موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: حُسنُ اختيارِ الخادِمِ


يَنبَغي للمُسلمِ أن يُحسِنَ اختيارَ خادِمِه، ويُراعيَ عِندَ اختيارِه الدِّينَ والقوَّةَ والأمانةَ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26] .
يَعني: خيرُ الأُجَراءِ مَن يَكونُ قَويًّا في العَمَلِ، أمينًا على المالِ والعَورةِ [2321] ((بحر العلوم)) للسمرقندي (2/ 605). .
قال الرَّسْعَنيُّ: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتَّخِذْه أجيرًا على الغَنَمِ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ كلامٌ جامِعٌ للمَقصودِ؛ لأنَّ مَنِ اجتَمَعَت فيه الكفاءةُ والأمانةُ جَديرٌ بتَفويضِ الأشغالِ إليه، والتَّعويلِ في النُّهوضِ بأعبائِها عليه) [2322] ((رموز الكنوز)) (5/ 529). .
وقال السَّعديُّ: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي: إنَّ موسى أَولى مَنِ استُؤجِرَ؛ فإنَّه جَمعَ القوَّةَ والأمانةَ، وخيرُ أجيرٍ استُؤجِرَ مَن جَمَعَهما -أي: القوَّةَ والقُدرةَ على ما استُؤجِرَ عليه، والأمانةَ فيه بعَدَمِ الخيانةِ- وهذانِ الوصفانِ يَنبَغي اعتِبارُهما في كُلِّ مَن يَتَولَّى للإنسانِ عَمَلًا بإجارةٍ أو غيرِها؛ فإنَّ الخَلَلَ لا يَكونُ إلَّا بفَقدِهما أو فَقدِ إحداهما، وأمَّا باجتِماعِهما فإنَّ العَمَلَ يَتِمُّ ويَكمُلُ) [2323] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 614). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه؛ الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ في أهلِه وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زَوجِها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِها، والخادِمُ راعٍ في مالِ سيِّدِه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه)) [2324] أخرجه البخاري (893) واللفظ له، ومسلم (1829). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ساعةٍ لا يَخرُجُ فيها ولا يَلقاه فيها أحَدٌ، فأتاه أبو بَكرٍ، فقال: ما جاءَ بك يا أبا بَكرٍ؟ فقال: خَرَجتُ ألقى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنظُرُ في وَجهِه والتَّسليمَ عليه، فلم يَلبَثْ أن جاءَ عُمَرُ، فقال: ما جاءَ بك يا عُمَرُ؟ قال: الجوعُ يا رَسولَ اللهِ! قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وأنا قَد وجَدتُ بَعضَ ذلك، فانطَلقوا إلى مَنزِلِ أبي الهَيثَمِ بنِ التَّيِّهانِ الأنصاريِّ، وكان رَجُلًا كثيرَ النَّخلِ والشَّاءِ، ولم يَكُنْ له خَدَمٌ، فلم يَجِدوه، فقالوا لامرَأتِه: أينَ صاحِبُكِ؟ فقالت: انطَلقَ يَستَعذِبُ لنا الماءَ [2325] أي: يَستَسقي لنا ماءً عَذبًا مِن بئرٍ ثُمَّ يَأتينا به. يُنظر: ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 547). ، فلم يَلبَثوا أن جاءَ أبو الهيثَمِ بقِربةٍ يَزعَبُها [2326] أي: يَتَدافعُ بها ويَحمِلُها لثِقلِها. وقيل: زَعَبَ بحَملِه: إذا استَقامَ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 482)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 302). ، فوضَعَها ثُمَّ جاءَ يَلتَزِمُ [2327] يلتَزِمُ: أي: يعانِقُ. يُنظر: ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 547)، ((جمع الوسائل)) للقاري (2/ 191). النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُفَدِّيه بأبيه وأمِّه [2328] يُفَدِّيه بأبيه وأمِّه: أي: يقولُ: فِداك أبي وأمي. يُنظر: ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 547)، ((جمع الوسائل)) للقاري (2/ 191). ، ثُمَّ انطَلقَ بهم إلى حَديقَتِه فبَسَط لهم بساطًا، ثُمَّ انطَلقَ إلى نَخلةٍ فجاءَ بقِنوٍ [2329] القِنوُ: العِثكالُ بما عَليه مِنَ الثَّمَرِ، والعِثْكالُ: العِذقُ مِن أعذاقِ النَّخلِ الذي يَكونُ فيه الرُّطبُ، وكُلُّ غُصنٍ مِن أغصانِه شِمراخٌ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 482)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 500) و(3/ 183). فوضَعَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفلا تَنَقَّيتَ لنا مِن رُطَبِه؟ فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أرَدتُ أن تَختاروا، أو قال: تَخيَّروا مِن رُطَبِه وبُسرِه، فأكَلوا وشَرِبوا مِن ذلك الماءِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا والذي نَفسي بيَدِه مِنَ النَّعيمِ الذي تُسألونَ عنه يَومَ القيامةِ: ظِلٌّ بارِدٌ، ورُطَبٌ طيِّبٌ، وماءٌ بارِدٌ! فانطَلقَ أبو الهيثَمِ ليَصنَعَ لهم طَعامًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَذبَحنَّ ذاتَ دَرٍّ [2330] ذاتَ دَرٍّ: أي: ذاتَ لَبَنٍ، وهيَ الحَلوبُ أيضًا. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 694). ، قال: فذَبَحَ لهم عَناقًا [2331] العَناقُ: الأُنثى مِن وَلَدِ المَعزِ، وقيل: هيَ أُنثى المَعزِ لها أربَعةُ أشهُرٍ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 694)، ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 549). أو جَدْيًا فأتاهم بها فأكلوا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل لك خادِمٌ؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سَبيٌ فأْتِنا، فأُتِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَأسينِ ليسَ مَعَهما ثالِثٌ، فأتاه أبو الهيثَمِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اختَرْ مِنهما، فقال: يا نَبيَّ اللهِ اختَرْ لي، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ المُستَشارَ مُؤتَمَنٌ، خُذْ هذا؛ فإنِّي رَأيتُه يُصَلِّي، واستَوصِ به مَعروفًا.
فانطَلقَ أبو الهيثَمِ إلى امرَأتِه فأخبَرَها بقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالتِ امرَأتُه: ما أنتَ ببالغٍ ما قال فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا أن تُعتِقَه! قال: فهو عَتيقٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ لم يَبعَثْ نَبيًّا ولا خَليفةً إلَّا وله بطانَتانِ: بطانةٌ تَأمُرُه بالمَعروفِ وتَنهاه عَنِ المُنكَرِ، وبطانةٌ لا تَألوه خَبالًا [2332] لا تَألوه خَبالًا: أي لا تُقَصِّرُ في إفسادِ أمرِه وحالِه، والمَشورةِ عليه بما يَضُرُّه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 694)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 63) و (2/ 8). ، ومَن يوقَ بِطانةَ السُّوءِ فقَد وُقيَ))
[2333] أخرجه الترمذي (2369) واللفظ له، والحاكم (7178)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4604). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2369)، وقال التِّرمِذيُّ: حَسَنٌ صَحيحٌ غَريبٌ، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (7374) وقال: على شرط الشيخين، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (36/477). وحَديثُ: ((المُستَشارُ مُؤتَمَنٌ)) أخرجه أبو داود (5128)، والترمذي (2822)، وابن ماجه (3745). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5128)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1419)، وحَسَّنه الترمذي، وقال ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (6/157): لا بَأسَ بإسنادِه، فهو صَحيحٌ وهو جيِّدٌ. .
فوائدُ:
1- (كيف لا نُحسِنُ اختيارَ الخادِمِ وهو يَطَّلعُ على ما في البيتِ ويَعيشُ كأحَدِ أفرادِه، يَتَنَقَّلُ هنا وهناك، ويَبيتُ مَعَ الأفرادِ؟! ولهذا رَأينا رَبَّ الأرضِ والسَّمَواتِ وهو يُنَسِّقُ لنا حياتَنا في الآدابِ اليَوميَّةِ الصَّغيرةِ يُبيِّنُ أحكامَ الاستِئذانِ في داخِلِ البُيوتِ؛ فالخَدَمُ والأطفالُ المُميِّزونَ الذينَ لم يَبلُغوا الحُلُمَ يَدخُلونَ بلا استِئذانٍ إلَّا في ثَلاثةِ أوقاتٍ تَنكشِفُ فيها العَوراتُ عادةً، فهم يَستَأذِنونَ فيها، وهي: قَبلَ صَلاةِ الفَجرِ حيثُ يَكونُ المَخدومُ وأسرَتُه في مَلابسِ النَّومِ، ووقتَ الظَّهيرةِ عِندَ القيلولةِ؛ حيثُ يَخلعونَ مَلابسَهم عادةً، وبَعدَ صَلاةِ العِشاءِ؛ لأنَّهم يَرتَدونَ ثيابَ اللَّيلِ، ففي هذه الأوقاتِ الثَّلاثةِ لا بُدَّ أن يَستَأذِنَ الخَدَمُ؛ كي لا تَقَعَ أنظارُهم على عَوراتِ المَخدومينَ، وهو أدَبٌ يُغفِلُه الكثيرونَ في حياتِهمُ المَنزِليَّةِ، مُستَهينينَ بآثارِه النَّفسيَّةِ والخُلُقيَّةِ، ظانِّينَ أنَّ الخَدَمَ لا تَمتَدُّ أعيُنُهم إلى عَوراتِ ساداتِهم!
وقد قَرَّرَ عُلماءُ النَّفسِ أنَّ لتلك العَوراتِ وعَدَمِ الاهتِمامِ بالمُحافظةِ عليها آثارَها النَّفسيَّةَ في حياةِ الخَدَمِ، وما أكثَرَ المَشاكِلَ في ذلك الأمرِ مِن فسادٍ وإفسادٍ بينَ الخادِمِ وأسرةِ المَخدومِ!
والعليمُ الخَبيرُ يَضَعُ هذا الأدَبَ لتَبقى الأسرةُ مُهَذَّبةً في مَشاعِرِها، طاهِرةً في قُلوبِها، نَظيفةً في تَصَوُّراتِها، سَليمةً في أعصابِها وفي صَدرِها، والخادِمُ أمينَ سِرِّها.
وتَخصيصُ هذه الأوقاتِ دونَ غيرِها؛ لأنَّها مَظِنَّةُ انكِشافِ العَوراتِ، ولا يُجعَلُ الاستِئذانُ مِنَ الخَدَمِ في كُلِّ حينٍ مَنعًا للحَرَجِ؛ فهم كثيرو الدُّخولِ والخُروجِ بحُكمِ قيامِهم بالخِدمةِ، قال تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور: 58] .
ذلك بينَ المُسلِمينَ، فما بالُنا بالخَدَمِ المُستَورَدينَ مِن غيرِ المُسلِمينَ؟!) [2334] ((معاملة الخدم في الإسلام)) لمحمد علي (ص: 28). .
2- (لا شَكَّ أنَّ كَثرةَ الخَدَمِ والسَّائِقينَ والعُمَّالِ بَينَ المُسلمينَ وفي بُيوتِهم وبَينَ أُسَرِهم وأولادِهم له نَتائِجُ خَطيرةٌ وعَواقِبُ وخيمةٌ لا تَخفى على عاقِلٍ، وأنا لا أُحصي مَن يَتَذَمَّرُ ويَتَضَجَّرُ مِنهم وما يَحصُلُ مِن بَعضِهم مِنَ المُخالفاتِ للقيَمِ والأخلاقِ الإسلاميَّةِ، وقد تَمادى النَّاسُ وتَساهَلوا في جَلبِهم مِنَ الخارِجِ وتَمكينِهم مِن بَعضِ الأعمالِ، وأخطَرُها الخَلوةُ بالنِّساءِ، والسَّفَرُ بهنَّ إلى مَكانٍ بَعيدٍ أو قَريبٍ، ودُخولُهمُ البُيوتَ واختِلاطُهم بالنِّساءِ، هذا بالنِّسبةِ إلى السَّائِقينَ والخَدَمِ، أمَّا الخادِماتُ فلا يَقِلُّ خَطَرُهنَّ عن أولئِكَ بسَبَبِ اختِلاطِهنَّ بالرِّجالِ، وعَدَمِ التِزامِهنَّ بالحِجابِ والتَّسَتُّرِ، وخَلوتِهنَّ بالرَّجُلِ داخِلَ البُيوتِ، ورُبَّما تَكونُ شابَّةً وجَميلةً، وقد تَكونُ غَيرَ عَفيفةٍ؛ لِما اعتادَته في بلادِها مِنَ الحُرِّيَّةِ المُطلَقةِ والسُّفورِ، ودُخولِ أماكِنِ العُهرِ والدَّعارةِ، وما ألِفَته مِن عِشقِ الصُّورِ ومُشاهَدةِ الأفلامِ الخَليعةِ، يُضافُ إلى ذلك ما يَتَّصِفُ به بَعضُهنَّ مِنَ الأفكارِ المُنحَرِفةِ والمَذاهِبِ الضَّالَّةِ، والأزياءِ المُخالِفةِ لتَعاليمِ الإسلامِ) [2335] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (4/ 392). بتصرفٍ يسيرٍ. .

انظر أيضا: