991] أخرجها البخاري (2994). .
3- عن سالِمِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قَفَل [1992] قَفَل، أي: رَجَعَ مِن سَفرِه، يُقالُ: قَفَل الرَّجُلُ قُفولًا: إذا رَجَعَ مِنَ السَّفرِ، ومِنه سُمِّيَتِ القافِلةُ. يُنظر: ((أدب الكاتب)) لابن قتيبة (ص: 24)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9/ 134)، ((المعلم)) للمازري (3/ 339). مِنَ الحَجِّ أوِ العُمرةِ -ولا أعلَمُه إلَّا قال: الغَزوِ- يَقولُ كُلَّما أوفى على ثَنيَّةٍ أو فَدفَدٍ [1993] أوفى: ارتَفعَ وعَلا. والفَدفَدُ: المَكانُ المُرتَفِعُ فيه صَلابةٌ، وقيل غَيرُ ذلك، والثَّنيةُ: أعلى مَسيلٍ في رَأسِ الجَبَلِ. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/ 153)، ((إكمال المعلم)) لعياض (4/ 454)، ((شرح مسلم)) للنووي (9/ 113)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 223). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (أوفى: أقبَل وأطَلَّ، والثَّنيَّةُ: الهَضبةُ، وهيَ الكَومُ دونَ الجَبَلِ. والفَدفَدُ: ما غَلُظ مِنَ الأرضِ وارتَفعَ، وجَمعُه فدافِدُ). ((المفهم)) (3/ 456). ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قال: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، آيِبونَ تائِبونَ عابدونَ ساجِدونَ، لرَبِّنا حامِدونَ، صَدَقَ اللهُ وَعدَه، ونَصَر عَبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وَحدَه)) [1994] أخرجه البخاري (2995) واللفظ له، ومسلم (1344). .
4- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فكَّنا إذا عَلَونا كَبَّرنا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها النَّاسُ ارْبَعوا [1995] قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «ارْبَعوا على أنفُسِكُم»، يُريدُ: أمسِكوا عنِ الجَهرِ، وقِفوا عنه، وأصلُ هذه الكَلِمةِ مِن قَولِك: رَبَع الرَّجُلُ بالمَكانِ: إذا وقَف عنِ السَّيرِ وأقامَ به. ويُقالُ للرَّجُلِ: اربَعْ على نَفسِك، واربَعْ عليك، أي: قِفْ. وقيل: مَعناه: ارفُقْ بنَفسِك. ويُقالُ: مَعناه: انتَظِرْ). ((أعلام الحديث)) (2/ 1424). على أنفُسِكُم؛ فإنَّكُم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، ولكِن تَدْعونَ سَميعًا بَصيرًا. ثُمَّ أتى عليَّ وأنا أقولُ في نَفسي: لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، فقال: يا عَبدَ اللهِ بنَ قَيسٍ، قُلْ: لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ؛ فإنَّها كَنزٌ مِن كُنوزِ الجَنَّةِ. أو قال: ألَّا أدُلُّك على كَلِمةٍ هيَ كَنزٌ مِن كُنوزِ الجَنَّةِ؟ لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ)) [1996] أخرجه البخاري (6384) واللفظ له، ومسلم (2704). .
وفي رِوايةٍ: ((كُنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُنَّا إذا أشرَفنا على وادٍ هَلَّلنا وكَبَّرنا ارتَفَعَت أصواتُنا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أيُّها النَّاسُ، ارْبَعوا على أنفُسِكُم؛ فإنَّكُم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّه مَعَكُم إنَّه سَميعٌ قَريبٌ، تَبارَكَ اسمُه وتعالى جَدُّه)) [1997] أخرجها البخاري (2992). .
وفي رِوايةٍ أُخرى: ((أنَّهم كانوا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهم يَصعَدونَ في ثَنيَّةٍ، قال: فجَعَل رَجُلٌ كُلَّما عَلا ثَنيَّةً نادى: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبَرُ، قال: فقال نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّكُم لا تُنادونَ أصَمَّ ولا غائِبًا)) [1998] أخرجها مسلم (2704). .
فائِدةٌ:
قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال المُهَلَّبُ: تَكبيرُه عِندَ إشرافِه على الجِبالِ استِشعارٌ لكِبرياءِ اللهِ عِندَ ما تَقَعُ عليه العَينُ مِن عَظيمِ خَلقِه؛ أنَّه أكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ تعالى، وأمَّا تَسبيحُه في بُطونِ الأوديةِ فهو مُستَنبَطٌ مِن قِصَّةِ يونُسَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَسبيحِه في بَطنِ الحوتِ؛ قال تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمٍ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143-144] ، فنَجَّاه اللهُ بذلك مِنَ الظُّلُماتِ؛ فامتَثَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا التَّسبيحَ في بُطونِ الأوديةِ؛ ليُنجيَه اللهُ مِنها ومِن أن يُدرِكَه عَدوُّه ... وقال غَيرُه: مَعنى تَسبيحِه في بُطونِ الأوديةِ وما انخَفضَ مِنَ الأرضِ أنَّه لمَّا كان التَّكبيرُ للهِ تعالى عِندَ رُؤيةِ عَظيمِ مَخلوقاتِه وجَبَ أن يَكونَ فيما انخَفضَ مِنَ الأرضِ تَسبيحٌ للهِ؛ لأنَّ التَّسبيحَ في اللُّغةِ تَنزيهُ اللهِ عن صِفاتِ الانخِفاضِ والضَّعةِ. قال ابنُ الأنباريِّ: سُبحانَ اللهِ: تَنزيهُ اللهِ مِنَ الأولادِ والصَّاحِبةِ والشُّرَكاءِ. وقال غَيرُه: سُبحانَ اللهِ: بَراءةُ اللهِ من ذلك) [1999] ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 153). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (لمَّا كان الصُّعودُ ارتِفاعًا ناسَبَه التَّكبيرُ، أي: أنَّ اللَّهَ سُبحانَه أكبَرُ مَن كُلِّ كَبيرٍ وأعلى مِن كُلِّ رَفيعٍ، ولمَّا كان النُّزولُ انهباطًا ناسَبَه التَّنزيهُ لمَن لا يوصَفُ بما يُنافي العُلوَّ) [2000] ((كشف المشكل)) (3/ 54، 55). ويُنظر منه: (2/ 543). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (تَكبيرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه المَواضِعِ المُرتَفِعةِ إشعارٌ بأنَّ أكبَريَّةَ كُلِّ كَبيرٍ إنَّما هيَ مِنه، وأنَّها مُحتَقَرةٌ بالنِّسبةِ إلى أكبَريَّتِه تعالى وعَظمتِه، وتَوحيدُه اللهَ تعالى هناكَ إشعارٌ بانفِرادِه سُبحانَه وتعالى بإيجادِ جَميعِ المَوجوداتِ وبأنَّه المَألوهُ، أي: المَعبودُ في كُلِّ الأماكِنِ مِنَ الأرَضينَ والسَّمواتِ، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) [2001] ((المفهم)) (3/ 456). .

انظر أيضا: