موسوعة الآداب الشرعية

ثاني عشرَ: الزِّيارةُ والتَّواصُلُ


تُستَحَبُّ زيارةُ الأصحابِ والإخوانِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي إدريسَ الخَولانيِّ، قال: دَخَلتُ مَسجِدَ دِمَشقَ فإذا فتًى شابٌّ برَّاقُ الثَّنايا [1765] بَرَّاقُ الثَّنايا: أي: شَديدُ بَياضِها، وأبيَضُ الثَّغرِ حَسَنُه. وقيل: مَعناه كَثيرُ التَّبَسُّمِ طَلقُ الوَجهِ. يُنظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (7/ 274)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (1/ 478). ، وإذا النَّاسُ مَعَه إذا اختَلفوا في شيءٍ أسنَدوا إليه، وصَدَروا عن قَولِه، فسَألتُ عَنه، فقيل: هذا مُعاذُ بنُ جَبَلٍ! فلمَّا كان الغَدُ هَجَّرتُ فوجَدتُه قَد سَبَقَني بالتَّهجيرِ [1766] التَّهجيرُ: المُضيُّ إلى الصَّلاةِ في أوَّلِ وقتِها، وهو مِثلُ التَّبكيرِ، ولا يُرادُ بهما: المُضيُّ في الهاجِرةِ، ولا في البُكرةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 552). ، ووجَدتُه يُصَلِّي، قال: فانتَظَرتُه حتَّى قَضى صَلاتَه، ثُمَّ جِئتُه مِن قِبَلِ وَجهِه، فسَلَّمتُ عليه، ثُمَّ قُلتُ: واللهِ إنِّي لأحِبُّك للَّهِ، فقال: آللهِ؟ فقُلتُ: آللهِ! فقال: آللهِ؟ فقُلت: آللهِ! فقال: آللهِ؟ فقُلتُ: آللهِ! قال: فأخَذَ بحُبوةِ [1767] بحُبوةِ رِدائي: أي بالمَحَلِّ الذي يُحتَبى به مِنَ الرِّداءِ، والحُبوةُ: ضَمُّ السَّاقَينِ إلى البَطنِ بثَوبٍ. يُنظر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/ 554). رِدائي فجَبَذني [1768] فجَبَذني: تقديمُ الباءِ لُغةٌ صَحيحةٌ، بمعنى: جَذَبني بتقديمِ الذَّالِ، أي: جَرَّني وسَحَبني. يُنظر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/ 554). إليه، وقال: أبشِرْ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((قال اللهُ تَبارَك وتعالى: وجَبَت مَحَبَّتي للمُتَحابِّينَ فيَّ، والمُتَجالِسينَ فيَّ، والمُتَزاوِرينَ فيَّ، والمُتَباذِلينَ [1769] المُتَباذِلينَ: هو مِنَ البَذلِ، وهو العَطاءُ عن غَيرِ عِوَضِ، ومَعناه: بَذلُ الرَّجُلِ لصاحِبِه مالَه إذا احتاجَ إليه بحَقِّ أُخوَّةِ الإسلامِ، وقيل: بَذلُه مالَه في سَبيلِ اللهِ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (1/ 464). فيَّ)) [1770] أخرجه أحمد (22030) واللفظ له، ومالك (2/953). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (575)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (7314)، والنووي في ((رياض الصالحين)) (182). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ رَجُلًا زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصَدَ اللهُ له على مَدرَجَتِه مَلَكًا [1771] أي: جَعَل اللَّهُ مَلَكًا على طَريقِه يَرصُدُه، أي: يَرتَقِبُه ويَنتَظِرُه ليُبَشِّرَه. والمَرصَدُ: مَوضِعُ الرَّصدِ. والمَدرَجةُ بفَتحِ الميمِ: مَوضِعُ الدَّرجِ، وهو المَشيُ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 543). ، فلمَّا أتى عليه قال: أين تريدُ؟ قال: أريدُ أخًا لي في هذه القريةِ، قال: هل لك عليه من نِعمةٍ تَرُبُّها [1772] أي: تَقومُ عليها وتَسعى في صَلاحِها وتَنهَضُ له بسَبَبِ ذلك. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 35، 36). ؟ قال: لا، غيرَ أنِّي أحبَبتُه في اللهِ عزَّ وجَلَّ، قال: فإنِّي رَسولُ اللهِ إليك بأنَّ اللهَ قد أحَبَّك كما أحبَبتَه فيه)) [1773] أخرجه مسلم (2567). .
(في هذه الأحاديثِ ما يَدُلُّ على أنَّ الحُبَّ في اللهِ والتَّزاوُرَ فيه مِن أفضَلِ الأعمالِ، وأعظَمِ القُرَبِ إذا تَجَرَّدَ ذلك عن أغراضِ الدُّنيا وأهواءِ النُّفوسِ) [1774] ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 543). .
3- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ألا أخبِرُكُم برِجالِكُم في الجَنَّةِ؟ قُلنا: بَلى يا رَسولَ اللهِ، قال: النَّبيُّ في الجَنَّةِ، والصِّدِّيقُ في الجَنَّةِ، والشَّهيدُ في الجَنَّةِ، والمَولودُ في الجَنَّةِ، والرَّجُلُ يَزورُ أخاه في ناحيةِ المِصرِ لا يَزورُه إلَّا للهِ في الجَنَّةِ. ألا أخبِرُكُم بنِسائِكُم في الجَنَّةِ؟ قُلنا: بَلى يا رَسولَ اللهِ. قال: كُلُّ وَدودٍ وَلودٍ، إذا غَضِبَت أو أُسيءَ إليها قالت: هذه يَدي في يَدِك لا أكتَحِلُ بغُمْضٍ حتَّى تَرضى)) [1775] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1743) واللفظ له، وقوام السنة في ((الترغيب والترهيب)) (1525). حَسَّنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1941). .
فَوائِدُ:
هل قِلَّةُ الزِّيارةِ تدُلُّ على الجفاءِ؟
ليست قِلَّةُ الزِّيارةِ بدالَّةٍ على الجَفاءِ مُطلَقًا، والمَدارُ على خُلوصِ المَحَبَّةِ وقوَّتِها، مَعَ عَدَمِ قَصدِ القَطيعةِ.
عن أبي بَكرٍ محمَّدِ بنِ يحيى بنِ سُلَيمانَ المَرْوَزيِّ، قال: قال أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (زُرتُ أحمدَ بنَ حَنبَلٍ يومًا في بيتِه، فأجلسَني في صدرِ دارِه، وجلس دوني. فقلتُ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، أليس يقالُ: صاحِبُ البيتِ أحَقُّ بصَدرِ بيتِه؟! فقال: نَعَم، يَقعُدُ ويُقعِدُ مَن يريدُ. قال: فقُلتُ في نفسي: خُذْ إليك يا أبا عُبَيدٍ فائدةً! قال: ثمَّ قُلتُ له: يا أبا عبدِ اللَّهِ، لو كنتُ آتيك على نحوِ ما تستَحِقُّ لأتيتُك كُلَّ يومٍ! فقال: لا تَقُلْ؛ إنَّ لي إخوانًا لا ألقاهم إلَّا في كُلِّ سَنةٍ مرَّةً، أنا أوثَقُ بمودَّتِهم ممَّن ألقى كُلَّ يومٍ! قال: قلتُ: هذه أخرى يا أبا عُبَيدٍ! فلمَّا أردتُ القيامَ قام معي، فقُلتُ: لا تفعَلْ يا أبا عَبدِ اللَّهِ. فقال: قال الشَّعبيُّ: من تمامِ زيارةِ الزَّائرِ أن تمشيَ معه إلى بابِ الدَّارِ، وتأخُذَ برِكابِه. قال: قلتُ: يا أبا عُبَيدٍ، هذه ثالثةٌ! قال: فمشى معي إلى بابِ الدَّارِ وأخَذ برِكابي) [1776] ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 152). .
(وأنشَدَ بَعضُ الشُّيوخِ لبَعضِهم:
وليس غَريبًا مَن تَناءَت ديارُه
ولكِنْ مَن يُجفى فذاك غَريبُ
ومَن كان ذا عَهدٍ قَديمٍ وذا وَفا
فلو جاوزَ السَّدَّينِ فهو قَريبٌ
وقيل لسُفيان الثَّوريِّ: بمَن تَأنَسُ فقال: بقَيسِ بنِ الرَّبيعِ، وما رَأيتُه مُنذُ سَنَتينِ!
وكان بَعضُهم يَقولُ: أنا بمَودَّةِ مَن غابَ عَنِّي مِن بَعضِ إخواني أوثَقُ مِنِّي بمَودَّةِ مَن يَغدو عليَّ ويَروحُ في كُلِّ يَومٍ مَرَّتينِ!
وقال مُحَمَّدُ بنُ داوُدَ: قُربُ القُلوبِ على بُعدِ المَزارِ خيرٌ مِن قُربِ الدِّيارِ مِنَ الدِّيارِ) [1777] ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 383). .
حالُ السَّلفِ إذا افْتَقدوا أخًا لهم
جاء في الأثرِ عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كُنَّا إذا فقَدنا الأخَ أتيناه؛ فإن كان مَريضًا كانت عيادةً، وإن كان مَشغولًا كان عَونًا، وإن كان غيرَ ذلك كانت زيارةً) [1778] أخرجه ابن وهب في ((الجامع)) (210)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9200). .
وعَنِ الفَضلِ بنِ دَلْهَمٍ، قال: (كان الحَسَنُ إذا فقَدَ الرَّجُلَ مِن إخوانِه أتى مَنزِلَه، فإن كان غائِبًا وَصَل أهلَه وعيالَه، وإن كان شاهدًا سَأله عن أمرِه وحالِه، ثُمَّ دَعا بَعضَ ولدِه مِنَ الأصاغِرِ فأعطاهمُ الدَّراهِمَ ووهَبَ لهم، وقال: أبا فُلانٍ، إنَّ الصِّبيانَ يَفرَحونَ بهذا) [1779] رواه ابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (294). .
وعن عَبَّادِ بنِ الوليدِ القُرَشيِّ، قال: (كان الحَسَنُ إذا فقَدَ الرَّجُلَ مِن إخوانِه أتاه فسَلَّمَ عليه، وسَأله عن حالِه، فإذا خَرَجَ مِن عِندِه دَعا الخادِمَ فأعطاها صُرَّةً فيها دَراهِمُ، فقال: ادفَعيها إلى مَولاتِك فقولي: استَنفِقيها، ولا تُعلِمي سيِّدَك بها) [1780] رواه ابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (295). .

انظر أيضا: