سابعَ عَشَرَ: تَركُ المُغالاةِ في بناءِ المَساجِدِ وعَدَمُ التَّباهي بها
مِن أدَبِ المَساجِدِ: عَدَمُ التَّباهي ببنائِها وما تَشتَمِلُ عليه، وتَركُ المُغالاةِ في زَخرَفتِها
[476] قال البُخاريُّ: (بابُ بُنيانِ المَسجِدِ. وقال أبو سَعيدٍ: «كان سَقفُ المَسجِدِ مِن جَريدِ النَّخلِ». وأمَر عُمَرُ ببناءِ المَسجِدِ، وقال: «أكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وإيَّاكَ أن تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ فتَفتِنَ النَّاسَ». وقال أنَسٌ: «يَتَباهَونَ بها ثُمَّ لا يَعمُرونَها إلَّا قَليلًا». وقال ابنُ عبَّاسٍ: «لتُزَخرِفُنَّها كَما زَخرَفتِ اليَهودُ والنَّصارى»). ((صحيح البخاري)) (1/ 96، 97). وقال ابنُ بَطَّالٍ بَعدَ ذِكرِه عِدَّةَ آثارٍ: (هذه الآثارُ مَعَ ما ذَكَرَ البخاريُّ في هذا البابِ تَدُلُّ أنَّ السُّنَّةَ في بُنيانِ المَساجِدِ: القَصدُ، وتَركُ الغُلوِّ في تَشييدِها خَشيةَ الفِتنةِ والمُباهاةِ ببنائِها؛ ألَا تَرى أنَّ عُمَرَ قال للذي أمَره ببناءِ المَسجِدِ: "أكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وإيَّاكَ أن تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ فتَفتِنَ النَّاسَ"؟ ويُمكِنُ أن يَفهَمَ هذا عُمَرُ من رَدِّ الرَّسولِ الخَميصةَ إلى أبي جَهمٍ حينَ نَظَرَ إلى أعلامِها في الصَّلاةِ، وقال: «أخافُ أن تَفتِنَني». وكان عُمَرُ قد فتَحَ اللهُ الدُّنيا في أيَّامِه ومَكَّنَه مِنَ المالِ، فلم يُغَيِّرِ المَسجِدَ عن بُنيانِه الذي كان عليه في عَهدِ النَّبيِّ، ثُمَّ جاءَ الأمرُ إلى عُثمانَ، والمالُ في زَمانِه أكثَرُ، فلم يَزِدْ أن جَعَل في مَكانِ اللَّبِنِ حِجارةً وقَصَّةً، وسَقَفَه بالسَّاجِ مَكانَ الجَريدِ، فلم يُقَصِّرْ هو وعُمَرُ عنِ البُلوغِ في تَشييدِه إلى أبلغِ الغاياتِ إلَّا عن عِلمٍ مِنهما عنِ الرَّسولِ بكَراهةِ ذلك، وليُقتَدى بهما في الأخذِ مِنَ الدُّنيا بالقَصدِ والكِفايةِ، والزُّهدِ في مَعالي أُمورِها، وإيثارِ البُلغةِ مِنها). ((شرح صحيح البخاري)) (2/ 97، 98). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1-عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَتَباهى النَّاسُ في المَساجِدِ)) [477] أخرجه ابن حبان (1613). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6816)، وصَحَّحَ إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (1613). .
وفي رِوايةٍ:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يَتَباهى النَّاسُ في المَساجِدِ)) [478] أخرجها أبو داود (449)، وابن ماجه (739)، وأحمد (12379). صَحَّحها ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (2/464)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1614)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/305)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (114)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (449). .
وفي رِوايةٍ:
((مِن أشراطِ السَّاعةِ: أن يَتَباهى النَّاسُ في المَساجِدِ)) [479] أخرجها النسائي (689) واللفظ له، وابن خزيمة (1322). صححها ابن خزيمة، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (689)، وصحح إسنادها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (465). .
قال المظهَريُّ: (الأشراطُ: جَمعُ شَرَطٍ، وهو: العَلامةُ. «أن يَتَباهى» أي: يَتَفاخَرَ، يَعني: مِن عَلاماتِ القيامةِ أن يَتَفاخَرَ كُلُّ واحِدٍ بمَسجِدٍ، ويَقولَ: مَسجِدي أرفَعُ وأكثَرُ زينةً مِن مَسجِدِ فُلانٍ!)
[480] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 74). .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما أُمِرتُ بتَشييدِ المَساجِدِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لتُزَخرِفُنَّها كَما زَخرَفَتها اليَهودُ والنَّصارى)) [481] أخرجه أبو داود (448)، وابن حبان (1615) واللفظ لهما، والطبراني (12/243) (13003) مُختَصَرًا باختلافٍ يسيرٍ. وقَولُ ابنِ عبَّاسٍ أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قبل حديث (446). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (1615)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (448)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (600)، وصحح إسناده النووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/304) وقال: على شرط مسلم، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (5/531). .
(قَولُه: «ما أُمِرتُ بتَشييدِ المَساجِدِ» التَّشييدُ: جَعلُ الشَّيءِ رَفيعًا، والتَّشييدُ أيضًا: جَعلُ الشَّيءِ أبيَضَ بالجِصِّ، يَعني: ما أُمِرتُ أن أجعَلَ المَسجِدَ رَفيعًا مُبَيَّضًا بالجِصِّ؛ لأنَّهما زائِدانِ على قَدرِ الحاجةِ.
قَولُه: "لتُزَخرِفُنَّها"، أي: يَأتي عليكُم زَمانٌ تُزَيِّنونَ فيه المَساجِدَ بالنُّقوشِ وتُبَيِّضونَها بالجِصِّ، وتَتَفاخَرونَ بكَونِها رَفيعةً مُزَيَّنةً، وهذا بِدعةٌ لم يَفعَلْه رَسولُ اللهِ عليه السَّلامُ، ولأنَّه إتلافٌ للمالِ، ولأنَّه موافَقةٌ لليَهودِ والنَّصارى؛ فإنَّهم يُزَيِّنونَ بِيَعَهم وكَنائِسَهم)
[482] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 74). وقال ابنُ رَسلان: (هذا الحَديثُ فيه مُعجِزةٌ ظاهرةٌ لإخبارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَّا سَيَقَعُ بَعدَه، فإنَّ تَزويقَ المَساجِدِ والمُباهاةَ بزَخرَفتِها كَثُرَ مِنَ المُلوكِ والأُمَراءِ في هذا الزَّمانِ بالقاهرةِ، والشَّامِ، وبَيتِ المَقدِسِ، وغَيرِها، بأخذِهم أموالَ النَّاسِ ظُلمًا وعُدوانًا، وعِمارَتِهم بها المَدارِسَ على شَكلٍ بَديعٍ، فنَسألُ اللَّهَ السَّلامةَ والعافيةَ). ((شَرح سُنَنِ أبي داود)) (3/ 258). .
وقال البَغَويُّ: (المُرادُ مِنَ التَّشييدِ: رَفعُ البناءِ وتَطويلُه، ومِنه قَولُه سُبحانَه وتعالى:
فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ، وهيَ التي طُوِّل بناؤُها، يُقالُ: شادَ الرَّجُلُ بناءَه يَشيدُه، وشَيَّدَه يُشَيِّدُه، وقيل: البُروجُ المُشَيَّدةُ: الحُصونُ المُجَصَّصةُ، والشِّيدُ: الجِصُّ.
وأمَرَ عُمَرُ ببناءِ مَسجِدٍ، وقال: أكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وإيَّاكَ أن تُحَمِّرَ وتَصَفِّرَ، فتَفتِنَ النَّاسَ.
ورُوِيَ أنَّ عُثمانَ رَأى أُترُجَّةً مِن جِصٍّ مُعَلَّقةً في المَسجِدِ، فأمَرَ بها فقُطِعَت.
وكان المَسجِدُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَبنيًّا باللَّبِنِ، وسَقفُه الجَريدُ، وعُمُدُه خَشَبُ النَّخلِ، فلم يَزِدْ فيه أبو بَكرٍ شَيئًا، وزاد فيه عُمَرُ، وبَناه على بُنيانِه في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باللَّبِنِ والجَريدِ، وأعادَ عُمُدَه خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَه عُثمانُ، فزادَ فيه زيادةً كَثيرةً، وبَنى جِدارَه بالحِجارةِ المَنقوشةِ والقَصَّةِ، وجَعَل عُمُدَه مِن حِجارةٍ مَنقوشةٍ، وسَقَفَه بالسَّاجِ.
قُلتُ: لعَلَّ الذي كَرِهَ مِنه الصَّحابةُ هذا، ولا يَجوزُ تَنقيشُ المَساجِدِ بما لا إحكامَ فيه.
وقَولُ ابنِ عبَّاسٍ: "لتُزَخرِفُنَّها كَما زَخرَفَتِ اليَهودُ والنَّصارى" مَعناه: أنَّ اليَهودَ والنَّصارى إنَّما زَخرَفوا المَساجِدَ عِندَما حَرَّفوا وبَدَّلوا أمرَ دينِهم، وأنتُم تَصيرونَ إلى مِثلِ حالِهم، وسَيَصيرُ أمرُكُم إلى المُراءاتِ بالمَساجِدِ، والمُباهاةِ بتَشييدِها وتَزيينِها.
قال أبو الدَّرداءِ: إذا حَلَّيتُم مَصاحِفَكُم، وزَوَّقتُم مَساجِدَكُم، فالدَّمارُ عليكُم)
[483] ((شرح السنة)) (2/ 349، 350). .