فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ
1- عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان في سَفَرٍ فعَرَّس بليلٍ [2090] التَّعريسُ: نُزولُ المُسافِرِ آخِرَ اللَّيلِ نَزلةً للنَّومِ والاستِراحةِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 206). ، اضطَجَعَ على يَمينِه، وإذا عَرَّس قُبَيلَ الصُّبحِ نَصَب ذِراعَه، ووَضَع رَأسَه على كَفِّه)) [2091] أخرجه مسلم (683). .
وفي رِوايةٍ:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا عَرَّس وعليه ليلٌ، تَوسَّدَ يَمينَه، وإذا عَرَّس الصُّبحَ وَضَع رَأسَه على كَفِّه اليُمنى، وأقامَ ساعِدَه)) [2092] أخرجها أحمد بعد حديث (22546). صَحَّحها الألباني في ((صحيح الجامع)) (4752)، وصَحَّح إسنادَها على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (37/242). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (وإنَّما كان يَفعَلُ في آخِرِ اللَّيلِ ما ذُكِرَ لأجلِ الصَّلاةِ؛ خَوفًا أن يَغلِبَه النَّومُ)
[2093] ((كشف المشكل)) (2/ 155). وقال النَّوويُّ: (قال العُلَماءُ: إنَّما نَصَب ذِراعَه لئَلَّا يَستَغرِقَ في النَّومِ، فتَفوتَ صَلاةُ الصُّبحِ عن وَقتِها أو عن أوَّلِ وقتِها). ((رياض الصالحين)) (ص: 289). ويُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/ 398). .
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا إذا نَزَلنا مَنزِلًا لا نُسَبِّحُ حتَّى تُحَلَّ الرِّحالُ)) [2094] أخرجه أبو داود (2551)، والبزار (7545). صَحَّحه ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (113)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2551)، وصَحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2551)، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (354): إسناده على شرط مسلم .
قال الخَطَّابيُّ: (يُريدُ: لا نُصَلِّي سُبحةَ الضُّحى حتَّى تُحَطَّ الرِّحالُ، ويُجَمَّ المَطِيُّ.
وكان بَعضُ العُلماءُ يَستَحِبُّ أن لا يَطعَمَ الرَّاكِبُ إذا نَزَل المَنزِلَ حتَّى يَعلِفَ الدَّابَّةَ.
وأنشَدَني بَعضُهم فيما يُشبِهُ هذا المَعنى:
حَقُّ المَطيَّةِ أن يُبدَا بحاجَتِها
لا أُطعِمُ الضَّيفَ حتَّى أعلِفَ الفَرَسا)
[2095] ((معالم السنن)) (2/ 248، 249). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا سافرتُم في الخِصبِ فأعطُوا الإبِلَ حَظَّها مِنَ الأرضِ، وإذا سافرتُم في السَّنةِ فأسرِعوا عليها السَّيرَ، وإذا عَرَّستُم [2096] التَّعريس: نُزولُ المُسافِرِ آخِرَ اللَّيلِ ساعةً للاستِراحةِ. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (5/ 19). باللَّيلِ فاجتَنِبوا الطَّريقَ؛ فإنَّها مَأوى الهَوامِّ باللَّيلِ)) [2097] أخرجه مسلم (1926). .
وفي رِوايةٍ:
((إذا سافَرتُم في الخِصبِ فأعطُوا الإبِلَ حَظَّها مِنَ الأرضِ، وإذا سافَرتُم في السَّنةِ فبادِروا بها نِقْيَها [2098] النِّقْيُ: مُخُّ العِظامِ. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (5/ 19). ، وإذا عَرَّستُم فاجتَنِبوا الطَّريقَ؛ فإنَّها طُرُقُ الدَّوابِّ، ومَأوى الهَوامِّ باللَّيلِ)) [2099] أخرجها مسلم (1926). .
قال النَّوويُّ: (الخِصبُ -بكَسرِ الخاءِ: وهو كَثرةُ العُشبِ والمَرعى، وهو ضِدُّ الجَدبِ، والمُرادُ بالسَّنةِ هنا القَحطُ، ومِنه قَولُه تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ [الأعراف: 130] أي: بالقُحوطِ.
ونِقْيَها -بكَسرِ النُّونِ وإسكانِ القافِ: وهو المُخُّ.
ومَعنى الحَديثِ الحَثُّ على الرِّفقِ بالدَّوابِّ ومُراعاةُ مَصلحَتِها، فإن سافَروا في الخِصبِ قَلَّلوا السَّيرَ وتَرَكوها تَرعى في بَعضِ النَّهارِ وفي أثناءِ السَّيرِ فتَأخُذُ حَظَّها مِنَ الأرضِ بما تَرعاه مِنها، وإن سافَروا في القَحطِ عَجَّلوا السَّيرَ ليَصِلوا المَقصِدَ وفيها بَقيَّةٌ مِن قوَّتِها، ولا يُقَلِّلوا السَّيرَ فيَلحَقَها الضَّرَرُ؛ لأنَّها لا تَجِدُ ما تَرعى فتَضعُفُ ويَذهَبُ نِقْيُها، ورُبَّما كَلَّت ووَقَفَت.
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وإذا عَرَّستُم فاجتَنِبوا الطَّريقَ؛ فإنَّها طُرُقُ الدَّوابِّ، ومَأوى الهَوامِّ باللَّيلِ» قال أهلُ اللُّغةِ: التَّعريسُ: النُّزولُ في أواخِرِ اللَّيلِ للنَّومِ والرَّاحةِ ... وهذا أدَبٌ مِن آدابِ السَّيرِ والنُّزولِ، أرشَدَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ الحَشَراتِ ودَوابَّ الأرضِ مِن ذَواتِ السُّمومِ والسِّباعَ تَمشي في اللَّيلِ على الطُّرُقِ لسُهولتِها، ولأنَّها تَلتَقِطُ مِنها ما يَسقُطُ مِن مَأكولٍ ونَحوِه، وما تَجِدُ فيها مِن رمَّةٍ ونَحوِها، فإذا عَرَّس الإنسانُ في الطَّريقِ رُبَّما مَرَّ به مِنها ما يُؤذيه؛ فيَنبَغي أن يَتَباعَدَ عنِ الطَّريقِ)
[2100] ((شرح مسلم)) (13/ 69). .
4- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا سِرتُم في أرضٍ خِصبةٍ فأعطوا الدَّوابَّ حَقَّها أو حَظَّها، وإذا سِرتُم في أرضٍ جَدبةٍ فانجوا عليهم، وعليكُم بالدُّلجةِ [2101] قال الخَطَّابيُّ: (الدُّلجةُ: سَيرُ اللَّيلِ، إلَّا أنَّهم قالوا: أدلَجَ اللَّيلَ: إذا سارَ أوَّلَ اللَّيلِ، وادَّلجَ: إذا سارَ آخِرَه). ((أعلام الحديث)) (1/ 171). ؛ فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ، وإذا عَرَّستُم فلا تُعَرِّسوا على قارِعةِ الطَّريقِ؛ فإنَّها مَأوى كُلِّ دابَّةٍ)) [2102] أخرجه البزار (6521) واللفظ له، والمخلص في ((المخلصيات)) (2764)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2118). وقَولُه: "عَليكُم بالدُّلجةِ؛ فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ" أخرجه أبو داود (2571)، وابن خزيمة (2555)، والحاكم (2571). حسنه لشواهده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1357)، ووثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/260). .
قال المُناويُّ في مَعناه: (إذا سِرتُم في أرضٍ خِصبةٍ فأعطوا الدَّوابَّ حَظَّها مِن نَباتِ الأرضِ، وحَظُّها الرَّعيُ مِنه، وإذا سِرتُم في أرضٍ مُجدِبةٍ ولم يكُنْ مَعَكُم ولا في الطَّريقِ عَلفٌ «فانجوا عليها» أي: أسرِعوا عليها السَّيرَ لتُبَلِّغَكُمُ المَنزِلَ قَبلَ أن تَضعُفَ، «وإذا عَرَّستُم» أي: نَزَلتُم آخِرَ اللَّيلِ «فلا تُعَرِّسوا على قارِعةِ الطَّريقِ» أي: أعلاها أو وسَطِها «فإنَّها مَأوى كُلِّ دابَّةٍ» أي: مَحَلُّها الذي تَأوي إليه ليلًا)
[2103] ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/ 105). .
وقال ابنُ العَرَبيِّ: (فيه الحَضُّ على الرِّفقِ بالدَّوابِّ، فلها حَقُّ الحَيَوانيَّةِ التي تُشارِكُ فيها الآدَميَّةَ، ولها على النَّاسِ حَقُّ الكِفايةِ لِما تَحمِلُ عنهم مِنَ المُؤَنِ، وتُبَلِّغُهم مِنَ الآمالِ، وتَجلِبُ إليهم مِنَ الفوائِدِ.
وذَكَرَ النَّهيَ عنِ التَّعريسِ في الطَّريقِ، فإنَّ فيه مَضَرَّةَ الآدَميِّ ومَضَرَّةَ الحَيَواناتِ؛ فإنَّها سَبيلُ الكُلِّ.
وذَكَرَ الإسراعَ فيه في الأرضِ الجَدبةِ لحَقِّ الدَّوابِّ، وعلى الجُملةِ لحَقِّ الأهلِ؛ فإنَّ للأهلِ حَقًّا في الكَونِ مَعَهنَّ، فإذا كان عُذرٌ مِن شُغلٍ فاللَّهُ تعالى أَولى به، وإذا ارتَفعَ العُذرُ تَعَيَّنَ الرُّجوعُ إلى الأهلِ لحَقِّهم...
ومِنَ الرِّفقِ في السَّفرِ: الرِّفقُ بالأجيرِ، والرِّفقُ بالمَملوكِ)
[2104] ((القبس)) (ص: 1160، 1161). .
وقال النَّوويُّ: (يُستَحَبُّ السُّرى في آخِرِ اللَّيلِ؛ لحَديثِ أنَسٍ قال: "قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "عليكُم بالدُّلجةِ؛ فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ")
[2105] ((المجموع شرح المهذب)) (4/ 393). .
5- قال السَّخاويُّ: (قال أبو طاهِرٍ السِّلَفيُّ في "مُعجَم السَّفَرِ" له: سَمِعتُ أبا الحَسَنِ أحمَدَ بنَ مَعمَرِ بنِ أحمَدَ العَبديَّ يَقولُ: سَمِعتُ والدي يَقولُ: يَنبَغي للمُسافِرِ أن يَكونَ أبَدًا لسانُه رَطبًا بذِكرِ اللهِ تعالى، ويَكونَ على الطَّهارةِ، ويَتَوكَّلَ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ وَحدَه)
[2106] ((الابتهاج)) (ص: 149). .
وقال النَّوويُّ: (يُستَحَبُّ الإكثارُ مِنَ الدُّعاءِ في جَميعِ سَفَرِه لنَفسِه ولوالدَيه وأحِبَّائِه ووُلاةِ المُسلمينَ وسائِر المُسلمينَ بمُهمَّاتِ أُمورِ الآخِرةِ والدُّنيا، ويُستَحَبُّ له المُداومةُ على الطَّهارةِ والنَّومُ على الطَّهارةِ، ومِمَّا يَتَأكَّدُ الأمرُ به المُحافَظةُ على الصَّلاةِ في أوقاتِها المَشروعةِ)
[2107] ((الإيضاح)) (ص: 71-73). .
6- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا مَرِضَ العَبدُ أو سافرَ، كُتِبَ له مِثلُ ما كان يَعمَلُ مُقيمًا صحيحًا)) [2108] أخرجه البخاري (2996). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (مَن كانت له عادةٌ مِن عَمَلٍ صالحٍ ومَنعَه اللَّهُ مِنه بالمَرَضِ أوِ السَّفَرِ، وكانت نيَّتُه لو كان صحيحًا أو مُقيمًا أن يَدومَ عليه ولا يَقطَعَه، فإنَّ اللَّهَ تعالى يَتَفضَّلُ عليه بأن يَكتُبَ له ثَوابَه، فأمَّا مَن لم يَكُنْ له تَنَفُّلٌ ولا عَمَلٌ صالِحٌ، فلا يَدخُلُ في مَعنى الحَديثِ؛ لأنَّه لم يَكُنْ يَعمَلُ في صِحَّتِه ولا إقامَتِه ما يُكتَبُ له في مَرَضِه وسَفَرِه)
[2109] ((شرح صحيح البخارى)) (9/ 372). .
فـ(لو سافرتَ وكان مِن عادَتِك وأنت مُقيمٌ في البَلدِ أن تُصَلِّيَ نَوافِلَ، وأن تَقرَأَ قُرآنًا، وأن تُسَبِّحَ وتُهَلِّلَ وتُكَبِّرَ، ولكِنَّك لمَّا سافَرتَ انشَغَلتَ بالسَّفَرِ عن هذا، فإنَّه يُكتَبُ لك ما كُنتَ تَعمَلُه في البَلدِ مُقيمًا)
[2110] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (ص: 151). .
7- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُسافَرَ بالقُرآنِ إلى أرضِ العَدوِّ)) [2111] أخرجه البخاري (2990). .
وفي رِوايةٍ:
((أنَّه كان يَنهى أن يُسافَرَ بالقُرآنِ إلى أرضِ العَدوِّ؛ مَخافةَ أن يَنالَه العَدوُّ)) [2112] أخرجها مسلم (1869). .
وفي أُخرى:
((لا تُسافِروا بالقُرآنِ؛ فإنِّي لا آمَنُ أن يَنالَه العَدوُّ)) [2113] أخرجها مسلم (1869). .
قال ابنُ عُثَيمين: (لا يَجوزُ للإنسانِ أن يُسافِرَ بالمُصحَفِ إلى بلادِ الكُفَّارِ؛ وذلك لأنَّه يُخشى أن يَقَعَ في أيديهم، فيَستَهينوا به ويُذِلُّوه، والقُرآنُ أشرَفُ وأعظَمُ مِن أن يَكونَ في يَدَي العَدوِّ.
وهذا... إذا خيف عليه، أمَّا إذا لم يُخَفْ عليه -كَما في وَقتِنا الحاضِرِ- فلا بَأسَ، فيَجوزُ للإنسانِ إذا سافرَ في تِجارةٍ أو دِراسةٍ في بَلدِ الكُفَّارِ أن يذهبَ مَعَه المُصحَف، ولا حَرَجَ عليه)
[2114] ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 582). .
8- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَصحَبُ المَلائِكةُ رُفقةً فيها كَلبٌ ولا جَرَسٌ)) [2115] أخرجه مسلم (1213). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الجَرَسُ مَزاميرُ الشَّيطانِ)) [2116] أخرجه مسلم (2114). .
قال النَّوويُّ: (أمَّا فِقهُ الحَديثِ ففيه كَراهةُ استِصحابِ الكَلبِ والجَرَسِ في الأسفارِ، وأنَّ المَلائِكةَ لا تصحَبُ رُفقةً فيها أحَدُهما، والمُرادُ بالمَلائِكةُ مَلائِكةُ الرَّحمةِ والاستِغفارِ لا الحَفَظةُ)، ثُمَّ ذَكَرَ الحِكمةَ في مُجانَبةِ المَلائِكةِ لرُفقةٍ فيها جَرَسٌ، فقال: (... قيل: سَبَبُ مُنافرةِ المَلائِكةِ له أنَّه شَبيهٌ بالنَّواقيسِ، أو لأنَّه من المَعاليقِ المَنهيِّ عنها، وقيل: سَبَبُه كَراهةُ صَوتِها، وتُؤَيِّدُه رِوايةُ مَزاميرِ الشَّيطانِ، وهذا الذي ذَكَرناه مِن كَراهةِ الجَرَسِ على الإطلاقِ هو مَذهَبُنا ومَذهَبُ مالِكٍ وآخَرينَ، وهيَ كَراهةُ تَنزيهٍ، وقال جَماعةٌ مِن مُتَقدِّمي عُلماءِ الشَّامِ: يُكرَهُ الجَرَسُ الكَبيرُ دونَ الصَّغيرِ)
[2117] ((شرح مسلم)) (14/95). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (والجَرَسُ مَعلومٌ، وهو هذا الذي يُعَلَّقُ على الدَّوابِّ، ويَكونُ له رَنَّةٌ مُعَيَّنةٌ تَجلبُ النَّشوى والطَّرَبَ والتَّمَتُّعَ بصَوتِه، فهذا نَهى عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نَهى عنه بالتَّحذيرِ مِنه؛ حَيثُ أخبَرَ أنَّ المَلائِكةَ لا تَصحَبُ رُفقةً فيها جَرَسٌ؛ لأنَّه مَعَ مَشيِ الدَّوابِّ وهَملجَتِها يَكونُ له شَيءٌ مِنَ العَزفِ والموسيقى، ومِنَ المَعلومِ أنَّ المَعازِفَ حَرامٌ، وأمَّا استِصحابُ الكَلبِ فقد سَبَقَ أنَّ المَلائِكةَ لا تَدخُلُ بَيتًا فيه كَلبٌ إلَّا الكِلابَ المُستَثناةَ: كَلبَ الحَرثِ والماشيةِ والصَّيدِ، فهذا لا بَأسَ به)
[2118] ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 431). .
9- عنِ البَراءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((نَزَلت هذه الآيةُ فينا؛ كانتِ الأنصارُ إذا حَجُّوا فجاؤوا لم يَدخُلوا مِن قِبَلِ أبوابِ بُيوتِهم، ولكِنْ مِن ظُهورِها، فجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ فدَخَل مِن قِبَلِ بابِه، فكَأنَّه عُيِّرَ بذلك، فنَزَلت: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة: 189] [2119] أخرجه البخاري (1803) واللفظ له، ومسلم (3026). .
10- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كان أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا تَلاقَوا تَصافَحوا، وإذا قَدِموا مِن سَفَرٍ تَعانَقوا) [2120] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (97). حسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2719)، وذكر ثبوتَه ابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (9/212). .
وعن غالِبٍ التَّمَّارِ، قال: كان مُحَمَّدُ بنُ سِيرينِ يَكرَهُ المُصافَحةَ، فذَكَرتُ ذلك للشَّعبيِّ، فقال: (كان أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا التَقَوا صافَحوا، فإذا قَدِموا مِن سَفَرٍ عانَقَ بَعضُهم بَعضًا) [2121] أخرجه البيهقي (13959). جَوَّد إسنادَه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/304)، ووثق رجاله العيني في ((نخب الأفكار)) (13/450). .
11- عن عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ عَقيلٍ، أنَّه سَمِع جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ، يقولُ: بلغني حديثٌ عن رجُلٍ سمِعَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاشتريتُ بعيرًا، ثم شدَدْتُ عليه رَحْلي، فسِرْتُ إليه شَهرًا، حتَّى قَدِمتُ عليه الشَّامَ، فإذا عبدُ اللهِ بنُ أُنَيسٍ، فقُلتُ للبوَّابِ: قُلْ له: جابِرٌ على البابِ، فقال: ابنُ عبدِ اللَّهِ؟ قلتُ: نَعَم، فخرَج يطَأُ ثوبَه فاعتَنَقني واعتنَقْتُه، فقُلتُ: حديثًا بلغَني عنك أنَّك سمِعْتَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القِصاصِ، فخَشِيتُ أن تموتَ أو أموتَ قبل أن أسمعَه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ -أو قال: العبادُ- عُراةً غُرْلًا بُهمًا. قال: قُلْنا: وما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيءٌ، ثمَّ يناديهم بصَوتٍ يَسمَعُه مَن بَعُد كما يَسمَعُه مَن قَرُب: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ، ولا ينبغي لأحَدٍ من أهلِ النَّارِ أن يدخُلَ النَّارَ وله عِندَ أحدٍ من أهلِ الجنَّةِ حَقٌّ حتَّى أُقِصَّه منه، ولا ينبغي لأحَدٍ من أهلِ الجنَّةِ أن يدخُلَ الجنَّةَ ولأحَدٍ من أهلِ النَّارِ عِندَه حَقٌّ حتَّى أُقِصَّه منه، حتَّى اللَّطمةَ. قال: قُلْنا: كيف وإنَّا إنَّما نأتي اللهَ عزَّ وجَلَّ عُراةً غُرلًا بُهمًا؟! قال: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ)) [2122] أخرجه أحمد (16042) واللفظ له، والحاكم (3683)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (131). وقولُه: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ -أو قال: العِبادُ- عُراةً غُرْلًا بُهْمًا، قال: قُلْنا: وما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيءٌ، ثمَّ يناديهم بصوتٍ يَسمَعُهُ مَن [بَعُدَ كما يَسمَعُهُ مَن] قرُبَ: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ)) أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة التمريض قبل حديث (7481) دون قوله: ((عراةً غُرْلًا بُهْمًا)). صَحَّحه الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (514)، وحَسَّنه ابنُ القيم في ((مختصر الصواعق المرسلة)) (489)، وصَحَّح إسناده الحاكم. .
12- يُشرَعُ عَمَلُ النَّقيعةِ [2123] قال ابنُ حَجَرٍ: (النَّقيعةُ -بالنُّونِ والقافِ- قيل: اشتُقَّ مِنَ النَّقعِ، وهو الغُبارُ؛ لأنَّ المُسافِرَ يَأتي وعَليه غُبارُ السَّفَرِ، وقيل: النَّقيعةُ مِنَ اللَّبَنِ: إذا بَرُدَ، وقيل غَيرُ ذلك). ((فتح الباري)) (6/ 194). عِندَ القُدومِ مِنَ السَّفَرِ [2124] قال البخاريُّ في "صحيحِه": (بابُ الطَّعامِ عِندَ القُدومِ). ((صحيح البخاري)) (4/ 77). قال العَينيُّ: (أي: هذا بابٌ في بَيانِ مَشروعيَّةِ اتِّخاذِ الطَّعامِ عِندَ القُدومِ مِنَ السَّفَرِ). ((عمدة القاري)) (15/ 16). وقال النَّوويُّ: (يُستَحَبُّ النَّقيعةُ، وهيَ طَعامٌ يُعمَلُ لقُدومِ المُسافِرِ، ويُطلقُ على ما يَعمَلُه المُسافِرُ القادِمُ، وعلى ما يَعمَلُه غَيرُه له... ومِمَّا يُستَدَلُّ به لها حَديثُ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه «أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا قدِمَ المَدينةَ مِن سَفَرِه نَحر جَزورًا أو بَقَرةً» رواه البخاري). ((المجموع)) (4/ 400). وقال أيضًا: (قال أصحابُنا وغَيرُهمُ: الضِّيافاتُ ثَمانيةٌ أنواعٍ: الوَليمةُ للعُرسِ، والخُرسُ -بضَمِّ الخاءِ المُعجَمةِ، ويُقالُ الخُرصُ أيضًا بالصَّادِ المُهمَلةِ- للوِلادةِ، والإعذارُ -بكَسرِ الهَمزةِ، وبالعَينِ المُهمَلةِ، والذَّالِ المُعجَمةِ- للخِتانِ، والوكيرةُ للبِناءِ، والنَّقيعةُ لقُدومِ المُسافِرِ -مَأخوذةٌ مِنَ النَّقعِ، وهو الغُبارُ، ثُمَّ قيل: إنَّ المُسافِرَ يَصنَعُ الطَّعامَ، وقيل: يَصنَعُه غَيرُه له-، والعَقيقةُ يَومَ سابعِ الوِلادةِ، والوَضيمةُ -بفتحِ الواوِ وكَسرِ الضَّادِ المُعجَمةِ- الطَّعامُ عِندَ المُصيبةِ، والمَأدُبةُ -بضَمِّ الدَّالِ وفتحِها- الطَّعامُ المُتَّخَذُ ضيافةً بلا سَبَبٍ). ((شرح مسلم)) (9/ 217). .
فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا قدِمَ المَدينةَ نَحَر جَزورًا أو بَقَرةً)) [2125] أخرجه البخاري (3089). .
وفي رِوايةٍ عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((اشتَرى مِنِّي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعيرًا بوَقِيَّتَينِ ودِرهَمٍ أو دِرهَمَينِ، فلمَّا قَدِمَ صِرارًا [2126] قال ابنُ حَجَرٍ: (صِرارٌ -بكَسرِ المُهمَلةِ والتَّخفيفِ- ووَهِمَ مَن ذَكَرَه بمُعجَمةٍ أوَّلَه، وهو مَوضِعٌ بظاهرِ المَدينةِ على ثَلاثةِ أميالٍ مِنها مِن جِهةِ المَشرِقِ). ((فتح الباري)) (6/ 194). أمَر ببَقَرةٍ فذُبِحَت فأكَلوا مِنها، فلمَّا قدِمَ المَدينةَ أمَرَني أن آتيَ المَسجِدَ فأُصَلِّيَ رَكعَتَينِ، ووزنَ لي ثَمَنَ البَعيرِ)) [2127] أخرجها البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم بعد حديث (3089) واللفظ له، وأخرجه موصولًا مسلم (715). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (فيه إطعامُ الإمامِ والرَّئيسِ أصحابَه عِندَ القُدومِ مِنَ السَّفَرِ، وهو مُستَحَبٌّ ومِن فِعلِ السَّلَفِ) [2128] ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 243). .
13- قال الغَزاليُّ في آدابِ الرُّجوعِ مِنَ السَّفرِ: (يَنبَغي أن يَحمِلَ لأهلِ بَيتِه وأقارِبه تُحفةً مِن مَطعومٍ أو غَيرِه على قَدرِ إمكانِه... لأنَّ الأعيُنَ تَمتَدُّ إلى القادِمِ مِنَ السَّفَرِ، والقُلوبَ تَفرَحُ به، فيَتَأكَّدُ الاستِحبابُ في تَأكيدِ فرَحِهم، وإظهارِ التِفاتِ القَلبِ في السَّفَرِ إلى ذِكرِهم بما يَستصحِبُه في الطَّريقِ لهم) [2129] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 257). .
14- قال ابنُ رَجَبٍ: (وقَولُه: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعَثَ أغبَرَ، يَمُدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطعَمُه حَرامٌ، ومَشرَبُه حَرامٌ، ومَلبَسُه حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُستَجابُ لذلك؟!».
هذا الكَلامُ أشارَ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى آدابِ الدُّعاءِ، وإلى الأسبابِ التي تَقتَضي إجابَتَه، وإلى ما يَمنَعُ مِن إجابَتِه، فذَكَرَ مِنَ الأسبابِ التي تَقتَضي إجابةَ الدُّعاءِ أربَعةً: أحَدُها: إطالةُ السَّفَرِ،... ومَتى طال السَّفرُ كان أقرَبَ إلى إجابةِ الدُّعاءِ؛ لأنَّه مَظِنَّةُ حُصولِ انكِسارِ النَّفسِ بطولِ الغُربةِ عنِ الأوطانِ، وتَحَمُّلِ المَشاقِّ، والانكِسارُ مِن أعظَمِ أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ) [2130] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 269). .
حُكمُ السَّفَرِ إلى بلادِ الكُفَّارِ
السَّفَرُ إلى بلادِ الكُفَّارِ لا يَجوزُ إلَّا بثَلاثةِ شُروطٍ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ عِندَ الإنسانِ عِلمٌ يَدفعُ به الشُّبُهاتِ.
الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ عِندَه دينٌ يَمنَعُه مِنَ الشَّهَواتِ.
الشَّرطُ الثَّالثُ: أن يَكونَ مُحتاجًا إلى ذلك.
فإن لم تَتِمَّ هذه الشُّروطُ فإنَّه لا يَجوزُ السَّفرُ إلى بلادِ الكُفَّارِ لِما في ذلك مِنَ الفِتنةِ أو خَوفِ الفِتنةِ، وفيه إضاعةُ المالِ؛ لأنَّ الإنسانَ يُنفِقُ أموالًا كَثيرةً في هذه الأسفارِ.
أمَّا إذا دَعَتِ الحاجةُ إلى ذلك لعِلاجٍ أو تَلقِّي عِلمٍ لا يوجَدُ في بَلدِه، وكان عِندَه عِلمٌ ودينٌ على ما وصَفنا، فهذا لا بَأسَ به.
وأمَّا السَّفرُ للسِّياحةِ في بلادِ الكُفَّارِ فهذا ليسَ بحاجةٍ، وبإمكانِه أن يَذهَبَ إلى بلادٍ إسلاميَّةٍ يُحافِظُ أهلُها على شَعائِرِ الإسلامِ [2131] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 131).
حُكمُ الجُمُعةِ للمُسافِرِ
لا جُمُعةَ [2132] وذَهَبَ بَعضُ أهلِ العِلمِ إلى أنَّ المُسافِرَ تَجِبُ عليه الجُمُعةُ والجَماعةُ إذا كان في مَكانٍ تُقامُ فيه الجُمُعةُ والجَماعةُ؛ قال ابنُ عُثَيمين: (واعلَمْ أنَّ المُسافِرَ لا تَسقُطُ عنه الجُمُعةُ إذا كان في مَكانٍ تُقامُ فيه الجُمُعةُ، ولم يَكُنْ عليه مَشَقَّةٌ في حُضورِها؛ لعُمومِ قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] ، فيَجِبُ عليه حُضورُ الجُمُعةِ ليُصَلِّيَ مَعَ المُسلمينَ، ولا تَسقُطُ عنه صَلاةُ الجَماعةِ؛ لعُمومِ الأدِلَّةِ أيضًا). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (15/333). على المُسافِرِ [2133] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلفِ، وبه قال أكثَرُ العُلماءِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/221)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/ 166)، ((المجموع)) للنووي (4/485)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/310)، ((الأوسط)) لابن المنذر (4/19)، ((المغني)) لابن قدامة (2/250)، ((المجموع)) للنووي (4/485). وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك. يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (2/36)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/169)، ((المغني)) لابن قدامة (2/250)، ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (1/391). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لمَّا وصَل بَطنَ الوادي يَومَ عَرَفةَ نَزَل فخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ بَعدَ الخُطبةِ أذَّن بلالٌ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى العَصرَ)) [2134] أخرجه مسلم (1218) ولفظه: ((... فأتَى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ ... ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بيْنَهُما شيئًا ...)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى الظُّهرَ ولم يُصَلِّ الجُمُعةَ؛ وذلك للآتي [2135] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/11). :
1- أنَّ صَلاةَ الجُمُعةِ الخُطبةُ فيها بَعدَ الأذانِ، وهنا الخُطبةُ قَبلَ الأذانِ.
2- صَلاةُ الجُمُعةِ يَتَقدَّمُها خُطبَتانِ، وحَديثُ جابرٍ ليسَ فيه إلَّا خُطبةٌ واحِدةٌ.
3- صَلاةُ الجُمُعةِ يَجهَرُ فيها بالقِراءةِ، وحَديثُ جابرٍ يَدُلُّ على أنَّه لم يَجهَرْ؛ لأنَّه قال: ((صَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى العَصرَ)).
4- صَلاةُ الجُمُعةِ تُسَمَّى صَلاةَ الجُمُعةِ، وفي حَديثِ جابرٍ قال: ((صَلَّى الظُّهرَ)).
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّه لم يُنقَلْ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصَلِّي الجُمُعةَ في أسفارِه، ولو فَعَل لكان ذلك مِمَّا تَتَوافرَ الدَّواعي على نَقلِه، ولنُقِل إلينا [2136] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/11، 12). .
إنشاءُ السَّفرِ بَعدَ الزَّوالِ يومَ الجُمُعةِ
لا يَجوزُ إنشاءُ السَّفَرِ بَعدَ زَوالِ الشَّمسِ يَومَ الجُمُعةِ بلا ضَرورةٍ [2137] وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ، وهو قَولُ داودَ. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/549)، ((المجموع)) للنووي (4/498، 499)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/25). وحُكيَ الإجماعُ على المَنعِ بَعدَ النِّداءِ. قال ابنُ حَزمٍ: (واتَّفقوا أنَّ السَّفرَ حَرامٌ على مَن تَلزَمُه الجُمُعةُ إذا نوديَ لها). ((مراتب الإجماع)) (ص 151). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه أُمِرَ بالسَّعيِ إليها، وتَركِ البَيعِ، وكَذا يَترُكُ السَّفرَ؛ لأنَّ العِلَّةَ واحِدةٌ، فالبَيعُ مانِعٌ مِن حُضورِ الصَّلاةِ، والسَّفرُ كذلك مانِعٌ مِن حُضورِ الصَّلاةِ [2138] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/23). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ الجُمُعةَ قد وجَبَت عليه، فلم يَجُزْ له الاشتِغالُ بما يَمنَعُ مِنها [2139] ((المغني)) لابن قدامة (2/268). .
السَّفَرُ قَبلَ الزَّوالِ يومَ الجُمُعةِ
يجوزُ السَّفَرُ قَبلَ الزَّوالِ [2140] وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والحَنابلةِ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ، وبه قال أكثَرُ أهلِ العِلمِ. يُنظر: ((البناية شرح الهداية)) للعيني (3/ 38)، ((الشرح الكبير)) للدردير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/387)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/25)، ((المجموع)) للنووي (4/498). وقال ابنُ قُدامةَ: (إن سافرَ قَبلَ الوقتِ فذَكَرَ أبو الخَطَّابِ فيه ثَلاثَ رِواياتٍ: إحداها: المَنعُ؛ لحَديثِ ابنِ عُمَرَ. والثَّانيةُ: الجَوازُ، وهو قَولُ الحَسَنِ، وابنِ سِيرينَ، وأكثَرِ أهلِ العِلمِ) ((المغني)) (2/269). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الآثارِ:
عنِ الأسوَدِ بنِ قَيسٍ، عن أبيه، قال: (أبصَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَجُلًا عليه أُهبةُ السَّفَرِ، فقال الرَّجُلُ: إنَّ اليَومَ يَومُ جُمُعةٍ، ولولا ذلك لخَرَجتُ، فقال عُمَرُ: إنَّ الجُمُعةَ لا تَحبِسُ مُسافِرًا، فاخرُجْ ما لم يَحِنِ الرَّواحُ) [2141] أخرجه عبد الرزاق (5537)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (1786)، والبيهقي (5704). صحَّحه الألبانيُّ عن عُمَرَ في تخريجه لكتاب ((القائد في تصحيح العقائد)) للمُعلِّمي (196)، ووثَّق رجاله شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (1/372). .
أمَّا التَّعليلُ فللآتي:
1- أنَّ الجُمُعةَ لم تَجِبْ؛ فلم يَحرُمِ السَّفَرُ كاللَّيلِ [2142] ((المغني)) لابن قدامة (2/269). .
2- أنَّ ذِمَّتَه بَريئةٌ مِنَ الجُمُعةِ، فلم يَمنَعْه إمكانُ وُجوبِها عليه كَما قَبلَ يَومِها [2143] ((المغني)) لابن قدامة (2/269). .
إمامةُ المُسافِرِ في الجُمُعةِ
يَصِحُّ أن يَكونَ المُسافِرُ إمامًا في الجُمُعةِ [2144] وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ -لكِنَّهمُ اشتَرَطوا أن يَكونَ الإمامُ في هذه الحالةِ زائِدًا على العَدَدِ المَطلوبِ: الأربَعينَ- واختارَه ابنُ حَزمٍ، وابنُ عُثَيمين، وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدَّائِمةُ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/222)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/311)، ((المحلى)) لابن حزم (3/252)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/18، 19)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (8/201). وحُكيَ الإجماعُ على ذلك، فنَقَل النَّوَويُّ الإجماعَ عن أبي حامِدٍ، فقال: (ذَكَرنا أنَّ الصَّحيحَ عِندَنا صِحَّةُ صَلاةِ الجُمعةِ خَلفَ المُسافِرِ، ونَقَل الشَّيخُ أبو حامِدٍ في كِتابِ "الجُمعة" إجماعَ المُسلمينَ عليه). ((المجموع)) (4/250). .
وذلك للآتي:
1- أنَّهم رِجالٌ تَصِحُّ مِنهمُ الجُمُعةُ [2145] ((المغني)) لابن قدامة (2/253). .
2- أنَّ القَولَ بعَدَمِ صِحَّةِ ذلك لا دَليلَ عليه [2146] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/18، 19). .
3- أنَّ المُسافِرَ مِن أهلِ التَّكليفِ، ولا فَرْقَ بَينَ أن يَكونَ في الجُمُعةِ إمامًا أو مَأمومًا [2147] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/18، 19). .
سَفَرُ المَرأةِ بدونِ مَحرَمٍ
يَحرُمُ أن تُسافِرَ المَرأةُ مِن غَيرِ مَحرَمٍ ولو كان لحَجٍّ أو عُمرةٍ [2148] قال عياضٌ: (ولم يَختَلِفوا أنَّه ليسَ لها أن تَخرُجَ في غَيرِ فرضِ الحَجِّ إلَّا مَعَ ذي مَحرَمٍ. وقال الباجي: وهذا عِندي في الانفِرادِ والعَدَدِ اليَسيرِ، فأمَّا في القَوافي العَظيمةِ فهيَ عِندي كالبلادِ، يَصِحُّ فيها سَفَرُها دونَ نِساءٍ وذَوي مَحارِمَ). ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (4/ 446). وقال ابنُ المُلقِّنِ: (وقدِ اشتَرَطَ مالِكٌ خُروجَها للحَجِّ في جَماعةِ النَّاسِ المُرافِقينَ بأُلفةِ الدِّينِ في سَفَرِ الطَّاعةِ للَّهِ، واستِشعارِهمُ الخَشيةَ له). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (8/ 468). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (وتَحُجُّ كُلُّ امرَأةٍ آمِنةٍ مَعَ عَدَمِ مَحرَمٍ. وهذا مُتَوجِّهٌ في سَفَرِ كُلِّ طاعةٍ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 381). وقال النَّوويُّ: (واختَلَف أصحابُنا في خُروجِها لحَجِّ التَّطَوُّعِ وسَفَرِ الزِّيارةِ والتِّجارةِ ونَحوِ ذلك مِنَ الأسفارِ التي ليسَت واجِبةً؛ فقال بَعضُهم: يَجوزُ لها الخُروجُ فيها مَعَ نِسوةٍ ثِقاتٍ، كحَجَّةِ الإسلامِ، وقال الجُمهورُ: لا يَجوزُ إلا مَعَ زَوجٍ أو مَحرَمٍ، وهذا هو الصَّحيحُ للأحاديثِ الصَّحيحةِ، وقد قال القاضي: واتَّفقَ العُلماءُ على أنَّه ليسَ لها أن تَخرُجَ في غَيرِ الحَجِّ والعُمرةِ إلا مَعَ ذي مَحرَمٍ إلَّا الهِجرةَ مِن دارِ الحَربِ، فاتَّفَقوا على أنَّ عليها أن تُهاجِرَ مِنها إلى دارِ الإسلامِ، وإن لم يَكُنْ مَعَها مَحرَمٌ، والفَرقُ بَينَهما أنَّ إقامَتَها في دارِ الكُفرِ حَرامٌ إذا لم تَستَطِعْ إظهارَ الدِّينِ، وتَخشى على دينِها ونَفسِها، وليسَ كذلك التَّأخُّرُ عنِ الحَجِّ، فإنَّهمُ اختَلفوا في الحَجِّ: هَل هو على الفورِ أم على التَّراخي؟ قال القاضي عِياضٌ: قال الباجي: هذا عِندي في الشَّابَّةِ، وأمَّا الكَبيرةُ غَيرُ المُشتَهاةِ فتُسافِرُ كَيف شاءَت في كُلِّ الأسفارِ بلا زَوجٍ ولا مَحرَمٍ، وهذا الذي قاله الباجي لا يوافَقُ عليه؛ لأنَّ المَرأةَ مَظِنَّةُ الطَّمَعِ فيها ومَظِنَّةُ الشَّهوةِ ولو كانت كَبيرةً، وقد قالوا: لكُلِّ ساقِطةٍ لاقِطةٌ، ويَجتَمِعُ في الأسفارِ مِن سُفهاءِ النَّاسِ وسَقَطِهم مَن لا يَرتَفِعُ عنِ الفاحِشةِ بالعَجوزِ وغَيرِها؛ لغَلبةِ شَهوتِه، وقِلَّةِ دينِه ومُروءَتِه، وخيانَتِه ونَحوِ ذلك. واللَّهُ أعلَمُ). ((شرح النووي على مسلم)) (9/ 104). ويُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (8/ 468). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يَحِلُّ لامرَأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ تُسافِرُ مَسيرةَ يَومٍ إلَّا مَعَ ذي مَحرَمٍ)) [2149] أخرجه البخاري (1088) بنحوه، ومسلم (1339) واللفظ له. .
وفي رِوايٍة: ((لا يَحِلُّ لامرَأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ تُسافِرُ مَسيرةَ يَومٍ وليلةٍ إلَّا مَعَ ذي مَحرَمٍ عليها)) [2150] أخرجه مسلم (1339). .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا يَخلونَّ رَجُلٌ بامرَأةٍ، ولا تُسافِرنَّ امرَأةٌ إلَّا ومَعَها مَحرَمٌ، فقامَ رَجُلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، اكتُتِبتُ في غَزوةِ كَذا وكَذا، وخَرَجَت امرَأتي حاجَّةً، قال: اذهَبْ فحُجَّ مَعَ امرَأتِك)) [2151] أخرجه البخاري (3006) ومسلم (1341). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَدَعَ أمرًا مَرغوبًا فيه هو ذِروةُ سَنامِ الإسلامِ، وهو الجِهادُ؛ ليَحُجَّ مَعَ امرَأتِه، وهذا يَدُلُّ على وُجوبِ اصطِحابِ المَحرَمِ، ولم يَستَفصِلِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: هَل امرَأتُك كَبيرةٌ أو صَغيرةٌ؟ أهيَ آمِنةٌ أم غَيرُ آمِنةٍ؟ هَل هيَ حَسناءُ أو قَبيحةٌ؟ هَل مَعَها نِساءٌ، أو ليسَ مَعَها نِساءٌ؟ ولو كان الحُكمُ يَختَلفُ بها لسَأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لكَي لا يُفوِّتَ عليه أجرَ الغَزوةِ، ولمَّا لم يَستَفصِلْ أنصَحُ الخَلقِ وأعلَمُ الخَلقِ، عُلِمَ أنَّ الأمرَ عامٌّ، وأنَّ نَهيَ المَرأةِ عنِ السَّفرِ بلا مَحرَمٍ شامِلٌ للمَرأةِ، سَواءٌ كانت صَغيرةً أو كَبيرةً، وسَواءٌ آمِنةً أو غَيرَ آمِنةٍ، وسَواءٌ كانت قَبيحةً أو لا، وسَواءٌ مَعَها نِساءٌ أو ليسَ مَعَها نِساءٌ [2152] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (3/ 350). .