موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: حُسنُ اختيارِ الأخِ والصَّديقِ


يَنبَغي أن يَختارَ المَرءُ إخوانَه وأصحابَه، فيَحرِصَ على مُصاحَبةِ الأتقياءِ الأخيارِ، ويَنأى عَنِ الفُجَّارِ الأشرارِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] .
قال الرَّازيُّ: ("إنَّما" للحَصرِ، أي: لا أخوَّةَ إلَّا بينَ المُؤمِنينَ، وأمَّا بينَ المُؤمِنِ والكافِرِ فلا؛ لأنَّ الإسلامَ هو الجامِعُ) [1614] ((مفاتيح الغيب)) (28/ 107). ويُنظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 800، 801). .
2- قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] .
(أي: الأصدِقاءُ المُتَصاحِبونَ على الكُفرِ والمَعاصي في الدُّنيا يَكونُ بَعضُهم أعداءً لبَعضٍ يَومَ القيامةِ، ويَتَبَرَّأُ بَعضُهم مِن بَعضٍ، إلَّا الذينَ اتَّقَوا اللَّهَ، فتَآخَوا في الدُّنيا، وتَصاحَبوا على تَوحيدِ اللهِ وطاعَتِه ومَحَبَّتِه.
كما قال الله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 38] .
وعن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: "قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: المُتَحابُّونَ في جَلالي لهم مَنابِرُ مِن نورٍ، يَغبِطُهم [1615] يَغبِطُهم: مِنَ الغِبطةِ، وهي تمَنِّي نِعمةٍ على ألَّا تَتَحَوَّلَ عن صاحِبِها، بخِلافِ الحَسَدِ؛ فإنَّه تَمَنِّي زَوالِها عن صاحِبِها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3137). النَّبيُّونَ والشُّهَداءُ" [1616] أخرجه الترمذي (2390)، وأحمد (22080). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (577)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2390)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/173). [1617] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (32/ 255، 256). .
وقال السَّعديُّ: (وإنَّ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ أي: يَومَ القيامةِ، المُتَخالِّينَ على الكُفرِ والتَّكذيبِ ومَعصيةِ اللهِ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ؛ لأنَّ خُلَّتهم ومَحَبَّتَهم في الدُّنيا لغيرِ اللهِ، فانقَلبَت يَومَ القيامةِ عَداوةً. إِلَّا الْمُتَّقِينَ للشِّركِ والمَعاصي؛ فإنَّ مَحَبَّتَهم تَدومُ وتَتَّصِلُ بدَوامِ مَن كانتِ المَحَبَّةُ لأجلِه.
ثُمَّ ذَكرَ ثَوابَ المُتَّقينَ، وأنَّ اللَّهَ تعالى يُناديهم يَومَ القيامةِ بما يَسُرُّ قُلوبَهم، ويُذهِبُ عَنهم كُلَّ آفةٍ وشَرٍّ، فيَقولُ: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، أي: لا خَوفٌ يَلحَقُكُم فيما تَستَقبلونَه مِنَ الأمورِ، ولا حُزنٌ يُصيبُكُم فيما مَضى مِنها، وإذا انتَفى المَكروهُ مِن كُلِّ وَجهٍ ثَبَتَ المَحبوبُ المَطلوبُ.
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ أي: وَصفُهمُ الإيمانُ بآياتِ اللهِ؛ وذلك ليَشمَلَ التَّصديقَ بها، وما لا يَتِمُّ التَّصديقُ إلَّا به، مِنَ العِلمِ بمَعناها والعَمَلِ بمُقتَضاها. وَكَانُوا مُسْلِمِينَ للهِ مُنقادينَ له في جَميعِ أحوالِهم، فجَمَعوا بينَ الاتِّصافِ بعَمَلِ الظَّاهرِ والباطِنِ.
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي دارُ القَرارِ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ أي: مَن كان على مِثلِ عَمَلِكم مِن كُلِّ مُقارِنٍ لكُم؛ مِن زَوجةٍ، ووَلَدِ، وصاحِبٍ، وغيرِهم. تُحْبَرُونَ أي: تُنعَّمونَ وتُكرَمونَ، ويَأتيكُم مِن فَضلِ رَبِّكُم مِنَ الخيراتِ والسُّرورِ والأفراحِ واللَّذَّاتِ ما لا تُعَبِّرُ الألسُنُ عن وَصفِه) [1618] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 769). .
3- قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27 - 29] .
في قولِه: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ التَّحذيرُ مِن قُرَناءِ السوءِ، وأنَّه يجِبُ على المرءِ أن يختارَ لنفْسِه الأصحابَ: أهلَ العِلمِ والدِّينِ [1619] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص:97، 104). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا تُصاحِبْ إلَّا مُؤمِنًا، ولا يَأكُلْ طَعامَك إلَّا تَقيٌّ)) [1620] أخرجه أبو داود (4832)، والترمذي (2395) واللفظ لهما، وأحمد (11337) باختلاف يسير. حَسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4832)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (7365)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4832). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((الرَّجُلُ على دينِ خَليلِه؛ فليَنظُرْ أحَدُكُم مَن يُخالِلُ)) [1621] أخرجه أبو داود (4833)، والتِّرمذي (2378) واللفظ لهما، وأحمد (8417) باختلافٍ يسيرٍ. حَسَّنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (151)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4833)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1288) .
3- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المُؤمِنِ الَّذي يَقرَأُ القُرآنَ مَثَلُ الأُترُجَّةِ [1622] الأُترُجَّةُ: أفضَلُ ما يوجَدُ مِنَ الثِّمارِ في سائِرِ البُلدانِ وأجدى؛ لأسبابٍ كَثيرةٍ جامِعةٍ للصِّفاتِ المَطلوبةِ مِنها، والخَواصِّ المَوجودة فيها، فمِن ذلك: كِبَرَ جِرمِها، وحُسنُ مَنظَرِها، وطِيبُ مَطعَمِها، ولِينُ مَلمَسِها، تَأخُذُ الأبصارَ صِبغةً ولونًا، فاقِعٌ لونُها تَسُرُّ النَّاظِرينَ، تَشوقُ إليها النَّفسُ قَبلَ التَّناوُلِ، يُفيدُ أكلُها بَعدَ الالتِذاذِ بذوائِقِها طِيبَ نَكهةٍ، ودِباغَ مَعِدةٍ، وقوَّةَ هَضمٍ، اشتَرَكَتِ الحَواسُّ الأربَعُ دونَ الاحتِظاءِ بها: البَصَرُ، والذَّوقُ، والشَّمُّ، واللَّمسُ. يُنظر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (5/ 1636). رِيحُها طَيِّبٌ وطَعمُها طيِّبٌ، ومَثَلُ المُؤمِنِ الذي لا يَقرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ التَّمرةِ طَعمُها طَيِّبٌ ولا ريحَ لها، ومَثَلُ الفاجِرِ الذي يَقرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ الرَّيحانةِ ريحُها طَيِّبٌ وطَعمُها مُرٌّ، ومَثَلُ الفاجِرِ الذي لا يَقرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ الحَنظَلةِ طَعمُها مُرٌّ ولا ريحَ لها، ومَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ كمَثَلِ صاحِبِ المِسكِ، إنْ لم يُصِبْك مِنه شيءٌ أصابَك مِن ريحِه، ومَثَلُ جَليسِ السُّوءِ كمَثَلِ صاحِبِ الكِيرِ، إن لم يُصِبْك مِن سَوادِه أصابَك مِن دُخَانِه)) [1623] أخرجه أبو داود (4829) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6733)، والحاكم (7958) مختصرًا بنحوه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4829)، وصحَّح إسناده الحاكم، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4829). .
4- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّما مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ كحامِلِ المِسكِ ونافِخِ الكيرِ؛ فحامِلُ المِسكِ إمَّا أن يُحذِيَك، وإمَّا أن تَبتاعَ مِنه، وإمَّا أن تَجِدَ مِنه ريحًا طيِّبةً، ونافِخُ الكيرِ إمَّا أن يُحرِقَ ثيابَك، وإمَّا أن تَجِدَ ريحًا خَبيثةً)) [1624] أخرجه البخاري (5534) واللفظ له، ومسلم (2628). .
ج- مِنَ الآثارِ
كَتَب عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى ابنِه مُحَمَّدِ ابنِ الحَنَفيَّةِ: (أن تَفقَّهْ في الدِّينِ، وعوِّدْ نَفسَك الصَّبرَ على المَكروهِ، وكِلْ نَفسَك في أمورِك كُلِّها إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ فإنَّك تَكِلُها إلى كَهفٍ حَريزٍ، ومانِعٍ عَزيزٍ، وأخلِصِ المَسألةَ لرَبِّك؛ فإنَّ بيَدِه العَطاءَ والحِرمانَ، وأكثِرِ الاستِخارةَ له... ومِن خيرِ حَظِّ الدُّنيا القَرينُ الصَّالحُ؛ فقارِنْ أهلَ الخيرِ تَكُنْ مِنهم، وبايِنْ أهلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنهم، ولا يَغلبَنَّ عليك سوءُ الظَّنِّ؛ فإنَّه لن يَدَعَ بينَك وبينَ خَليلٍ صُلحًا... امحَضْ أخاك النَّصيحةَ، حَسَنةً كانت أو قَبيحةً. لا تَصرِمْ أخاك على ارتيابٍ، ولا تَقطَعْه دونَ استِعتابٍ، وليس جَزاءُ مِن سَرَّك أن تَسوءَه... وخيرُ المُقالِ ما صَدَّقَته الفِعالُ، سَلْ عَنِ الرَّفيقِ قَبلَ الطَّريقِ، وعَنِ الجارِ قَبلَ الدَّارِ، واحمِلْ لصَديقِك عليك، واقبَلْ عُذرَ مَنِ اعتَذَرَ إليك، وأخِّرِ الشَّرَّ ما استَطَعتَ؛ فإنَّك إذا شِئتَ تَعَجَّلتَه. لا يكُنْ أخوك على قَطيعَتِك أقوى مِنك على صِلتِه، وعلى الإساءةِ أقوى مِنك على الإحسانِ) [1625] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 101، 102). .
فوائِدُ:
مِن فوائِدِ مُصاحَبةِ أهلِ الإيمانِ والصَّلاحِ
مِن فوائِدِ مُصاحَبةِ أهلِ الإيمانِ والصَّلاحِ: أنَّ المَرءَ يُحشَرُ مَعَ مَن أحَبَّ، وأنَّ للمُؤمِنينَ شَفاعةً يَومَ القيامةِ، وتَكونُ مِنهم مُناشَدةٌ للهِ تعالى في الشَّفاعةِ لإخوانِهم يَومَ القيامةِ، فيَنتَفِعُ المُؤاخي لهم والمُصاحِبُ بذلك، وأيسَرُ ما يَنتَفِعُ به مِنهم أن يَدعوا له بَعدَ مَوتِه إذا ذَكروه.
فعن أنَس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رجلًا سأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن السَّاعةِ، فقال: متى السَّاعةُ؟ قال: ((وماذا أعدَدتَ لها؟ قال: لا شيءَ إلَّا أني أحِبُّ اللهَ ورسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أنت مع من أحبَبْتَ)). قال أنسٌ: فما فَرِحْنا بشيءٍ فَرَحَنا بقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنت مع مَن أحبَبْتَ! قال أنسٌ: فأنا أحِبُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا بكرٍ وعُمَرَ، وأرجو أن أكونَ معهم بحُبِّي إيَّاهم، وإن لم أعمَلْ بمِثلِ أعمالِهم [1626] أخرجه البخاري (3688) واللفظ له، ومسلم (2639). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، كيف تَقولُ في رَجُلٍ أحَبَّ قَومًا ولم يَلحَقْ بهم؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ)) [1627] أخرجه البخاري (6169) واللفظ له، ومسلم (2640). .
وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَومَ ولمَّا يَلحَقْ بهم؟ قال: المَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ)) [1628] أخرجه البخاري (6170) واللفظ له، ومسلم (2641). .
وعن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، قال: ((أتيتُ صَفوانَ بنَ عَسَّالٍ المُراديَّ أسألُه عَنِ المَسحِ على الخُفَّينِ، فقال: ما جاءَ بك يا زِرُّ؟ فقُلتُ: ابتِغاءَ العِلمِ، فقال: إنَّ المَلائِكةَ لتَضَعُ أجنِحَتَها لطالبِ العِلمِ رِضًا بما يَطلُبُ، فقُلتُ: إنَّه حَكَّ في صَدري المَسحُ على الخُفَّينِ بَعدَ الغائِطِ والبَولِ، وكُنتَ امرَأً مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجِئتُ أسألُك هل سَمِعتَه يَذكُرُ في ذلك شيئًا؟ قال: نَعَم، كان يَأمُرُنا إذا كُنَّا سَفَرًا أو مُسافِرينَ ألَّا نَنزِعَ خِفافَنا ثَلاثةَ أيَّامٍ ولياليَهنَّ إلَّا مِن جَنابةٍ، لكِنْ مِن غائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ، فقُلتُ: هل سَمِعتَه يَذكُرُ في الهَوى شيئًا؟ قال: نَعَم، كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ فبينا نَحنُ عِندَه إذ ناداه أعرابيٌّ بصَوتٍ له جَهْوَريٍّ [1629] الجَهْوَريُّ: الشَّديدُ العالي. يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (1/ 105). : يا مُحَمَّدُ، فأجابَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نَحوٍ مِن صَوتِه: هاؤُمُ! وقُلْنا له: ويَحْك! اغضُضْ مِن صَوتِك؛ فإنَّك عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد نُهيتَ عن هذا! فقال: واللهِ لا أغضُضُ! قال الأعرابيُّ: المَرءُ يُحِبُّ القَومَ ولمَّا يَلحَقْ بهم، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ يَومَ القيامةِ)) [1630] أخرجه الترمذي (3535) واللفظ له، وأحمد (18095) باختلافٍ يسيرٍ. وأخرجه النسائي (158) مختصرًا، وابن ماجه (226، 478) مُفرَّقًا مُختَصَرًا، كِلاهما على نَزعِ الخُفِّ مِنَ الجَنابةِ لا مِن غائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ -وزاد ابنُ ماجَهْ: أجر طالِبِ العِلمِ-. صحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/300)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1325)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3535)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (1325). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... ثُمَّ يُضرَبُ الجِسرُ على جَهَنَّمَ، وتَحِلُّ الشَّفاعةُ، ويَقولونَ: اللَّهمُ سَلِّمْ سَلِّمْ. قيلَ: يا رَسولَ اللهِ، وما الجِسرُ؟ قال: دَحْضٌ مَزِلةٌ [1631] الدَّحْضُ: الزَّلقُ، وهو الماءُ والطِّينُ. ومَزِلَّةٌ: مَوضِعُ الزَّلَلِ، وأن لا يَثبُتَ القدَمُ على شَيءٍ، فيَسقُط صاحِبُها. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 454). ، فيه خَطاطيفُ [1632] الخَطاطيفُ: واحِدُها خُطَّافٌ، وهيَ كالمِحجَنِ مُتَعَقِّفةً. والخَطفُ: أخذُ الشَّيءِ بسُرعةٍ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 135). وكَلاليبُ [1633] الكَلاليبُ: جَمعُ كُلَّابٍ وكَلُّوبٍ، وهيَ مِن جِنسِ الخَطاطيفِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 136). وحَسَكٌ [1634] الحَسَكُ: جَمعُ حَسَكةٍ: وهيَ شَوكةٌ حَديدةٌ صُلبةٌ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 136). تَكونُ بنَجْدٍ فيها شُوَيكةٌ يُقالُ لها السَّعدانُ، فيَمُرُّ المُؤمِنونَ كطَرفِ العَينِ، وكالبَرقِ، وكالرِّيحِ، وكالطَّيرِ، وكَأجاويدِ الخَيلِ والرِّكابِ [1635] الرِّكابُ: الإبِلُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 136). ؛ فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخدوشٌ [1636] المَخدوشُ: المَجروحُ الذي يَخدِشُ جِلدَه بما له حَدٌّ. والمَعنى: قد نَجا بَعدَ خَدشِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 136)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 454). مُرسَلٌ، ومَكدوسٌ [1637] مَكدوسٌ: أي: مَدفوعٌ، يُقالُ: تَكَدَّسَ الإنسانُ على رَأسِه: إذا دُفِعَ مِن ورائِه فقَط. والتَّكَدُّسُ في سَيرِ الدَّوابِّ: أن يَركَبَ بَعضُها بَعضًا. ويُروى: (ومُكَردَسٌ)، وهو الذي قد جُمِعَت يَداه ورِجلاه في وُقوعِه. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (4/ 2357)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 136). في نارِ جَهنَّمَ، حتَّى إذا خَلصَ المُؤمِنونَ مِنَ النَّارِ، فوالذي نَفسي بيَدِه، ما مِنكُم مِن أحَدٍ بأشَدَّ مُناشَدةً للهِ في استِقصاءِ الحَقِّ، مِنَ المُؤمِنينَ للهِ يَومَ القيامةِ لإخوانِهمُ الذينَ في النَّارِ! يَقولونَ: رَبَّنا كانوا يَصومونَ مَعَنا ويُصَلُّونَ ويَحُجُّونَ، فيُقالُ لهم: أخرِجوا مَن عَرَفتُم، فتُحرَّمُ صُوَرُهم على النَّارِ، فيُخرِجونَ خَلقًا كثيرًا قَد أخَذَتِ النَّارُ إلى نِصفِ ساقَيه، وإلى رُكبَتيه، ثُمَّ يَقولونَ: رَبَّنا ما بَقيَ فيها أحَدٌ مِمَّن أمَرتَنا به، فيَقولُ: ارجِعوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ دينارٍ مِن خيرٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ خَلقًا كثيرًا، ثُمَّ يَقولونَ: رَبَّنا لم نَذَرْ فيها أحَدًا مِمَّن أمَرتَنا، ثُمَّ يَقولُ: ارجِعوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ نِصفِ دينارٍ مِن خيرٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ خَلقًا كثيرًا، ثُمَّ يَقولونَ: رَبَّنا لم نَذَرْ فيها مِمَّن أمَرتَنا أحَدًا، ثُمَّ يَقولُ: ارجِعوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ ذَرَّةٍ مِن خيرٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ خَلقًا كثيرًا، ثُمَّ يَقولونَ: رَبَّنا لم نَذَرْ فيها خيرًا. وكان أبو سَعيدٍ الخُدريُّ يَقولُ: إن لم تُصَدِّقوني بهذا الحَديثِ فاقرؤوا إن شِئتُم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مَنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
فيَقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: شَفعَتِ المَلائِكةُ، وشَفعَ النَّبيُّونَ، وشَفعَ المُؤمِنونَ، ولم يَبقَ إلَّا أرحَمُ الرَّاحِمينَ! فيَقبِضُ قَبضةً مِنَ النَّارِ، فيُخرِجُ مِنها قَومًا لم يَعمَلوا خيرًا قَطُّ قَد عادوا حُمَمًا [1638] حُمَمًا: جَمعُ حُمَمةٍ، وهيَ الفَحمةُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 455). ! فيُلقيهم في نَهرٍ في أفواهِ الجَنَّةِ يُقالُ له: نَهرُ الحياةِ، فيَخرُجونَ كما تَخرُجُ الحِبَّةُ [1639] الحِبَّةُ بكَسرِ الحاءِ: بُذورُ النَّباتِ. وبفَتحِها: الحَبُّ المأكولُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 202)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 2273)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 137)، ((عمدة الحفاظ)) للمسين الحلبي (1/ 364). في حَميلِ السَّيلِ [1640] حَميلُ السَّيلِ: كُلُّ ما حَمَله، وكُلُّ مَحمولٍ حَميلٌ، فحَميلُ السَّيلِ: ما جاءَ به مِن طينٍ أو غُثاءٍ، فإذا اتَّفقَ فيه الحِبَّةُ واستَقَرَّت على شَطِّ مَجرى السَّيلِ فإنَّها تُنبِتُ في يَومٍ وليلةٍ، وهيَ أسرَعُ شَيءٍ نَباتًا. وإنَّما المُرادُ مِنَ الحَديثِ سُرعةُ نَجاتِهم. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 201)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 137). )
[1641] أخرجه مسلم (183). .
وفي رِوايةٍ: ((...فما أنتم بأشَدَّ لي مُناشَدةً في الحَقِّ قد تَبَيَّنَ لَكم من المُؤمِنِ يَومَئِذٍ للجَبَّارِ، وإذا رَأوا أنَّهم قد نَجَوا في إخوانِهم، يَقولونَ: رَبَّنا إخوانُنا كانوا يُصَلُّونَ مَعنا، ويَصومونَ مَعنا، ويَعمَلونَ مَعنا، فيَقولُ اللهُ تعالى: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ دينارٍ من إيمانٍ فأخرِجوه، ويُحرِّمُ اللهُ صُوَرَهم على النَّارِ، فيَأتونَهم وبَعضُهم قد غابَ في النَّارِ إلى قَدَمِه، وإلى أنصافِ ساقَيه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا، ثُمَّ يَعودونَ، فيَقولُ: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ نِصفِ دينارٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا، ثُمَّ يَعودونَ، فيَقولُ: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ ذَرَّةٍ من إيمانٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا)) [1642] أخرجها البخاري (7439). .
(وقال بَعضُهم: استَكثِرْ مِنَ الإخوانِ؛ فإنَّ لكُلِّ مُؤمِنٍ شَفاعةً، فلعَلَّك تَدخُلُ في شَفاعةِ أخيك) [1643] ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 359، 360). .
ويُروى عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (عليكُم بالإخوانِ؛ فإنَّهم عُدَّةٌ في الدُّنيا والآخِرةِ، ألا تَسمَعُ إلى قَولِ أهلِ النَّارِ: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100-101] ؟) [1644] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 160). .
وقال مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ وذَكَر الإخوانَ، فقال: (وأينَ مِثلُ الأخِ الصَّالحِ؟! أهلُك يَقسِمونَ ميراثَك، وهو قَد تَفرَّدَ بجَدَثِك [1645] الجَدَثُ: القَبرُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 380). يَدعو لك وأنتَ بينَ أطباقِ [1646] أطباقٌ جَمعُ طَبَقٍ، وطَبَقُ الأرضِ: وَجهُها. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (9/ 31). الأرضِ) [1647] رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 231). .
وعن مُحَمَّدِ بنِ الصَّلتِ، قال: قال عُبَيدُ اللهِ بنُ الحَسَنِ لرَجُلٍ: (يا فُلانُ، استَكثِرْ مِنَ الصَّديقِ؛ فإنَّ أيسَرَ ما تُصيبُ أن يَبلُغَه مَوتُك فيَدعوَ لك) [1648] رواه ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) (29). .
وعن يَحيى بنِ أبي كثيرٍ أنَّ داوُدَ قال لابنِه سُليمانَ عليهما السَّلامُ: (يا بُنَيَّ، لا تَستَقِلَّ عَدُوًّا واحِدًا، ولا تَستَكثِرْ ألفَ صَديقٍ، ولا تَستَبدِلْ بأخٍ قَديمٍ أخًا مُستَحدَثًا ما استَقامَ لك) [1649] يُنظر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 3)، ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا (31)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 161). ورواه أبو حاتم الرازي في ((الزهد)) (52) عن بِشرِ بنِ رافِعٍ، قال: (قال لُقمانُ لابنِه: يا بُنَيَّ، اتَّخِذْ ألفَ صَديقٍ؛ فإنَّه قَليلٌ، ولا تَتَّخِذنَّ عَدوًّا؛ فإنَّه كثيرٌ). .
وعن عِكرِمةَ، قال: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: (عليك بإخوانِ الصِّدقِ، فعِشْ في أكنافِهم [1650] الأكنافُ: جَمعُ الكَنَفِ، مِن قَولِهم: فلانٌ في كَنَفِ فُلانٍ، أي: في ناحيَتِه ودِفئِه وظِلِّه. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 969)، ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (10/ 152). ؛ فإنَّهم زَينٌ في الرَّخاءِ، وعُدَّةٌ في البَلاءِ) [1651] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) (35). وأخرجه الخرائطي في ((اعتلال القلوب)) (368) عن بُدَيلِ بنِ وَرقاءَ مِن قَولِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وكتَبَ الأحنَفُ بنُ قيسٍ مَعَ رَجُلٍ إلى صَديقٍ له: (أمَّا بَعدُ، فإذا قَدِم أخٌ لك موافِقٌ فلْيَكُنْ منك بمنزلةِ السَّمعِ والبَصَرِ؛ فإنَّ الأخَ الموافِقَ أفضَلُ من الولَدِ المخالِفِ، ألم تسمَعْ قولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ لنوحٍ عليه السَّلامُ في ابنِه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] يَقولُ: ليس مِن أهلِ مِلَّتِك؛ فانظُرْ إلى هذا وأشباهِه فاجعَلْهم كُنوزَك وذَخائِرَك وأصحابَك في سَفَرِك وحَضَرِك؛ فإنَّك إن تُقَرِّبْهم تَقَرَّبوا مِنك، وإن تُباعِدْهم يَستَغنوا باللهِ عَزَّ وجَلَّ، والسَّلامُ) [1652] رواه ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) (34). .
الخِصالُ المطلوبةُ فيمَن تُؤْثَرُ صُحبتُه
قال أبو العَبَّاسِ بنُ قُدامةَ: (ينبغي أن يَكونَ فيمَن تُؤثِرُ صُحبَتَه خَمسُ خِصالٍ: أن يَكونَ عاقِلًا، حَسَنَ الخُلُقِ، غيرَ فاسِقٍ، ولا مُبتَدِعٍ، ولا حَريصٍ على الدُّنيا.
أمَّا العَقلُ فهو رَأسُ المالِ، ولا خيرَ في صُحبةِ الأحمَقِ؛ لأنَّه يُريدُ أن يَنفعَك فيَضُرُّك، ونعني بالعاقِل الذي يَفهَمُ الأمورَ على ما هي عليه، إمَّا بنَفسِه، وإمَّا أن يَكونَ بحيثُ إذا أُفهِمَ فَهِم.
وأمَّا حُسنُ الخُلُقِ فلا بُدَّ مِنه؛ إذ رُبَّ عاقِلٍ يَغلِبُه غَضَبٌ أو شَهوةٌ، فيُطيعُ هَواه؛ فلا خيرَ في صُحبَتِه.
وأمَّا الفاسِقُ فإنَّه لا يَخافُ اللَّهَ، ومَن لا يَخافُ اللَّهَ تعالى لا يُؤمَنُ غائِلتُه، ولا يُوثَقُ به.
وأمَّا المُبتَدِعُ فيُخافُ مِن صُحبَتِه بسِرايةِ بِدعَتِه.
قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: عليك بإخوانِ الصِّدقِ تَعِشْ في أكنافِهم؛ فإنَّهم زينةٌ في الرَّخاءِ، وعُدَّةٌ في البَلاءِ، وضَعْ أمرَ أخيك على أحسَنِه حتَّى يَجيئَك ما يَقليك مِنه، واعتَزِلْ عَدُوَّك، واحذَرْ صَديقَك إلَّا الأمينَ، ولا أمينَ إلَّا مَن يَخشى اللَّهَ، ولا تَصحَبِ الفاجِرَ فتَتَعَلَّمَ مِن فُجورِه، ولا تُطلِعْه على سِرِّك، واستَشِرْ في أمرِك الذينَ يَخشَونَ اللَّهَ تعالى.
قال يَحيى بنُ مُعاذٍ: بئسَ الصَّديقُ تَحتاجُ أن تَقولَ له: اذكُرْني في دُعائِك، وأن تَعيشَ مَعَه بالمُداراةِ، أو تَحتاجَ أن تَعتَذِرَ إليه.
ودَخلَ جَماعةٌ على الحَسَنِ وهو نائِمٌ، فجَعَل بَعضُهم يَأكُلُ مِن فاكِهةٍ في البيتِ، فقال: رَحِمَك اللهُ، هذا واللهِ فِعلُ الإخوانِ!
وقال أبو جَعفرٍ لأصحابِه: أيُدخِلُ أحَدُكُم يَدَه في كُمِّ أخيه فيَأخُذُ مِنه ما يُريدُ؟ قالوا: لا، قال: فلستُم بإخوانٍ كما تَزعُمونَ!
ويُروى أنَّ فتحًا الموصِليَّ جاءَ إلى صَديقٍ له يُقالُ له: عيسى التَّمَّارُ، فلم يَجِدْه في المَنزِل، فقال للخادِمةِ: أخرِجي لي كيسَ أخي، فأخرَجَته، فأخَذَ مِنه دِرهَمينِ، وجاءَ عيسى إلى مَنزِلِه فأخبَرَته الجاريةُ بذلك، فقال: إنْ كُنتِ صادِقةً فأنتِ حُرَّةٌ، فنَظَرَ فإذا هي قَد صَدَقَت، فعَتَقَت) [1653] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 99، 100). ويُنظر: ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 385)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 171). .

انظر أيضا: