موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: الحِلمُ والأناةُ وعَدَمُ العَجَلةِ


يَنبَغي للطَّبيبِ أن يَكونَ حَليمًا ذا أناةٍ، فيَسمَعَ مِنَ المَريضِ، ويَصبرَ ولا يَعجَلَ.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأشَجِّ أشَجِّ عَبدِ القَيسِ: ((إن فيك خَصلتينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ، والأناةُ)) [2225] أخرجه مسلم (17) مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
ب- مِنَ الآثارِ
كُتُب عَمرُو بنُ العاصِ إلى معاويةَ يعاتِبُه في التَّأنِّي، فكتَب إليه معاويةُ: (أمَّا بعدُ؛ فإنَّ التَّفهُّمَ في الخبَرِ زيادةُ رُشدٍ، وإنَّ الرَّاشِدَ مَن رَشَد عن العجَلةِ، وإنَّ الخائِبَ من خاب عن الأناةِ، وإنَّ المتثَبِّتَ مصيبٌ، أو كاد أن يكونَ مصيبًا، وإنَّ العَجِلَ مُخطِئٌ أو كاد أن يكونَ مُخطِئًا، وإنَّ من لا ينفَعُه الرِّفْقُ يضُرُّه الخُرقُ، ومَن لا ينفَعُه التَّجارِبُ لا يُدرِكُ المعاليَ، ولا يَبلُغُ مَبلَغَ الرَّأيِ حتَّى يَغلِبَ عِلمُه جَهلَه، وصَبرُه شَهوتَه، ولا يَبلُغُ ذلك إلَّا بقوَّةِ الحِلمِ) [2226] أخرجه عبد الرزاق (20214)، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (2789) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/188). .
فائِدةٌ:
قال ابنُ الحاجِّ: (مِن آكَدِ ما على الطَّبيبِ حينَ جُلوسِه عِندَ المَريضِ أن يَتَأنَّى عليه بَعدَ سُؤالِه له حتَّى يُخبرَه المَريضُ بحالِه، ثُمَّ يُعيدَ عليه السُّؤالَ؛ لأنَّ المَريضَ رُبَّما تَعذَّر عليه الإخبارُ بما هو فيه؛ لجَهلِه به أو لشَغلِه بقوَّةِ ألَمِه، وإن كان الطَّبيبُ عارِفًا بالمَرَضِ الذي هو فيه أكثَرَ مِنه، فيَتَأنَّى عليه مَعَ ذلك.
وذلك بخِلافِ ما يَفعَلُه أكثَرُ الأطِبَّاءِ في هذا الزَّمانِ؛ فإنَّهم لا يُمهِلونَ على المَريضِ حتَّى يَفرُغَ مِن ذِكرِ حالِه له، بَل عِندَ ما يَشرَعُ في ذِكرِ حالِه يُجيبُ الطَّبيبُ ويَكتُبُ، والمَريضُ بَعدُ لم يَفرُغْ مِن ذِكرِ حالِه له! ثُمَّ إنَّ بَعضَهم يَزعُمُ برَأيِه أنَّ هذا مِن قوَّةِ المَعرِفةِ والحَذقِ وكثرةِ الدِّرايةِ بالصِّناعةِ!
ولا شَكَّ أنَّ العَجَلةَ في حَقِّ غيرِ الطَّبيبِ قَبيحةٌ لمُخالفتِها لآدابِ السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ، فكيف بها في حَقِّ الطَّبيبِ؟! فيَتَعيَّنُ عليه أن يَسمَعَ كلامَ المَريضِ إلى آخِرِه؛ فلعَلَّ آخِرَه يَنقُضُ أوَّلَه أو بَعضَه، ولرُبَّما غَلِطَ المَريضُ في ذِكرِ حالِه، أو عَجَز عَنِ التَّعبيرِ عَنه، فإذا كان الطَّبيبُ مِمَّن يَتَأنَّى على المَريضِ ويُعيدُ عليه السُّؤالَ برِفقٍ وتَلطُّفٍ، أمِنَ مِنَ الغَلطِ؛ فإنَّ الغَلطَ في هذا خَطَرٌ؛ إذ إنَّه قَد لا يُمكِنُ تَدارُكُه، وأصلُ الطِّبِّ كُلِّه والمَقصودُ مِنه مَعرِفةُ المَرَضِ، فإذا عُرِف المَرَضُ سَهُل تَداويه في الغالِبِ؛ فلأجلِ هذا المَعنى يَتَعيَّنُ على الطَّبيبِ التَّرَبُّصُ والتَّأنِّي لعَلَّه يَعرِفُ المَرَضَ على حَقيقَتِه دونَ تَخمينٍ...
ويَنبَغي للطَّبيبِ أن يَسألَ مَن يَخدُمُ المَريضَ، ولا يَقتَصِرَ على قَولِ المَريضِ وَحدَه؛ لأنَّ المُعالجَ رُبَّما عَرَف ما بالمَريضِ أكثَرَ مِنه أو مِثلَه، فيَحصُلُ بسَبَبِه مِنَ الكشفِ والتَّثَبُّتِ ما يَقرُبُ مِنَ اليَقينِ بمَعرِفةِ المَرَضِ) [2227] ((المدخل)) (4/ 135-137). .

انظر أيضا: