موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: تَركُ الكِبرِ


يَجِبُ على الطَّبيبِ أن يَتَجَنَّبَ التَّكبُّرَ والتَّرَفُّعَ على النَّاسِ، ويَنبَغي له كُلَّما زادَت شُهرَتُه أن يَزدادَ تَواضُعُه [2214] قال أبو بَكرٍ الرَّازيُّ: (اعلَمْ أنَّ التَّواضُعَ في هذه الصِّناعةِ زينةٌ وجَمالٌ، دونَ ضَعةِ النَّفسِ، لكِن يَتَواضَعُ بحُسنِ اللَّفظِ، وجيِّدِ الكلامِ ولينِه، وتَركِ الفظاظةِ والغِلظةِ على النَّاسِ، فمَتى كان كذلك فهو المُسَدَّدُ الموفَّقُ). ((أخلاق الطبيب)) (ص: 84، 85). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] .
ذَكَر لُقمانُ رَضِيَ اللهُ عنه لابنِه الآدابَ في مُعامَلةِ النَّاسِ؛ فنَهاه عَنِ احتِقارِهم، وعَنِ التَّفاخُرِ عليهم، وهذا يَقتَضي أمرَه بإظهارِ مُساواتِه مَعَ النَّاسِ، وعَدَّ نَفسِه كواحِدٍ مِنهم، فيَقولُ: لا تُمِلْ خَدَّك وتُعرِضْ بوَجهِك عَنِ النَّاسِ؛ تَكبُّرًا عليهم، وتَهاوُنًا واستِحقارًا لشَأنِهم، ولا تَمشِ في الأرضِ فرَحًا مُتَبَختِرًا؛ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُتَكبِّرٍ، مَزهوٍّ، مُعجَبٍ بنَفسِه، شَديدِ الفَخرِ على النَّاسِ بما أُعطي مِنَ النِّعَمِ [2215] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (24/ 339، 340). .
2- قال تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37] .
أي: ولا تَمشِ في الأرضِ مُختالًا مُتَبَختِرًا مُتَمايِلًا مُتَكبِّرًا، كمِشيةِ الجَبَّارينَ؛ إنَّك -أيُّها المُتَكبِّرُ المُتَعاظِمُ في مَشيِه- لن تَثقُبَ الأرضَ بشِدَّةِ وَطءِ قَدَميك عِندَ اختيالِك في مَشيِك، ولن يَبلُغَ طولُك -بتَطاوُلِ بَدَنِك للأعلى في مِشيَتِك- طولَ الجِبالِ؛ فما الذي يُغريك بهذه المِشيةِ، وقُدرتُك لا تَبلُغُ بك هذا المَبلَغَ؟! فتَواضَعْ ولا تَتَكبَّرْ، واعرِفْ قَدرَ ضَعفِك وعَجزِك؛ فأنتَ مَحصورٌ بينَ جَمادينِ لا تَقدِرُ على التَّأثيرِ فيهما؛ الأرضِ التي تَحتَك، والجِبالِ الشَّامِخةِ مِن فَوقِك [2216] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (14/ 193، 194). !
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يَكونَ ثَوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمطُ النَّاسِ)) [2217] أخرجه مسلم (91). .
وبَطَرُ الحَقِّ: رَدُّه وجَحدُه، والدَّفعُ في صَدرِه، وغَمطُ النَّاسِ: احتِقارُهم وازدِراؤُهم، ومَتى احتَقَرَهم وازدَراهم دَفع حُقوقَهم وجَحَدَها، واستَهانَ بها [2218] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابنِ القيم (2/ 317، 318). .
2- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((يُحشَرُ المتكَبِّرون يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صورةِ الرِّجالِ، يغشاهم الذُّلُّ من كُلِّ مكانٍ، يُساقونَ إلى سِجنٍ في جهنَّمَ يُسمَّى بُولَسَ، تغشاهم نارُ الأنيارِ، يُسقَونَ من عُصارةِ أهلِ النَّارِ؛ طينةِ الخَبالِ)) [2219] أخرجه الترمذي (2492) واللفظ له، وأحمد (6677). حسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/537)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2492)، جوَّد إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/431)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6677)، قال الترمذي: حسن صحيح. .
3- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن تَعَظَّم في نَفسِه، أوِ اختالَ في مِشيَتِه، لقيَ اللَّهَ وهو عليه غَضبانُ)) [2220] أخرجه أحمد (5995) واللفظ له، والطبراني (13/64) (13692)، والحاكم (201). صَحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، والألباني على شرط البخاري في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (543)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (718)، وقال الذهبي في ((الكبائر)) (196): على شرط مسلم. .
4- عن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن ماتَ وهو بَريءٌ مِن ثَلاثٍ: الكِبرِ، والغُلولِ، والدَّينِ، دَخَل الجَنَّةَ)) [2221] أخرجه الترمذي (1572) واللفظ له، وابن ماجه (2412)، وأحمد (22427) بلفظِ: ((مَن فارَقَ الرُّوحُ الجَسَدَ وهو بَريءٌ ...)). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2412)، والوادِعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/161)، وصَحَّحَ إسناده على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22427). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما نَقَصَت صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفعَه اللهُ)) [2222] أخرجه مسلم (2588). .
وفي رِوايةٍ: ((مَن تَواضَعَ للَّهِ رَفعَه اللهُ)) [2223] أخرجها أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/46). صَحَّحها الألباني في ((صحيح الجامع)) (6162). .
فائِدةٌ:
قال أبو بَكرٍ الرَّازيُّ في رِسالةٍ إلى بَعضِ تَلامِذَتِه: (اعلَمْ يا بُنَيَّ أنَّ مِنَ المُتَطَبِّبينَ مَن يَتَكبَّرُ على النَّاسِ، لا سيَّما إذا اختَصَّه مَلِكٌ أو رَئيسٌ، وقد قال الحَكيمُ جالِينوسُ: رَأيتُ مِنَ المُتَطَبِّبينَ مَن إذا داخَل المُلوكَ فبَاسَطوه تَكبَّرَ على العامَّةِ، وحَرَمَهمُ العِلاجَ، وغَلَّظ لهمُ القَولَ، وبسَرَ في وُجوهِهم! فذلك المَحرومُ المَنقوصُ. فدَعا الحَكيمُ إلى أضدادِ هذه الخِصالِ التي ذَكرَها، وحَثَّ عليها.
قال: ويَنبَغي للطَّبيبِ أن يُعالجَ الفُقَراءَ كما يُعالجُ الأغنياءَ... ورَأيتُ مِنَ المُتَطَبِّبينَ مَن إذا عالجَ مَريضًا شَديدَ المَرَضِ فبَرَأ على يَديه، دَخله عِندَ ذلك عُجبٌ، وكان كلامُه كلامَ الجَبَّارينَ، فإذا كان كذلك فلا كان، ولا وُفِّق ولا سُدِّدَ.
ويَتَّكِلُ الطَّبيبُ في عِلاجِه على اللهِ تعالى، ويَتَوقَّعُ البُرءَ مِنه، ولا يَحسَب قوَّتَه وعَمَلَه، ويَعتَمِدُ في أمورِه عليه، فإذا فعَل بضِدِّ ذلك ونَظَر نَفسَه وقوَّته في الصِّناعةِ وحَذقَه، حَرَمه اللَّهُ البُرءَ) [2224] ((أخلاق الطبيب)) (ص: 35-39). .

انظر أيضا: