موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: عَدَمُ تَكليفِه ما لا يُطيقُ


يَحرُمُ تَكليفُ الحيَوانِ فوقَ ما يُطيقُ [2647] قال السَّخاويُّ: (لا شَكَّ في تَحريمِ تَكليفِها ما لا طاقةَ لها به مِن حَملٍ وسيرٍ، والضَّربُ حينَئِذٍ بسَبَبِ ذلك حَرامٌ، وقد ورَدَ أنَّه يُقَصُّ للشَّاةِ الجَلحاءِ -يَعني: التي لا قَرنَ لها- مِنَ القُرَناءِ، فالقِصاصُ هنا مِن بابِ أَولى). ((تحرير الجواب عن مسألة ضرب الدواب)) (ص: 40، 41). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن سَهلِ بنِ الحَنظَليَّةِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((مَرَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَعيرٍ قَد لحِقَ ظَهرُه ببَطنِه، فقال: اتَّقوا اللَّهَ في هذه البَهائِمِ المُعجَمةِ [2648] سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها لا تَتَكلَّمُ فتَشكو ما أصابَها مِنَ الجوعِ والمَشَقَّةِ، وكُلُّ مَن لا يَقدِرُ على الكلامِ فهو أعجَميٌّ ومُستَعجمٌ. يُنظر: ((سنن أبي داود)) لابن رسلان (11/ 208). ، فاركَبوها صالحةً، وكُلوها صالحةً)) [2649] أخرجه أبو داود (2548) واللفظ له، وأحمد (17625). صحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (2545)، وابن حبان في ((صحيحه)) (545)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2548)، وقال ابنُ القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/347): حسنٌ أو صحيحٌ. .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ جعفَرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أردَفَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَلْفَه ذاتَ يَومٍ، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أُحَدِّثُ به أحدًا مِنَ النَّاسِ، وكان أحبَّ ما استتر به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحاجتِهِ هَدَفٌ أو حائِشُ نخلٍ [2650] قال الخَطَّابيُّ: (الهَدَفُ: كُلُّ ما كان له شَخصٌ مُرتَفِعٌ مِن بناءٍ وغيرِه، وقد استَهدَف لك الشَّيءُ: إذا قامَ وانتَصَبَ لك. والحائِشُ: جَماعةُ النَّخلِ الصِّغارِ لا واحِدَ له مِن لفظِه). ((معالم السنن)) (2/ 248). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (حائِشُ النَّخلِ: ما اجتَمَعَ مِنها والتَفَّ). ((كشف المشكل)) (4/ 12). ، قال: فدخلَ حائطًا لرجلٍ من الأنصارِ فإذا جمَلٌ، فلمَّا رأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حنَّ وذرَفَت عيناه، فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمَسَح ذِفْراه [2651] قال الخَطَّابيُّ: (الذِّفرى مِنَ البَعيرِ: مُؤَخَّرُ رَأسِه، وهو المَوضِعُ الذي يَعرَقُ مِن قَفاه). ((معالم السنن)) (2/ 248). فسكَت، فقال: مَن رَبُّ هذا الجَمَلِ؟ لِمَن هذا الجَمَلُ؟ فجاء فتًى من الأنصارِ، فقال: لي يا رَسولَ اللهِ. فقال: أفلا تتَّقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي ملَّكَك اللهُ إيَّاها؟ فإنَّه شكى إليَّ أنَّك تُجيعُه وتُدْئِبُه [2652] تُدئِبُه: تَكُدُّه وتُتعِبُه. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 248). ) [2653] أخرجه أبو داود (2549) واللفظ له، وأحمد (1745). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (1412)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2549)، والوادعي على شرط مسلم في ((صحيح دلائل النبوة)) (559)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (2485)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/189)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1745). والحَديثُ أصلُه في صَحيح مسلمٍ (342) مُختَصرًا. .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الصُّبحِ، ثُمَّ أقبَل على النَّاسِ، فقال: بينا رَجُلٌ يَسوقُ بَقَرةً إذ رَكِبَها فضَرَبَها، فقالت: إنَّا لم نُخلَقْ لهذا، إنَّما خُلِقنا للحَرثِ! فقال النَّاسُ: سُبحانَ اللَّهِ! بَقَرةٌ تَكَلَّمُ! فقال: فإنِّي أومِنُ بهذا أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ -وما هما ثَمَّ-. وبينَما رَجُلٌ في غَنَمِه إذ عَدا الذِّئبُ فذَهَبَ مِنها بشاةٍ، فطُلِب حتَّى كأنَّه استَنقَذَها مِنه، فقال له الذِّئبُ هذا: استَنقَذتَها مِنِّي، فمَن لها يَومَ السَّبُعِ، يَوم لا راعيَ لها غيري؟! فقال النَّاسُ: سُبحانَ اللَّهِ! ذِئبٌ يَتَكلَّمُ! قال: فإنِّي أومِنُ بهذا أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ -وما هما ثَمَّ-)) [2654] أخرجه البخاري (3471) واللفظ له، ومسلم (2388). .
4- عن المَعرورِ بنِ سُوَيدٍ قال: مرَرْنا بأبي ذَرٍّ بالرَّبَذةِ وعليه بُردٌ، وعلى غُلامِه مِثلُه، فقلْنا: يا أبا ذَرٍّ، لو جمعْتَ بَينَهما كانت حُلَّةً! فقال: إنَّه كان بَيني وبَينَ رجُلٍ مِن إخواني كلامٌ، وكانت أمُّه أعجَميَّةً، فعيَّرْتُه بأمِّه، فشكاني إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَقيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((يا أبا ذَرٍّ، إنَّك امرُؤٌ فيك جاهِليَّةٌ! قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، مَن سبَّ الرِّجالَ سبُّوا أباه وأمَّه! قال: يا أبا ذَرٍّ، إنَّك امرُؤٌ فيك جاهِليَّةٌ! هم إخوانُكم، جعَلهم اللهُ تحتَ أيديكم، فأطعِموهم ممَّا تأكُلونَ، وألبِسوهم ممَّا تلبَسونَ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم؛ فإن كلَّفْتُموهم فأعينوهم)) [2655] أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661) واللفظ له. .
قال ابنُ المُلقِّنِ: (فيه النَّهيُ عن سَبِّ العَبيدِ وتعييرِهم بوالِديهم، والحَثُّ على الإحسانِ إليهم، والرِّفقِ بهم، فلا يَجوزُ لأحَدٍ تَعييرُ أحَدٍ بشيءٍ مِنَ المَكروهِ يَعرِفُه في آبائِه وخاصَّةِ نَفسِه، كما نُهيَ عَنِ الفَخرِ بالآباءِ، ويَلحَقُ بالعَبدِ مَن في مَعناه مِن أجيرٍ وخادِمٍ وضَعيفٍ، وكذا الدَّوابُّ، يَنبَغي أن يُحسِنَ إليها، ولا تُكلَّفُ مِنَ العَمَلِ ما لا تُطيقُ الدَّوامَ عليه، فإن كَلَّفه ذلك لزِمَه إعانَتُه عليه بنَفسِه أو بغَيرِه) [2656] ((التوضيح)) (3/ 30). .
ب- مِنَ الآثارِ
1- عنِ المُسيِّبِ بنِ دارِمٍ، قال: (رَأيتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ ضَرَبَ جَمَّالًا، وقال: لمَ تَحمِلُ على بَعيرِك ما لا يُطيقُ؟!) [2657] أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8774)، والخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص24)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/191). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/67): إسنادُه صحيحٌ إلى المُسَيِّبِ بنِ دارٍ. .
2- عن مُعاويةَ بنِ قُرَّةَ، قال: (كان لأبي الدَّرداءِ جَمَلٌ يُقالُ له: "دَمونُ"، فكان إذا استَعاروه مِنه قال: لا تَحمِلوا عليه إلَّا كذا وكذا؛ فإنَّه لا يُطيقُ أكثَرَ مِن ذلك، فلمَّا حَضَرَته الوفاةُ قال: يا دَمونُ، لا تُخاصِمْني غَدًا عِندَ رَبِّي؛ فإنِّي لم أكُنْ أحمِلُ عليك إلَّا ما تُطيقُ) [2658] أخرجه أبو الحسن الإخميمي في ((حديثه)) (1/63) كما في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/29)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/185). .

انظر أيضا: