موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: عَدَمُ تَمَنِّي الموتِ


يُكرَهُ تَمَنِّي المَوتِ لضُرٍّ نَزَل به، أمَّا إذا كان لخَوفِ فِتنةٍ في الدِّينِ فلا يُكرَهُ [2264] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعة: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (6/419)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/166)، ((المجموع)) للنووي (5/106)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/80). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- من الكِتابِ
قَولُ مَريَمَ رَضِيَ اللهُ عنها: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم: 23] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مَريَمَ عليها السَّلامُ تَمَنَّتِ المَوتَ مِن جِهةِ الدِّينِ؛ لوَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّها خافت أن يُظَنَّ بها الشَّرُّ في دينِها وتُعَيَّرَ؛ فيَفتِنَها ذلك.
الثَّاني: لئَلَّا يَقَعَ قَومٌ بسَبَبِها في البُهتانِ، والنِّسبةِ إلى الزِّنا [2265] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (11/92). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَتَمَنَّينَّ أحَدُكُمُ المَوتَ مِن ضُرٍّ أصابَه، فإن كان لا بُدَّ فاعِلًا فليَقُلْ: اللهُمَّ أحيِني ما كانتِ الحَياةُ خَيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي)) [2266] أخرجه البخاري (5671) واللفظ له، ومسلم (2680). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((لا يَتَمَنَّينَّ أحَدُكُمُ المَوتَ مِن ضُرٍّ أصابَه)) فيه النَّهيُ عن تَمَنِّي المَوتِ للضَّرَرِ النَّازِلِ. وقَوله: ((وتوَفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي)) فيه إباحةُ تَمَنِّي المَوتِ؛ خَوفًا مِن أن يُفتَنَ في دينِه [2267] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/111)، ((شرح مسلم)) للنووي (17/7). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لن يُدخِلَ أحَدًا عَمَلُه الجَنَّةَ، قالوا: ولا أنتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولا أنا، إلَّا أن يَتَغَمَّدَني اللهُ بفَضلٍ ورَحمةٍ، فسَدِّدوا وقارِبوا، ولا يَتَمَنَّينَّ أحَدُكُمُ المَوتَ؛ إمَّا مُحسِنًا فلعَلَّه أن يَزدادَ خَيرًا، وإمَّا مُسيئًا فلعَلَّه أن يَستَعتِبَ [2268] يَستَعتِبُ: يَطلُبُ العُتبى، وهو الإرضاءُ، أي: يَطلُبُ رِضا اللهِ بالتَّوبةِ ورَدِّ المَظالمِ وتَدارُكِ الفائِتِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) (8/ 358). ) [2269] أخرجه البخاري (5673) واللفظ له، ومسلم (2816). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَتَمَنَّى أحَدكُمُ المَوتَ، ولا يَدعُ به مِن قَبلِ أن يَأتيَه؛ إنَّه إذا ماتَ أحَدُكُمُ انقَطَعَ عَمَلُه، وإنَّه لا يَزيدُ المُؤمِنَ عُمُرُه إلَّا خَيرًا)) [2270] أخرجه مسلم (2682). .
4- عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أتاني اللَّيلةَ رَبِّي تَبارَكَ وتعالى في أحسَنِ صورةٍ.... وقال: يا مُحَمَّدُ، إذا صَلَّيتَ فقُلْ: اللهُمَّ إنِّي أسألُك فِعلَ الخَيراتِ، وتَركَ المُنكَراتِ، وحُبَّ المَساكينِ، وأن تَغفِرَ لي وتَرحَمَني، وإذا أرَدتَ فِتنةً في قَومٍ فتوَفَّني غَيرَ مَفتونٍ)) [2271] أخرجه الترمذي (3235) واللفظ له، وأحمد (22109). صححه البخاري كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (356)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/73)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3235)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((وإذا أرَدتَ فِتنةً في قَومٍ فتوَفَّني غَيرَ مَفتونٍ)) فيه أنَّه إذا خَشيَ أن يُصابَ في دينِه فله أن يَدعوَ بالمَوتِ قَبلَ أن يُصابَ بذلك [2272] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/389). .
ج- من الآثار
عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، قال: (لمَّا صَدَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه مِن مِنًى أناخَ بالأبطَحِ، ثُمَّ كَوَّمَ كُومةً بَطحاءَ [2273] كَوَّمَ كُومةً بَطحاءَ: (كَوَّم) أي: جَمَعَ (كومةً) بفتحِ الكافِ وضَمِّها: أي: قِطعةً (بَطحاءَ) أي: صِغار الحَصى، أي: جَمَعَها وجَعَل لها رَأسًا. يُنظر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/231). ، ثُمَّ طَرَحَ عليها رِداءَه واستَلقى، ثُمَّ مَدَّ يَدَه إلى السَّماءِ، فقال: اللهُمَّ كَبِرَت سِنِّي، وضَعُفت قوَّتي، وانتَشَرَت رَعيَّتي، فاقبِضْني إليك غَيرَ مُضَيِّعٍ ولا مُفَرِّطٍ... قال مالِكٌ: قال يَحيى بنُ سَعيدٍ: قال سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ: فما انسَلخَ ذو الحِجَّةِ حتَّى قُتِل عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه) [2274] أخرجه مالك (5/1203) واللفظ له، والحاكم (4569)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/54). صححه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/92)، وابن العراقي في ((طرح التثريب)) (3/253). .

انظر أيضا: